جهود الصحابة رضي الله عنهم في تدوين السنة - أبو عاصم البركاتي المصري

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعدُ:
 
ففي البدء أقول: إن تدوين العلم ليس بدعًا من الفعل، ولا غريبًا من الأمر، بل هو من الواجبات إذا قامت الضرورة بذلك، أو ترجَّح جانب المصلحة، وقد كان العرب يكتُبون القصائد والمعلَّقات، وينشرُونها على جُدْران الكعبة تكريمًا لديوان العرب آنذاك، وهو الشِّعْر، ولَمَّا نزل الوحي وجاءت النبوة، إذ بالصحابة رضي الله عنهم يكتبون القرآن خلف قراءة رسول الله وتلاوته، وبلغ عدد الكُتَّاب زُهاءَ أربعين كاتبًا.
 
 
 
ثم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه أشار عمر عليه بجَمْع القرآن في مصحف واحد؛ وذلك للحِفاظ عليه، لا سيَّما أن القُرَّاء ينقرضون بالموت مع مرور السنوات؛ ونسوق رواية الإمام البخاري في هذا الصَّدَد، فقد أخرج بسنده إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: أرسل إليَّ أبو بكر مَقْتَلَ أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إنَّ عُمَر أتاني فقال: إنَّ القَتْل قد استَحَرَّ يومَ اليمامة بقُرَّاء القُرآنِ، وإنِّي أخْشَى أن يستَحِرَّ القَتْلُ بالقُرَّاء بالمواطِن، فيذهَب كثيرٌ من القُرآن، وإنِّي أرى أن تأمُرَ بجَمْع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعلْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عُمَر: هذا والله خيرٌ، فلم يَزَلْ عُمَر يُراجِعُني حتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْري لذلك، ورأيْتُ في ذلك الذي رأى عُمَرُ، قال زيدٌ: قال أبو بكر: إنك رجلٌ شابٌّ عاقِلٌ، لا نتَّهِمُكَ، وقد كنت تكتُب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَتَتَبَّع القرآن فاجمَعْه، فوالله لو كلَّفُوني نَقْلَ جَبَلٍ من الجبال ما كان أثْقَلَ عليَّ ممَّا أمرني به من جَمْعِ القُرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعلْه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خيرٌ، فلم يزل أبو بكر يُراجِعُني حتى شَرَحَ اللهُ صَدْري للذي شَرَحَ له صدْرَ أبي بكر وعُمَرَ رضي الله عنهما، فَتَتَبَّعْتُ القُرآن أجمعُه من العُسُب واللِّخاف، وصُدُور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحدٍ غيره، ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصُّحُف عند أبي بكر حتى توفَّاه الله، ثم عند عُمَر حياتَه، ثم عند حَفْصة بنت عمر رضي الله عنه".
 
 
 
الصحابة وتدوين الحديث:
 
كان الصحابة يعتمدون في الأساس على حِفْظِهم وجودةِ قرائحهم، وكان كثيرٌ منهم يحتاطُ من تدوين الحديث خشيةَ الاتِّكال على الكتابة، فيَضعُف الحِفْظُ؛ وكذا حتى لا ينشغل الناس بغير القرآن؛ قال إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصري (200 هـ): إن الصحابة إنما كرِهوا الكتابة؛ لأن من كان قبلكم اتَّخذُوا الكتبَ، فأُعجبوا بها، فكانوا يكرهون أن يشتغلوا عن القرآن.
 
 
 
وكما قال الخطيب البغدادي: "إن كراهةَ من كَرِهَ الكتابةَ من الصَّدْر الأوَّل، إنما هي لئلَّا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه"، ولكن هذا لم يمنع الكثيرَ منهم من تدوين بعض الأحاديث المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أذِنَ النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة حديثه، وقد ورد في ذلك:
 
(1) حديث أبي هريرة: "ما من الصحابة أحَدٌ أكثر حديثًا مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه يكتُب وأنا لا أكتُب"؛ [البخاري].
 
