كيف انتشر الاسلام في غرب أفريقيا ؟

( أ ) الإرهاصات الأولى:

ظهرت الدعوة الإسلامية في بداية القرن السابع الميلادي بقلب الجزيرة العربية في فترة من التاريخ كانت البشرية فيها بأمس الحاجة إلى رسالة من السماء تنقذ المجتمعات من الانهيار، وتصفي القلوب من شوائب الشرك، وتوجه العقول نحو عقيدة الوحدانية، وكانت الأقطار الأفريقية بعيدة كل البعد عن الحركة الدينية الجديدة، اللهم إلا ما كان من هجرة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم إلى الحبشة (إثيوبيا اليوم ) بإيعاز من رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه "(10).

وقام بعض الصحابة رضوان الله عليهم بهجرتين إلى الحبشة، وهما هجرتان لم تخلفا أثرًا ذا بال على المجتمع الحبشي، لأن المهاجرين ـ لأسباب خاصة ـ كانوا يعتبرون لاجئين سياسيين، كما في مصطلحات العصر الحديث، فلم تكن هجرتهم من موطنهم نتيجة اقتراف جريمة يعاقب عليها القانون، بل ابتعادهم من قلة كان لأسباب عقيدية، وسياسية؛ لأن الدعوة الإسلامية كانت تهدف أساسًا إلى تغيير القواعد التي تنبني عليها المؤسسات الدينية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الجاهلي…

( ب ) انتشار الإسلام في غربي أفريقيا:

إذا كانت الطلائع الأولى من الصحابة رضوان الله عليهم، لم يتمكنوا من القيام بالدعوة إلى الإسلام في فجر البعثة بأفريقيا، فإن المسلمين الأوائل عرفوا العالم الأفريقي قبل انتشار الإسلام في القارة الأفريقية. فقد كانت الصلاة بين العالمين العربي والأفريقي قديمة وسابقة لظهور الإسلام: فقد كان جزيرة العرب على صلة اقتصادية ودينية وسياسية بشرقيّ أفريقيا، ولم يكن الحضور الأفريقي مقتصرًا على العبيد الذين يجلبون من القارة السوداء، بل كانت للحبشة ارتباطات وثيقة باليمن جنوبي الجزيرة العربية.

لذلك لا يدهشنا اهتمام الإسلام الباكر بأفريقيا باعتباره استمرارًا طبيعيًّا لتلك العلاقات التاريخية وتطورًا حتميًّا لها.

على أن الإسلام اختار ـ خلال تقدمه نحو أفريقيا ـ مسلكين اثنين:

· أولهما مائي: وهو طريق باب المندب المحاذي لساحل شرقي أفريقيا، حين كان المسلمون يعبرون البحر الأحمر للتوجه نحو الصومال والحبشة وزنجبار… وكان الاتصال بين هذه المناطق الأفريقية وشبه الجزيرة العربية مباشرة. وتبعًا لذلك كان شرقي أفريقيا متأثرًا في شؤون دينه بمناطق الخليج العربي، ويتجلى ذلك في انتشار المذاهب الفقهية والطرق الصوفية التي كان يتمذهب بها سكان الجزيرة.

· ثانيهما بري: اتخذه الإسلام للدخول في شمالي وغربي أفريقيا ـ وهو بيت القصيدة هنا ـ وهو معبر سيناء الذي اختاره عمرو بن العاص رضي الله عنه لفتح مصر، ولما استتب الأمر لجيوش الإسلام بأرض الكنانة تطلعت إلى فتح شمالي أفريقيا، حيث اتجهت صوب برقة فتونس فالجزائر ثم المغرب، وتراخت الدعوة في شمالي أفريقيا برهة من الزمن بحكم أنها ظلت هناك بين مد وجزر، وما أن استقرت في المغرب حتى بدأت تتبلور في جنوبي الصحراء الكبرى(11).

(ج) مسالك قوافل المسلمين من شمالي أفريقيا:

كانت هناك عدة مراكز هامة في شمالي أفريقيا ينطلق منها الدعاة المسلمون نحو غربي القارة، وسيؤدى "المغرب العربي " دورًا طليعيًّا في نشر عقيدة وحضارة الإسلام فيما وراء الصحراء الكبرى، وسيؤثر أيما تأثير على مسلمي تلك البلاد: فمن شمالي أفريقيا والأندلس جاء وساد المذهب المالكي، ومنه وفدت الطرق الصوفية: القادرية، والتيجانية، والشاذلية، كما سيأتي بيان ذلك في محله.

أما تحديد تاريخ موثوق به لوصول الإسلام إلى غربي أفريقيا فليس بالسهولة بمكان لعلة بسيطة؛ هي أن اعتناق غالبية الشعوب الأفريقية للإسلام لم يتم عن طريق حملة عسكرية ليؤرخ له بسقوط مملكة ما(12)، أو هزيمة جيوش معادية للمسلمين في واقعة ما، وقيام نظام الإسلام على أنقاضها، إنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك المناطق بفعل احتكاك التجار المسلمين بسكانها، وجهود الشيوخ السياح القادمين من شمالي أفريقيا، وبفضل تفاني الأفريقيين الأوائل الذين اعتنقوا الإسلام.

على أن التاريخ احتفظ لنا بأسماء مراكز تجارية تقع على الطرف الشمالي من الصحراء الكبرى، كانت تنطلق منها قوافل التجار المحملة بالبضائع ـ منسوجات وخرز ـ يقايضونها بالذهب والعاج والعبيد. . .

· وها هي بعض مراكز الانطلاق:

(1) برقة بليبيا: كانت قوافل المسلمين تغادر برقة محملة بالبضائع وتتوجه صوب بيلما [BILMA ] حتى تصل منطقة بحيرة تشاد، وقد تصل القوافل نفسها بلاد برنو [ BORNO ]

( 2 ) القيروان بتونس: كان التجار المسلمون يغادرون القيروان بجمالهم المحملة بمنتجات "أفريقية " إلى "نكيدة " حيث تقع مناجم النحاس، ومنها تقصد كانو [KANO ] في بلاد "الهوسا " بنيجيريا.

(3) تلمسان بالجزائر: كانت قوافل التجار المسلمين تنطلق من تلمسان إلى ثنية نهر النيجر حيث تقع مدينتا تمبكتو وغاو الشهيرتان.

(4) طريق لمتونة: وهي الآتية من المغرب الأقصى على امتداد ساحل المحيط الأطلسي إلى حوض نهر السنغال.

ويبدو ا، الإسلام سلك الطريق الثالث والرابع للوصول إلى السنغال لارتباط هذا الأخير تاريخيًّا وجغرافيًّا بامبراطوريتي غانا ومالي اللتين كانتا على صلة وثيقة بالجزائر والمغرب، فضلاً عن أن حركة عبد الله بن عباس ياسن رابطت فترة من الزمن في جزيرة سنغالية قد تكون "أندر " "N'DAR "(13).

· مملكة غانــــا(14):

ليس من السهولة بمكان تحديد موقع غانا جغرافيًّا بشكل دقيق، إذ يظهر أن كل المؤرخين ـ وهم جميعًا عرب ـ الذين كتبوا عنها في القرون الوسطى لم يعاينوها، وإنما نقلوا أخبارها عن غيرهم(15)، وكادت الروايات الشفهية أن تنسى غانا(16) ويبدو أنها كانت قوية وثرية ارتبطت بعلاقات وثيقة مع بربر الصحراء الكبرى، وقد تكون حدودها الشمالية وراء مدينة "أودغشت " الغنية بالملح، وقد يكون بعض أطراف السنغال جزءًا منها.

وكانت تشتمل على جزء هام من موريتانيا الحالية ومناطق من غربي مالي، وكانت "أودغشت " الواقعة في قلب الصحراء قد احتلتها غانا سنة 990م وظلت تحت سيطرتها إلى أن فتحها المرابطون سنة 1054م.

وكانت عاصمة غانا هي ـ كومبي صالح ـ القريبة من مدينة نيرو، وكانت العائلة المالكة تحمل الاسم العشيري "سيسي " [CUSSE ] وهي من جماعة "سونينكي " ؛ ولم ينتشر الإسلام بين أفراد الطبقة الأرستقراطية الحاكمة غير أن صلتها بالمسلمين كانت قوية.

·الإسلام في غانــا:

إن اختلاف التجار المسلمين على بلاد غانا، وتكاثف التبادل، والوفود والتسامح الديني الذي كان يتحلى به النظام القائم، ساعد ذلك كله على تغلغل العقيدة الإسلامية بين الأهالي سلميًّا؛ وبلغ الأمر إلى أن أفرادًا من الجالية الإسلامية تقلدوا وظائف عليا في البلاط الملكي؛ وكانت معرفة المسلمين بالكتابة والقراءة عاملا حاسمًا في هيمنتهم على مرافق هامة من جهاز الإدارة العامة والحياة الاقتصادية؛ وبمرور الزمن ازدادت أهمية الجالية الإسلامية في غانا إلى درجة أن كان لها حي خاص بها بعاصمة المملكة فيه اثنا عشر مسجدًا.

وظلت غانا محتفظة باستقلالها السياسي إلى أن لاحت في الأفق حركة عبد الله بن ياسن الإسلامية.

· نهاية غانــــا:

تاق المرابطون إلى فتح مملكة غانا، فبعثوا أولاً جيشًا بقيادة يحيى ابن عمر سنة 1054م، فاستولى على "أودغشت " وطرد منها الحامية الأفريقية. ومن "أودغشت " توجهت جحافل لمتونة نحو عاصمة غانا "كومبى صالح ".

وكان المرابطون يستهدفون نشر الإسلام في منطقة لم يكن الإسلام معروفًا لأهلها جميعاً في ذلك العهد، وهذا خلاف ما يزعمه بعض المؤرخين أن لعاب قادة المسلمين كان يسيل لَدَى ذكر ثروة غانا، حيث ينبت الذهب مثلما ينبت العشب، فاندفعوا إلى فتحها. وعندما تولى أبو بكر بن عمر زعامة جيوش المرابطين في الصحراء، نجح في الاستيلاء على "كومبي صالح " سنة 1076م.

ويلاحظ أن سيطرة المرابطين على غانا لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما قامت انتفاضات وثورات، ليست ضد الإسلام الذي جاءت به جماعة أبي بكر بن عمر، بل كانت تستهدف تحقيق إدارة غانية.

ففي غضون ذلك، استشهد ابن عمر أثناء اشتباكات مع الغانيين، وبوفاته اضمحلت سلطة المرابطين السياسية، في الوقت الذي كان يحقق ابن عمه يوسف بن تاشفين انتصارات باهرة في المغرب والأندلس.

لم تكن انتصارات أصحاب عبد الله بن ياسن ذات بال من الناحية العسكرية والسياسية، إذ لم يدم وجودهم في غانا أكثر من خمس عشرة سنة، لكن هذا الحضور الخاطف ترك أثرًا طيبًا للإسلام في المنطقة كلها لمساهمته في توصيل صدى الإسلام إلى نواحٍ بعيدة من غربي أفريقيا لم يكن قد وصلها من قبل، مما مهد الطرق أمام دعاة حققوا ما لم تحققه الحملة العسكرية. وخليق بنا أن نلمح إلى أن بعض المصادر تشير إلى أن ملك تكرور "وارانجاي "[ WAR N'DIAYE ] الملقب بأبي الدرداء قد أخذ نصيبًا وافرًا في حملات المرابطين بعد أن أسلم.

والخلاصة أن حملة المرابطين على غانا لم يترتب عليها ترسيخ مباشر لدعائم الإسلام بقوة السلاح في تلك البلاد، إنما تمخض عنها أن طائفة من سكان المدن الذين لم يسلموا قبل الحملة المرابطية اعتنقوا الإسلام؛ إضافة إلى تشبث شعب "سونينكي" بالعقيدة الإسلامية من ذلك العهد إلى يومنا هذا.

ورغم جهود المرابطين ومسلمي غانا بقي الإسلام محصورًا في رقعة جغرافية صغيرة إلى أن برزت مملكة مالي في الساحة السياسية في المنطقة والتي حملت الدين الإسلامي إلى أدغال ومجاهل غربي أفريقيا كله.

· مملكة مالـــي [MALI ] (17) :

خلاف مملكة غانا، ظلت أخبار إمبراطورية مالي راسخة في الذاكرة الجماعية من شعب "ماندين " مثلما نقل أحوالها سياح وتجار العرب والبربر المسلمين الذين جابوا الصحراء الكبرى واتصلوا بأنفسهم بشعوب وأمراء مالي. وتم وصول أخبار هذه المملكة السودانية إلى العالم الإسلامي خلال رحلات ملوكها نحو الأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج، وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة.

وكانت مملكة مالي واسعة؛ حيث تصل حدودها إلى ما وراء "غاو " شرقًا، والسنغال غربًا، وسيكاسو جنوبًا، وولاتة شمالاً. وينتسب ملوكها إلى جماعة "ماندين أو ماندينكا "ـ [MANDING ] التي تعيش حول نهر النيجر وبالأخص في الجزء الغربي منه، وشرقي السنغال وجنوبيه، وعلى ضفتي وادي غامبيا الذي يعتبر واديًا ماندنيكيًّا، وغينيا بيساو، وغينيا كوناكري، وبوركينا فاسو، وساحل العاجل وسيراليون…

وقد يربو تعداد الناطقين بلغة "ماندين " بغربي أفريقيا على عشرة ملايين نسمة، وقد انعكس تباعد مساكنهم على لهجاتهم، لكنها لهجات متقاربة يتفاهم الناطقون بها دونما صعوبة.

ينتمي أربعة وتسعون في المائة من هذه الجماعة إلى الإسلام، بينما تتمسك فئة منها بالديانات التقليدية الأفريقية؛ وخليق بالملاحظة بهذا الخصوص أن هذه المعتقدات تحتوي على عناصر عديدة من أصل إسلام، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد بأن الديانة الإسلامية عمت فعلاً شعب ماندين خلال فترة من تاريخه، ثم تسرب إلى إسلامه التدني والضعف والفتور بفعل انقطاع بعض جماعاته عن موجات التجديد، وبحكم انعزالها عن الحركات الإسلامية.