 
 
(2) وعنه أيضًا قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة إلى أن قال: ((اكتبُوا لأبى شاة))؛ [البخاري].
 
 
 
(3) حديث ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: ((ائتوني بكتابٍ أكتُبُ لكم كِتابًا لا تضلُّوا بَعْدَه))؛ [البخاري].
 
 
 
(4) حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: كنت أكتُب كلَّ شيء أسمَعُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اكتُب فوالذي نفسي بيده ما خرج منِّي إلا حقٌّ))؛ [أخرجه أحمد، والدارمي، وأبو داود].
 
 
 
(5) وأخرج الدارمي بسنده إلى عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: "بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتُب؛ إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتَينِ تُفتَح أولًا قسطنطينية أو رومية؟" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا، بل مدينة هرقل أولًا)).
 
 
 
صُحُف الصحابة الحديثيَّة:
 
(1) صحيفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيها فرائض الصَّدَقة:
 
روى البخاري بسنده إلى أنس بن مالك أن أبا بكر رضي الله عنه، كتب له هذا الكتاب لما وجَّهَه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضةُ الصَّدَقة التي فرَض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر اللهُ بها رسولَه؛ الحديث بطوله؛ [البخاري (1454)].
 
 
 
(2) صحيفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
 
فقد أخرج البخاري ومسلم من عدة طُرُق عن علي بن أبي طالب أنه خطب الناس، فقال: على مِنْبَرٍ من آجُرٍّ وعليه سيفٌ فيه صحيفةٌ مُعلَّقةٌ، فقال: والله ما عندنا من كتابٍ يُقْرأ إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فنَشَرَها، فإذا فيها أسنانُ الإبل، وإذا فيها: «المدينةُ حَرَمٌ من عَيْرٍ إلى كذا، فمن أحْدَث فيها حَدَثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يقبَلُ اللهُ منه صَرْفًا ولا عَدْلًا»، وإذا فيها: ((ذِمَّة المسلمين واحدةٌ، يسعى بها أدْناهُمْ، فمن أخْفَرَ مُسْلِمًا فعليه لعنةُ الله والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يقبَلُ الله منه صَرْفًا ولا عَدْلًا))، وإذا فيها: «مَنْ وَالَى قومًا بغير إذْنِ مَوَالِيه، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعين، لا يقبَل الله منه صَرْفًا ولا عَدْلًا))"؛ [البخاري (7300)، ومسلم (1370)]، وبوَّب البخاري: باب كتابة العلم.
 
 
 
(3) صحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص، المعروفة بالصحيفة الصادقة:
 
فأخرج الدارمي والخطيب البغدادي كلٌّ بسنده عن مجاهد قال: "أتيتُ عبدالله بن عمرو، فتناولت صحيفة مِن تحت مفرشه، فمنعي، قلت: ما كنت تمنعني شيئًا، قال: هذه الصادقة، هذه ما سمِعْتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه أحدٌ"؛ [الدارمي في سننه (513)، وتقييد العلم للخطيب البغدادي ص 84].
 
 
 
(4) صحيفة عبدالله بن أبي أوفى، ذكرها الإمام البخاري في كتاب الجهاد من "صحيحه"، باب الصبر عند القتال (2833).
 
 
 
(5) صحيفة أبي موسى الأشعري:
 
ذكرها الدكتور أكرم العمري في كتابه "بحوث في تاريخ السنة المشرَّفة"، ص: 228، وذكَر أنها موجودة في مكتبة شهيد علي بتركيا.
 
 
 
(6) منسك جابر بن عبدالله في صفة حَجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجَه مسلم في صحيحه.
 
 
 
(7) صحيفة سَمُرة بن جُنْدُب (60هـ)، كان قد جمع أحاديثَ كثيرة في نسخة كبيرة، ورِثَها ابنُه سليمانُ ورواها عنه، وهي التي يقول فيها ابن سيرين: في رسالة سَمُرة إلى بنيه عِلْمٌ كثيرٌ.
 