وتكمن أهمية جماعة ماندين في أنها قامت بنشاط دائب وحافل طوال عهود عديدة لنشر الإسلام في غربي أفريقيا، وذلك على صعيدين:

· على مستوى السلطات الرسمية، [ملوك مالي].

· وعلى مستوى الأفراد "التجار المتجولين الدعاة " جولا(18) [DIOULA ]

يعزى دخول الإسلام إلى بلاد ماندين إلى حادثة طريفة، مفادها أنه حوالي سنة 1050م أصاب قحط شديد أرض ماندين، فانقطع المطر وأشرف الحرث والنسل على التلف، وكانت العادة تقتضي في مثل هذه النازلة أن يتدخل الكهنة والسحرة لاستعطاف الآلهة، وكان "برا ماندان ا" [BARA MENDANA ] أميرًا لماندين وقتئذٍ، فنهض بنفسه لتنظيم طقوس عديدة، تم خلالها تقديم القرابين، فلم يُجْدِ ذلك كله نفعًا.

وكانينزل في "كانغابا " [KANGABA ] اصمة إمارة ماندين، رجل مسلم لم يشاطر الأمير وشعبه طقوسهم، ولما لا حظ فشل المحاولات كلها وبطلان الوسائل المستعملة جميعها، وتمكن البؤس واليأس والأسى من نفوس أهل مالي، عرض على الأمير مساهمته في التضرع مقابل إسلام "برا ماندانا " فقبل هذا الأخير العرض،واعتنق الدين الإسلامي، ثم تعلم ما تيسر له من مبادئه، ثم خرج الرجلان نحو ربوة تطل على "كانغابا " فصليا صلاة الاستسقاء، ولدى الانتهاء منها جعل الشيخ يدعو رافعًا يديه إلى السماء والأمير يؤمن. وما كان ينهيان تضرعهما حتى هبت ريح باردة مبشرة، وملأت السحب الداكنة السماء مثقلة بالبركة، فهطلت أمطار غزيرة عمت أرجاء البلاد، وامتلأت الأودية، وفاضت الشعاب، وارتوت الحقول، وحييت المزارع.

وما إن رأى الأمير الغيب يسقي مملكته حتى بادر إلى دعوة شعبه إلى الدين الجديد، ومن ذلك التاريخ البعيد بدأ انتشار الإسلام بين ظهراني شعب ماندين.

ويبدو أن "سون جاتا كيتا " [SON DIATTA KEITA ] كان المؤسس الحقيقي لمملكة مالي؛ على أنه على الرغم من وجود ملحمة شهيرة تدور حول شخصيته تصدح بها شعوب ماندين تخليداً الذكراه ، فإننا نجهل حياته الحقيقية غير الأسطورية، وبالأخص ما يتعلق بإسلامه.

في حين خلد التاريخ ذكرى أولاده وأحفاده لما نهضوا به من أعمال جلّى لدفع عجلة الإسلام إلى الأمام في منطقة غربي أفريقيا؛ وسجل التاريخ بالخصوص أسماء(19) (منسا موسى وولي ) [SON DIATTA KEITA ] (1255-1270م )، أحد أبناء "سون جاتا "، وكان "موسى وولي " قد حج بيت الله في موكب حافل.

وبعد "موسى كانكو "[KANKOU ] أو كانكا [KANKA ] من أشهر ملوك مملكة مالي وأكثرهم نفعاً للإسلام في تلك الحقبة، وكان على جانب من الذكاء والفطنة والعلم، وكان يتكلم اللغة العربية بطلاقة؛ وقيل: إنه ألف كتاباً في الفقه المالكي.

قام " منسا موسى" هذا برحلة إلى المشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج سنة 1324م فتركت في العالم كله صدىً كبيراً لما تميزت به من أبهة؛ ولما قيل عن ثروة هذا الملك الأفريقي، ومما زاد في صدى هذه الرحلة أن منسا موسى اصطحب معه ستمائة رقيق كانوا يحملون على ظهورهم الذهب والتبر الخالص، وأنه أنفق أموالاً طائلة على المساكين والمعوزين بمكة والمدينة.

ولم تقتصر هذه الرحلة التاريخية على جانب أداء المناسك؛ بل إلى جانب ذلك كانت رحلة تبادل ثقافي في واسع النطاق؛ أولى"منسا موسى" خلالها عناية خاصة بالعلماء، فاتصل بنخبة منهم بالقاهرة التي عرج عليها، فتباحث معهم حول قضايا مختلفة تهم العالم الإسلامي، كما اهتبل فرصة وجوده في تلك الديار المعروفة بالعلم لاقتناء كمية وافرة من كتب فقه المالكية، وأبدى اهتماماً خاصاً بالفن المعماري الإسلامي الأصيل، فاتصل خلال تنقلاته في المغرب والمشرق الإسلاميين بمهندسين معماريين للاستفادة بهم والأخذ عنهم. وقد نجح فعلاً في إبرام عقد عمل مع أحد المهندسين المعماريين من عرب الأندلس، هو الشاعر أبو إسحاق الساحلي الأندلسي(20)، الذي قبل أن يصحب "منسا موسى كانكو " إلى مملكته حيث أشرف على تشييد مبانٍ عمومية عديدة في كل من (نيامي )، عاصمة مالي يومذاك، وفي مدن أخرى هامة من تلك البلاد.

ولما أنهى أبو إسحاق المهام المنوطة به، وصله"منسا موسى " بصلات باهظة تقدر باثني عشر ألف مثقالٍ ذهباً !

واقتدى بـ"منسا موسى " خلفاؤه، فاعتنوا بالعلم وأهله؛ وكان ابن بطوطة، الرحالة المغربي، الذي زار مملكة مالي سنة 1352م، أيام حكم "منسا سليمان "- أخي موسى كانكو- شاهد عيان للنهضة الثقافية والعمرانية، وانتشار الإسلام والرقي الاجتماعي في مالي، حيث يقول:

"إن أهل مالي كانوا يربطون أولادهم بالقيود ولا يفكون وثاقهم إلى أن نحفظوا كتاب الله عن ظهر قلب " وبخصوص التشبث بالعبادات يقول الرحالة المغربي:

"إذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر المرء إلى المسجد فإنه لن يجد مكاناً يصلي فيه، وذلك لشدة الزحام وكثرة إقبال الناس على أماكن العبادة.

أما استباب الأمن فحدث عنه ولا حرج، فقد كان أهل مالي يتمتعون بمستوىً أخلاقي رفيع، لدرجة أن المرء لا ينزعج إذا ما ضاع له مباع لأنه مبأكد من العثور عليه حيث أضاعه؛ سالماً من أي أذى "

ومن خلال شهادة ابن بطوطة نستطيع أن نتعرف على ملامح الإسلام في مملكة مالي، وعلى مدى تمكنه من نفوس شعب (ماندين ) حيث أصبح دين الدولة الرسمي.

إلى جانب السلطة الرسمية المتمثلة بملوك مالي أنفسهم، فإن الموجات البشرية التي هاجرت من مالي في أوج عظمتها نحو غامبيا وغينيا بيساو بزعامة أحد جنرالات "سون جاتا كيتا "، هو "تيراما خان تراوري" .TIRAMA KHAN TRAOURE " " الذي حمل جنوده معهم الديانة الإسلامية خلال حماتهم في "جولوف " وغامبيا وجنوبي السنغال، ثم توالت هجرات الجماعات من مالي نحو ما يعرف بـ "تليجي "TILIDJI " " أي الغرب، وخصوصاً بعد اضمحلال هذه المملكة في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. حيث رحل عدد كبير من مسلمي مالي إلى غامبيا وغينيا اللتين كانتا تابعتين له، يضاف إلى هذه الهجرات دور التجار الماندينكيين المعروفين بـ"جولا " وكان لهؤلاء دور في نقل الإسلام إلى المناطق الغابوية الصعبة الولوج(21).

ظهـور الإســلام في الســنغال

وقد ضربنا صفحًا عن ذكر مملكة "سنغاي" التي قامت على أنقاض مملكة مالي، والتي قام ملوكها بنشاط هام لنشر الإسلام بغربي أفريقيا، ويعتقد أن شأنها شأن مالي، كانت تحكم بعض أجزاء السنغال خصوصاً شماليّه؛ "فوتا" التي تعتبر أول منطقة تمكن فيها الإسلام في هذا البلد منذ بداية القرن العاشر الميلادي.

وقد يكون "وارانجاي " OURAN'DJAYE " " أول أمير سنغالي يعتنق الديانة الإسلامية. وقيل: إن ابنه "لابي " LABI " " الذي اعتلى العرش بعد وفاة والده، كنت له يد طولى في انتصار المرابطين سنة 1056م على خصومهم من قبيلة "أكدالة " البربرية.

وباستثناء شرقي وجنوبي السنغال - للأسباب التاريخية السالفة الذكر- فإن باقي مناطق البلاد مدين لـ"فوتا " بإسلامه.

العوامل التي ساعدت على انتشار الإسـلام في السـنغال

تضافرت عدة عوامل فساعدت على انتشار الإسلام سلميًّا في القطر السنغالي، وكان بعضها عائداً إلى طبيعة الدين الإسلامي نفسه، وبعضها الآخر راجعاً إلى عوامل استجدت في الساحة السنغالية. ونتعرض فيما يلي لأهم تلك العوامل:

· جاذبية العقيدة الإسـلامية:

تستهوي الأرواحي نحو الإسلام وحدته وتجانسه وتناسقه وتماسك المسلمين وتشابههم؛ إذ يتقاسم جميع أفراد الجماعة الإسلامية عقيدة واحدة وعبادات متحدة لا تتغاير مهما تباين مكان وزمان ممارسيها، ومهما تباعدت أصول ولغات وألوان وظروف حياة أتباعها.

لهذا اعترف (أنتيامباANTIAMBA - ) من جماعة (دوغون DOGON )(1) بعد تجوال طويل في عدد من القطار أحس أثناءه بالعزلة التامة والغربة والوحشة، وكان سبب ذلك بعده عن موطنه الأصلي الذي بمجرد أن غادره بدأ اعتباره أجنبيًّا في معتقده وفي طقوسه الدينية وعاداته حيث لم يشاهد أحداً يمارس ما يمارسه، فلا يشارك أحداً من الأرواحيين من مناطق أخرى في العبادة، والعكس بالعكس - قائلاً: "يسوغ أن يكون الخطأ وحده المتعدد "(2).

· الرقي الاجتماعي الذي يخولّه الإسلام لأتباعه:

علاوة على هذه الوحدة الروحية فإن الإسلام يهيئ للفرد المسلم نوعاً من التفتح على العالم يكفل له استعداداً فكرياًّ يوفر له عوامل تساعد على الرقي الاجتماعي، ويدفعه إلى التطلع إلى حياة أفضل، ويخرجه من وضع اجتماعي وثقافي واقتصادي متدن إلى وضع أعلى وأرقى: يبدأ أولاً من المظهر الخارجي؛ ملابس بيضاء ناصعة نظيفة جميلة تروق ناظريها، وجسم نزيف يفوح بالعطر يتعهده المسلم على مدى اليوم بالوضوء، ومساكن راقية -بالقياس إلى مساكن الأرواحي- ينبعث منها من حين لآخر أريج البخور… ويتعاطى المسلم النشاط التجاري مما سمح له أن يكوّن مركزًا اجتماعيًّا بفضل ثروته، أضف إلى ذلك أن المجتمع الإسلامي مهما كانت بساطته يتوفر على مؤسسات عمومية يتعهدها جميع أعضاء الجماعة دون تمييز: مساجد وجوامع ومدارس ومجالس العلم مما لا نظير له في المجتمع الأرواحي، ولا يحسن إهمال دور معرفة القراءة والكتابة التي يتمتع بها بعض أفراد المسلمين، فهما لغزان طالما حيّرا عقل الأرواحي الذي ظل يتطلع إلى كشف كنههما لأنهما الطريق الموصل إلى مصافّ الإنسان المتطور.

· سهولة وبساطة العقيدة الإسلامية:

على أن سهولة وبساطة عقيدة الإسلام ساهمتا في انتشاره بسرعة، فالإيمان بوحدانية الله تعالى، والاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، والالتزام بمقتضى هذه العقيدة يجعل المرء كامل العضوية في الجماعة الإسلامية دونما قيد أو شرط، حيث إنه غير مطالب أن يتخلى عن زوجاته التي لا تتجاوز الأربع…

· الصلاة جماعة:

إن للصلاة جاذبيتها الكبيرة خصوصًا حين تؤدي جماعة: يؤُم الإمام الجماعة، ويرتل آيات من الذكر الحكيم، وعندما يقوم بحركة يتبعه المأمومون بحركات منسقة ومنظمة لا تصاحبها ضوضاء ولا صخب ولا هرج، خلاف ما يقترن بطقوس الأرواحيين من فوضى…

· دور التجار المتنقلين:

لا يقل دور التجار شأنًا في هذا المجال عن غيرهم؛ فهؤلاء وإن لم يكونوا دعاة متخصصين فهم أثناء عرض بضائعهم على الأرواحيين كانوا يقومون بالدعوة إلى الإسلام حيث يتعرف غير المسلم إلى الإسلام عن طريق الحوار أثناء المساومات الطويلة والاحتكاك. إن "جولا " لا يعزفون عن الزواج ببنات زبائنهم الأرواحيين، وبالمصاهرة يتحول الأصهار إلى دين أزواج بناتهم.

فهكذا استطاع التجار المسلمون "جولا " المتنقلون تبليغ الدعوة إلى المناطق النائية و "الغابوية" من مجاهل أفريقيا، مما يفند المزاعم القائلة : إن الإسلام وقف على تخوم الغابات الكثيفة حيث لا تتجاسر أفراس العرب على التوغل فيها؛ زد على ذلك أن هذه الأفراس ـ إن ودت في بعض مناطق القارة الأفريقية ـ لم تقم بأدنى دور في نشر الإسلام بغربي أفريقيا.

وكان جولا [DIOULA ] ولا يزالون يجوبون أرجاء غربي أفريقيا كلها، ويتصلون بشعوبها، وكانوا متخصصين في تجارة ثمرة "كولا " [KOLA ] وهي ثمرة شجر ينبت في المناطق الغابوية (3)، ومن المسلم به أن إشعاع الإسلام بدأ في المناطق الحضرية حيث كانت المراكز التجارية وطرق القوافل والمدن الهامة يروج فيها التبادل التجاري.