 
 
وأخرج خبرَها أبو داود في سُنَنِه (975) بإسناد ضعيف عن سليمان بن سمرة، عن سَمُرة بن جُنْدُب، أما بعد، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في وسط الصلاة، أو حين انقضائها، فابدؤوا قبل التسليم؛ فقولوا: ((التحيَّات الطيِّبات، والصلوات، والملك لله، ثم سلِّمُوا على اليمين، ثم سلِّمُوا على قارئكم، وعلى أنفسِكم)).
 
 
 
وأخرج النسائي في الكبرى (6913): أخبرنا نصر بن علي، قال: حدَّثنا خالد، قال: حدَّثنا سعيدٌ، عن قتادة، عن الحَسَن، عن سَمُرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((مَنْ قَتَل عَبْدَه قَتَلْناه، ومَنْ جَدَعَ عَبْدَه جَدَعْناه)).
 
 
 
قال أبو عبدالرحمن: الحسن، عن سمرة، قيل: إنه من الصحيفة غير مسموعة إلَّا حديث العقيقة، فإنه قيل للحسن: ممَّن سمِعْتَ حديث العقيقة؟ قال: من سَمُرة، وليس كل أهل العلم يُصَحِّح هذه الرِّواية، قوله: قلت للحسن: ممَّن سمِعت حديث العقيقة؟ ا هـ.
 
 
 
وقال أبو داود في سُنَنِه (1 /256): «دلَّتْ هذه الصحيفة على أن الحَسَن سمِعَ من سَمُرة».
 
قلت: والذي يعنينا إثبات صحيفة سَمُرة بن جُنْدُب رضي الله عنه.
 
 
 
(8) صحيفة أنس بن مالك:
فقد أخرج البيهقي بسنده في المدخل (757) إلى هبيرة بن عبدالرحمن، عن أنس بن مالك، قال: كان أنسٌ إذا حدَّث - فكَثَرَ الناسُ عليه الحديثَ - جاء بمجال له، فألقاها إليهم، ثم قال: «هذه أحاديثُ سمِعتُها وكتبْتُها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرضتُها عليه».
 
والمجال؛ أي: صحيفة، وهي ما يُطلَق عليه في عصرنا مجلة.
 
 
 
كتب الصحابة ورسائلهم بالحديث:
 
كتب بألسنة الصحابة بعضهم إلى بعض، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
 
(1) كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعتبة بن فرقد بعض السنن؛ [أخرجه البخاري ومسلم].
 
 
 
(2) كتب أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه بعضَ الأحاديث النبوية، وقضاء أبي بكر وعمر وعثمان، وأرسله إلى مروان بن الحكم؛ [انظر: مسند الإمام أحمد 4 / 226].
 
 
 
(3) كتب جابرُ بن سَمُرة رضي الله عنه بعضَ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث بها إلى عامر بن سعد بن أبي وقَّاص بِناءً على طلبه ذلك منه؛ [أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة ح 10 برقم (1822)، والإمام أحمد في المسند 5 / 89].
 
 
 
(4) كتب زيد بن أرقم رضي الله عنه بعض الأحاديث النبوية، وأرسل بها إلى أنس بن مالك رضي الله عنه؛ [انظر: مسند الإمام أحمد 4 / 370، 374، وتهذيب التهذيب لابن حجر 3 / 394].
 
 
 
(5) كتب زيد بن ثابت في أمر الجدِّ إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بِناءً على طَلَب عمر نفسه [سنن الدارقطني 4 /93 – 94].
 
 
 
(6) جمع سَمُرة بن جُنْدُب ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث به إلى ابنه سليمان، وقد أثنى الإمام محمد بن سيرين على هذه الرسالة، فقال: "في رسالة سَمُرة إلى ابنه عِلْمٌ كثير"؛ [أُسْد الغابة في معرفة الصحابة؛ لابن الأثير (ج2/ 355)].
 
 
 
(7) كتب عبدالله بن أبي أوْفَى بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن عبيدالله؛ [أخرجه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه، الباب 22، ومسلم في الجهاد أيضًا ح 20].
 
والله تعالى من وراء القصد.