· دور الشيوخ في نشر الإسلام في السنغال:

لقد ثبت تاريخيًّا أن التجار المتنقلين "جولا " [DIOULA ] قاموا بنشر العقيدة الإسلامية أثناء أسفارهم وتجوالهم، لكن الدور الأول يرجع في ذلك إلى شيوخ أفارقة وعرب وبربر أبلوا البلاء الحسن في هذا المجال، فقد "عم الإسلام في المنطقة ـ غربي أفريقيا ـ بفضل شجاعة وتفاني هؤلاء الرجال المتواضعين من الشيوخ المخلصين المجهولين الذين كانوا يسلكون أوعر المسالك، حاملين عيابهم المليئة بالزاد والكتب "(4).

وقد لاحظ أوروبيون كانوا يقومون بزيارة السنغال في القرن الخامس عشر الميلادي، حضور شيوخ من المغرب وتلمسان وموريتانيا في بلاط كل من ملك "كاجور وجولوف وسين وسالوم "… ويذكرنا هذا الحضور بوجود المسلمين في قصور ملوك غانا، وكذا بسبب اعتناق أمير مالي الإسلام على يد شيخ كان في عاصمته أثناء أزمة حادة.

وكانت الجالية الإسلامية في القرن الخامس عشر الميلادي ذات شأن كبير في مختلف أقاليم السنغال، فلاحظ أحد الرحالة الأوروبيين سنة 1506م أن "ملك وأعيان إمارة "جولوف" كانوا مسلمين، ولديهم شيوخ بيض من أئمة ودعاة الإسلام، وكانوا يعرفون القراءة والكتابة، ويأتي هؤلاء الشيوخ من بلدان بعيدة من الداخل، ومن مملكة فاس والمغرب (كذا) ويقدمون بهدف إدخال السود إلى عقيدتهم عن طريق الدعوة "(5).

وكان الشيوخ يقومون بالدعوة إلى الإسلام دونما قلق أو إزعاج يأتيهم من طرف السلطات الرسمية؛ ذلك بأنهم كانت تحيط بهم هالة من التعظيم، فعلى الرغم من كون غالبية الأمراء لا يدينون بالإسلام، وكون المسلمين أقلية، فإن الأرواحيين على مختلف نحلهم ومللهم يحترمون الشيوخ ولا ينالونهم بسوء، وقد أشار إلى هذه الحقيقة "موللين " [MOLLIEN ] ناء زيارته لبعض أقاليم السنغال في القرن التاسع عشر "يحصل الإسلام كل يوم على تقدم، وسيصبح قريبًا الدين الوحيد لإقليم "كاجور"؛ إذ بقي القصر وحده متشبثًا بالوثنية ". ويعلل "موللين " نجاح الإسلام بـ "الحصانة التي تجعل شخص الداعية المسلم مقدسًا عند الأمراء الوثنيين، مثل ما هو محترم لدى المسلمين، مما يساعد على انتشار الإسلام عند هذه الشعوب "(6).

وخليق بنا أن نتدارك هنا أن كلمة شيخ التي تقابل [MARRABOUT ] بالفرنسية، هي عكس كلمة "تبدو " [TIEDO ]، التي تعني: الشخص الذي يشتغل بالعبادة، والدعوة، وتكوين الناشئة، والذكر، وكبح الأهواء، والبعد عن المرح، والزهد في حطام الدنيا؛ ولا يتعاطي كل ما من شأنه أن يحدث فصلا بينه وبين نشاطه الديني.

· طائفة "تيدو":

كلمة "تيدو " هذه لدى جماعة "ولوف" تقابل "سونينْكي " عند جماعة "ماندنيكي " وتعني: الخبث والوحشية والدناءة والخشونة والكفر، وهي فئة كانت ـ كما لا حظ "بولان " ـ : منتشرة في مختلف أنحاء السنغال وتشكل "ميلشيات " السلطات القائمة آنذاك، وكانت تعيش على السرقة والنهب وتمارس كل أنواع المنكرات والموبقات.

ويبدو لأول وهلة من التناقض الفاضح أن يعتبر أشخاص هذه صفتهم مساهمين في نشر الإسلام، ولكن معرفة علاقة هؤلاء بشعوبهم، وتصرفاتهم القاسية تجاهها، توضح جليًّا مدى دورهم عن غير قصد منهم في الدعوة إلى الإسلام، والتفاف الناس حوله، وذلك أن طائفة "تيدو " كانت تسطو على ممتلكات وأرواح "بادولو "(7) بسبب وبدون سبب، وتتحكم في حياتهم، وتتصرف فيها تصرفات خرقاء لجهلها، فتسلبهم كل حق، وتثـقل كواهلهم بالضرائب التي يحلو لها أن تجبيها، ثم لا تمر إلا فترة وجيزة على ذلك حتى تعاود الكرة لتستولي على كل ما تقع عليه يدها من أموال وأمتعة وأثاث…

ولقد بلغت من غطرسة (داو جمبا [DAW DEMBA ] ـ 1640 - 1647م )، أحد ملوك تيدو، أنه كان "يمنع السود ـ رعاياه ـ من الزواج " ويطرد العجزة من حضرته، ويحظر على "بادولو " ارتداء السراويل، وتمليح "الكسكس " لأن الملح صالح للأمراء ـ وحدهم ـ ولم يهيأ لعامة الشعب.

وقد صور "مير MAIRE " ـ الذي زار إمارة "والو " في القرن السابع عشر الميلادي بشكل بشع استبداد "براك BRAK "، ملك تلك الإمارة، حيث قال: "إذا لم يتمكن ـ أي براك ـ من استعمال الاستبداد تجاه البلدان المجاورة فإنه يمارسه ضد شعبه؛ كان يجوب البلاد، يقيم يومين في قرية وثلاثة أيام في أخرى؛ حيث يكلف أهل القرى يتغذيته هو وحاشيته المكونة من مائتي خبيث… ولأتفه إساءة يخربون القرى ويسترقّون بعض أهلها "(8).

من خلال استبداد وقساوة "تيدو" برزت الدعوة الإسلامية أمام "باولو " منقذًا لهم مما هم فيه، وحصنًا يصونهم من غلبة وقسر السلطة الاستبدادية، فكانت قرى وبيوت الشيوخ ملجأً للمستضعفين ومأوى لعامة الشعب.

لذلك كلما تفاقمت ضغوط "تيدو"، تكاثف إقبال الناس على الإسلام وارتفع إحساس المسلمين بضرورة الذب عن الحق وحماية "بادولو " حتى أصبح الاصطدام بين الطائفة الإسلامية وأنظمة "تيدو " أمرًا لا مناص منه. ولم تكن دواعي تلك النزاعات المسلحة ـ في أغلب الأحوال ـ إكراه الناس على اعتناق العقيدة الإسلامية، بل كان الدافع الموضوعي حماية المجتمع السنغالي ككل، والدفاع عن كيان الجماعة الإسلامية بصفة خاصة. وكان كلما ازدادت قوة أتباع الإسلام، نما خوف طائفة "تيدو " وصعَّدت مناوشتها للمسلمين. ولعل الحادثة التي تعرض لها الشيخ "مابا جاخو با "، وهو يومئذٍ طالب لدى أحد الشيوخ في "كاجور " من الدلائل على أسلوب القسر عند "تيدو ". وملخص الحادية أن الشيخ "مابا جاخوبا " كان يعمل يومًا في ضيعة شيخه فإذا بأحد أفراد "تيدو" يسطو على الضيعة لاختلاس الغلال والأموال منها، فتعرض له الشيخ وما كان سوى جولات حتى أردى المعتدى قتيلاً.

وتدخل في هذا الإطار ثورة الشيخ "سيلابا " ـ [CHEIKHSYLLABA ] بإقليم كازا منسا، التي تعود أسبابها إلى أن(9) "بينونك " [BAINOUNK ]ـ وهي صاحبة السلطة في تلك البلاد ـ كانت تحول بين "سيلا " وتلامذته وأفراد الطائفة الإسلامية كافة في المنطقة وبين ممارسة شعائر الإسلام. وكان يأتي بعض أفراد "بينونك" وقت الإفطار في شهر رمضان فيصبون الخمور على موائد المسلمين، وأمام تعنت وتمادي هذه الجماعة الطائشة اضطر الشيخ "سيلاط لمنازلتها وإعلان الجهاد المقدس ضدها، فانتصر عليها ومزقها شر ممزق، وكانت تلك الانتفاضة سببًا لانتصار الإسلام وانتشاره بجنوبي السنغال.

وحتى الإدارة الفرنسية الأجنبية كانت قد شجبت قساوة نظام "تيدو "، وامتدحت جهود الشيخ "مابا جاخو "، الذي كانت تعتبره ألد أعدائها، وذلك لدور هذا الشيخ في استباب الأمن في "شالوم وسين "، وعمله لتوفير الكرامة لشعبه، ودوره في ترسيخ قواعد العدالة في المنطقة التي كانت تحت نفوذه (أعتقد أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد ا لطغيان الأعمى ووحشية "تيدو" ستكون مقبولة لدى شعب "ولوف" الخاضع للحيف ) (10) وهذا الكلام صادر من أحد أقطاب الاستعمار الفرنسي في السنغال؛ الذي لم ير بدّا من تعرية نظام "تيدو " الغاشم.

ويشير بعض المؤرخين إلى أن الأمير "لاتجور " [LATDIOR ] لم يخذله قائده العسكري "دمبا وارسال [DEMBA WAR SALL ] إلاّ عندما حرم عليه وعلى أتباعه النهب والغصب والسطوة على أموال "بادولو ".

ومن نافلة القول: الإلحاح على التدليل بأن المسلمين لم يحملوا السلاح لفرض دينهم على غيرهم بغربي أفريقيا، وإنما انجذب إلى الإسلام أناس نالوا من حيف وجور سلطة لا تدين بدين ولا تحترم عهدًا ولا ترضخ لسلطان قانون…

وكفى برهانًا على ما نقول؛ مراجعة الأوضاع السائدة في مختلف أقاليم السنغال، وخصوصًا في فوتا في القرن الثامن عشر قبل حركة الشيخ سليمان بال، حيث نجد أن الظلم قد طفح والاستبداد بلغ كل مبلغ، ولم يصبح هناك مندوحة سوى الاحتكام إلى حد السيف، ومما جعل الأمر يستفحل في فوتا أن حكامها (ساتيك ) [SATIK ] وهنوا واستكانوا إلى حد التنازل عن بعض سيادة البلاد لصالح جيرانهم من ترارزة (11)، والتآمر معهم ضد رعاياهم الذين أصبحوا عرضة للاختطاف والبيع في أسواق النخاسة(12).

ولما قويت شوكة (تور ودو ) [TORODO ] (13) واستتب الأمر للمسلمين في فوتا، وقامت دعائم الإمام "ألماميا " (14)، لم يفرض النظام الجديد عقيدة الإسلام على أحد، بل انصب اهتمامه على تعمير البلاد وتصعيد الدعوة إلى العقيدة الإسلامية، وتشييد المؤسسات الدينية، والسهر على مصالح رعاياه، وحمايتهم من تعسف الطغاة والظالمين، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية على الحياة العامة.

حدثت عدة انتفاضات إسلامية في مناطق مختلفة من السنغال خلال القرنينك الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين ضد استبداد "تيدو ".

ففي جنوبي السنغال قامت حركة إسلامية كبيرة باسم "كاندايا " [KANDAYA ] وخصوصًا بمنطقة "باكاو " [PAKAO ]، وكانت رد فعل لظلم وتعسف "سونينكي " [SONINKE ] وكان القبطان "بوللتيه " [PELLETIE ] قد عايش جانبًا من تلك الحركة سنة 1843م فكتب عنها يقول: "لم يصبح لـ (سونينكي) قيمة اليوم، حيث قتل المسلمون منهم قسمًا كبيرًا، والقليل الباقي منهم قَبِلَ بسيطرتهم، ولم يعد ملك (بوتيه BOUTHIE ) ذا وزن، شأنه شأن (سوناباSOUNABA) زعم (سندنير SANDINIER) الذي أعلن إسلامه "(15).

ومما يؤسف له حقًّا أن نرى بعض المثقفين السنغاليين لم يكلفوا أنفسهم عناء دراسة وتدبر طبيعة النزاعات المسلحة التي دارت رحاها بين الطائفة الإسلامية وطغمة "تيدو"، ففاتهم إمعان النظر في ملابسات تلك الحقبة الخطيرة من تاريخنا(16)، فانزلقوا يصفون حروب المسلمين الدفاعية بعدم الشرعية؛ متأثرين بالنزعات الاستعمارية المعادية للإسلام التي كانت تبث السموم لتثبيط همم أبناء الإسلام حتى لا ينهضوا للدفاع عن حوزة دينهم، وفضلاً عن ذلك فقد قام الاستعمار بمحاربة حركات المقاومة الإسلامية الهادفة، وشجب مواقف قادتها البطولية، وقذف أعمالهم بكل أنواع القدح والقذع، وشوّه سيرة كل زعيم مسلم عارض مشاريع الاستعمار والاستغلال، فاتهم بعضهم بالاستبداد، وبعضهم الآخر بالقسوة واستغلال الإسلام لأغراض شخصية… ومن هنا وقع الأستاذ "شيخ توري "، رئيس الاتحاد الثقافي سابقًا في حبائل الدعاية الاستعمارية حينما صرح أمام مؤتمر عقد في مدينة "أبيدجان " في إبريل سنة 1962م قائلاً: "إن كل الحروب التي حدثت في أفريقيا منذ وصول الإسلام حتى الآن مستنكرة وقابلة للانتقاد "(17).



هذه النسب بخصوص تكاثف الجماعات في السنغال تقريبية؛ إذ لا تعتمد على إحصاءات رسمية، وإنما اعتمدنا فيها على تقديرات عامة وملاحظة كثافة وجود جماعة من تلك الجماعات في منطقة ما فقدرنا نسبة عدد أفرادها بالقياس إلى الجماعات الأخرى.

الحركات الإسلامية في السنغال في القرنين

الثامن عشر والتاسع عشر

هناك حقيقة لا مناص من ذكرها: وهي أن الإسلام لم يتم انتشاره في السنغال بفعل أعمال عسكرية، وإنما عمّ هذا البلد بفضل تضافر عدة عوامل سبقت الإشارة إلى بعضها، ولا ينبغي لأي دارس بجدية أن يعبأ بادعاء (دنشام ) [DESCHAMPS ] القائل: "إنَّ الإسلام لجأ أحياناً إلى الغزو الوحشي-كذا-وقد جرّ تعصب وكبرياء الفاتحين إلى احتقار الوثنيين وإخلاء سبيلهم ليعيشوا، وتارة إلى استعبادهم، وحيناً آخر إلى ترك الخيار لهم بين الإسلام والموت "(1).

على أنَّ التاريخ يفيد هذه المزاعم بشهادة المستعمرين أنفسهم الذين اضطروا إلى الاعتراف بأهمية وعدالة الحركات الإسلامية" أعتقد- يقول "لا براد- أن الثورة الماضية باسم الحضارة الإسلامية ضد الطغيان الأعمى ووحشية "تيدو" ستكون مقبولة لدى شعب "ولوف" الخاضع للحيف "(2).

كانت هذه الوحشية التي يتحدث عنها "بيني لا براد" أحد العوامل التي تسببت في قيام ثورات المسلمين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين.

ومن قدر الله عزّ وجل أن تلك الحركات الإسلامية على اختلاف أرضية انطلاقاتها ظهرت في فترات تاريخية متقاربة نسبياًّ، واستغرقت مدى قرن ونصف القرن، وبرزت جميعها بعد انحلال وانقراض الإمبراطوريات: غانا ومالي وسنغاي بغربي أفريقيا، وبعد انقطاع الصلات بين ضفتي الصحراء الكبرى(3) إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وتحول النشاط التجاري عن بعض أطراف البحر الأبيض المتوسط، مما ساهم إلى حدّ ما في زعزعة دول شمالي أفريقيا، ونجم عن هذا الوضع انصراف الأنظار عن ذهب (بلاد السودان ) أي: غربي أفريقيا.

ومما زاد الطين بلة أن تزامن ذلك كلّه مع سقوط مدينة " تمبكتو " الشهيرة بالعلم على يد القائد العسكري المغربي "جودر باشا " والباشوات الذين حكموا هذه المدينة من بعده، وكانت سيطرتهم على "تمبكتو " عامل تقهقر حضاري، وتدهور اقتصادي، وتأخر ثقافي، لما كان لـ"تمبكتو" من كركز إشعاعي هام، ولكونها همزة وصل بين شماليّ أفريقيا وغربيّها؛ كما كانت محط رجال العلم، وموطن علماء كبار من سود وبيض، ومنار هداية يقصدها طلبة العلم من كل حدب وصوب.

ولما استولى عليها"جودر " ورجاله حوَّلوها إلى شبح مخيف، يعيث فيها العسكر فساداً، ويفشون فيها الفجور؛ الأمر الذي جعل الحركة العلمية والثقافية تتردّى وتتدني، واصطدمت طغمة التاشا "جودر" بعلماء المدينة فأبعدت بعضهم (4)، واضطهدت بعضهم الآخر، الأمر الذي أدّى إلى اتساع رقعة الانقطاع بين شمالي وجنوبي الصحراء الكبرى؛ وكان لذلك كله انعكاسات وانتكاسات على الساحة الإسلامية في السنغال، ثم تزامن ظهور المغاربة في مملكة سنغاي مع تقهقر الدعوة الإسلامية بغربي القارة الأفريقية، لأن هذه الدولة كانت قاعدة قوية ليشر الإسلام حيث نشطت فيها الحركة الإسلامية تحت رعايتها.

أضف إلى ما سبق: تحوّل الأنظار عن بعض مناطق البحر الأبيض المتوسط بفعل تصاعد القوى الصناعية الناهضة بأوروبا؛ التي أصبحت تتطلع إلى كشف أسواق جديدة توزع فيها منتجاتها الصناعية، ولتضمن توفر المواد الخام لمصانعها، وفي الوقت ذاته كانت ترنوبنهم إلى أراضي ما وراء البحار للاستيلاء علنها، واستغلال ثرواتها الطبيعية، واستعباد شعوبها.

وكانت مملكة سنغاي تستقطب شعوباً عديدة من غربي أفريقيا، وتسيطر على أراضٍ شاسعة، وبعد انقراضها تفككت إلى إمارات ومشيخات صغيرة لا يضم بعضها إلاَّ رقعة من الأرض يسيرة، فتحولت غالبية حكوماتها إلى أنظمة استبدادية، تمارس ضد شعوبها أبشع صور الطغيان، فحينئذٍ ازداد المسلمين بالظلم، ونما إحساسهم بالاضطهاد الذي أصبحوا موضعاً له، فقاموا بمناهضته، وزاد من مقاومتهم له أنهم ينتمون إلى عالم يغير عالم الأرواحية والاستبداد، وكان لا بد والحالة هذه من تغيير الوضع لصالح الجماعة الإسلامية.

ويسوغ تلخيص أهداف وأسباب قيام الحركات الإسلامية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين فيما يلي:

· حماية المسلمين من ظلم وغطرسة "تيدو".

· صيانة استقلال البلاد والحيلولة دون المساس بسيادتها.

· محاولة إعادة الوحدات السياسية على غرار مملكتي مالي، وسنغاي.

· إعادة الكرامة الإنسان هذه المنطقة دون نظر إلى أصوله ومعتقداته بعد أن كانت كرامته مداسة من قيل نظام "تيدو ".

وكانت الحركة الإسلامية هذه على وشك إنجاز أهدافها لولا أن عاجلها الاستعمار الصليبي الغربي، وفوّت على الإسلام فرصة ذهبية للانتشار الكلي في غربي أفريقيان ولو انتشر الدين الإسلامي على يد سلطة زمنية تسهر عليه وترعاه لما عرف ما يعرفه النوم من تحريف وتشويه،لأنَّ وضعه الحالي ناجم عن كونه انتشر في ظل أنظمة كانت تجهد نفسها للإجهاز عليه، وعندما استعصى ذلك عليها، رحبت بكل ردّة إلى الأرواحية، أو أي تحريف يموّه حقيقته وينحرف بالمسلم عنه.

بهدف تصحيح الأوضاع قامت الحركة الإسلامية في (فوتا تورو ) وتأسست إثرها الإمامة ما بين عامي 1776م و 1881م.

وخليق بنا ان نبيِّن أن من مزايا هذا النظام بعده عن الاستبداد، حيث كان يشترط فيمن يتقلد مهام الإمامة "ألماميا " أن تتوفر فيه صفات: العلم والاستقامة والتقوى، والورع، فضلاً عن أن المنصب غير وراثي؛ يتطاول إليه كل من اجتمعت فيه شروط الإمامة.

لا غرو حينئذٍ أن تحقق الإمامة في "فوتا " إنجازات في ميادين شتى: فقد حرمت النخاسة في أراضيها رفض الإمام (ملك بول ) هدايا الشركة، محرما بيع رعاياه، ومانعاً مرور قوافل العبيد (5) وشجعت التعليم، واعتنت بمجالس العلم، وابتنت المساجد، وابتعثت طلية العلم إلى موريتانيا المجاورة… ولم تكتف الإمامة بنشر العقيدة الإسلامية في "فوتا " فحسب بل عملت على توسيع دائرة الإسلام إلى ما وراء حدودها السياسية حيث انطلق الدعاة نحو الأقاليم المجاورة لدى شعبي "ولوف وسيرير " فأحرزوا نجاحاً أيما نجاح.

وأعطت "فوتا " السنغال عدداً من كبار رجالات السياسة والفكر والحرب من الطراز الأول، أمثال : الحاج عمر الفوتي، والشيخ مابا جاخوبا، والحاج مالك سي، والشيخ أحمد بامباو، والشيخ موسى كامارا، وغيرهم…

الداعية الحاج عمر بن سعيد المعروف بالحاج عمر

(1212-1281هـ 1795-1864م)

ولد الحاج عمر ببلدة هلوار" بمنطقة "فوتاتورو" سنة 1212 هـ وتوفي في كهف " ديغمبري 1281هـ.

درس الفوتي في مقتبل عمره مبادئ اللغة العربية بعد حفظه لكتاب الله تعالى، ثم تفقه في المذهب المالكي السائد في غربي أفريقيا وشماليها، حتى نال حظاًّ وافراً، وفي ريعان شبابه شدّ الرحال صوب "فوتا جالون " (غينيا ) لطلب العلم، وما برح حتى يمم نحو الشرق الإسلامي لأداء فريضة الحج، فأقام في الأراضي المقدسة ثلاث سنوات أو يزيد، التقى خلالها بكبار علماء الحجاز، ومن ثم عرج على مصر حيث اتصل بشيوخ الجامع الأزهر الشريف، ولا نعرف ما إذا كان الفوتي تتلمذ على علماء الجامع الشهير، غير أن من المحتمل أن يكون قد استفاد مما شهده في أرض الكنانة، لأنَّ هذه البلاد بدأت تحتك بالغرب بعد حملة نابليون، ولا يستبعد أن نطلع الزائر السنغالي على معلومات تتعلق بتقدم أوروبا المادي الذي جعلها تبيت النيّة وتعمل على إخضاع البلدان الإسلامية لسيطرتها.

وبعد عودة الفوتي إلى بلاده كان يقول بصدد النصارى: "إذا أتى البيض بالبضائع فعليهم أن يدفعوا رسوماً مرتفعة، وعندئذٍ يستطيعون الاتجار معنا بسلام "(6).

إن احتكاك الفوتي بعدّة شعوب إسلامية في القرن الثالث عشر ا لهجري، ومعرفته الدقيقة بأحوالها، ودراسته الطويلة للتاريخ الإسلامي أحدث تحوّلاً كبيرًا في تفكيره وتحليله لقضايا الإسلام، فجعله يفكر في ضرورة تغيير الأوضاع، حيث وعى بثاقب فكره أن دور المسلم لا ينبغي أن يقف عند أداء الشعائر الدينية ـ كما كان شأن كثير من شيوخ عصره ـ في الوقت الذي تتردى فيه شؤون المسلمين، إذ لا يليق بالشيوخ الركون والاستكانة والتمسك، والابتعاد عن مشاكل المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتفرج على ظلم وتعسف الأمراء الوثنيين الذين يسومون المسلمين أشد الإهانة والقهر.

لقد اندهش الفوتي لدى مقدمه من الشرق الإسلامي من فتور الوازع الديني لدى المسلمين، وتشتت قواهم، وتفشي الجهل فيهم، مما يبعث على الرثاء، واعتقد أن من واجبه أن يهب لنصرة بني دينه ما وجد لذلك سبيلاً "وهذا الموقف ـ يقول "ديمون" [DU MONT] ـ ليس له تعليل سوى نمو السمات الآتية في الفوتي منذ صباه: الإيمان، والرغبة في نشر العقيدة الإسلامية، وحماية الإسلام من سوء الفهم الذي أصابه في أفريقيا بسبب جهل العامة المجردين من كل تعليم، وغير القادرين على الرجوع إلى نصوص الشريعة، إضافة إلى تسرب بقايا الوثنية الخفية "(7).

ولما عاد الفوتي إلى غربي أفريقيا ركّز اهتمامه على نشر الإسلام في المناطق التي لم يعمّها بعد، وعل تطهيره من الشوائب في الأقطار التي يكوّن فيها المسلمون الأغلبية.

لتحقيق هذه الأهداف أقام في منطقة في (غينيا ) متاخمة للسنغال ومالي، وهناك انضم إليه عدد كبير من الشباب الإسلامي الذين وفدوا إليه للاستزادة من المعرفة، فكوّن منهم جيشًا عرمرمًا. ويمكن إيجاز أهداف الفوتي بالأمور التالية:

1- إبعاد خطر النصارى (الدور الاستعمارية ) عن غربي أفريقيا حيث كان الأوروبيون يتاجرون مع أهل هذه المنطقة، ويحاولون مدّ نفوذهم السياسي والاقتصادي، وربما فرض لنصرانية ـ دينهم ـ عليها.

2- العمل على نشر الإسلام في المناطق غير الإسلامية، وتصحيح ما انحرف من عقيدة المسلمين، وتطهيرها من الشوائب والخزعبلات والممارسات الغريبة والبعيدة عن الإسلام الصحيح.

3- وكان يرى أنَّ إحياء الإسلام لن يتم بالطريقة القادرية التي أصبحت فاترة، والتي تُبالغ في التسامح مع الوثنية وتتقاعس عن الجهاد المقدس.

4- وكان يعتقد ـ وهو على صواب ـ أنه لا بد أن تكون هناك قوة مادية رادعة ومنظمة تقوم بمهمة حماية مكتسبات الإسلام ورعاية شؤون المسلمين.

لقد نجح الفوتي إلى حدٍّ بعيد في تحقيق خططه؛ حيث استطاع خلال فترة وجيزة أن يجمع تحت راية الإسلام رقعة واسعة من منطقة ما حول نهري السنغال والنيجر.

الشيخ مابا جاخو با (1809 ـ 1867م)

قامت حركة ـ أو على الأص ثورة (8) ـ الشيخ مابا جاخوبا في منتصف القرن التاسع عشر كردّ فعل لتصاعد تعسف "تيدو " ضد مواطنيهم؛ وكان الشيخ مابا قد التقى بالحاج عمر الفوتي سنة 1848م الذي توسم فيه خيرًا، وبشّره قائلاً: "ستصبح في مستقبل قريب ـ بإذن الله ـ من المجاهدين، وستكون وبالاً على كفرة المشرق والمغرب؛ أعلن الجهاد ولتكن "سين" آخر هدف لك، لأنَّ "سيرير سين" وإن كانوا وثنيين فإنهم شرفاء ونشطون، لذلك فهم يستحقون الاحترام "(9).

إن هذا التصريح المنسوب إلى الحاج عمر الفوتي يفنّد افتراءات أولئك الذين يزعمون أن حركة الشيخ مابا وأمثالها قامت أساسًا على استفزاز وعدوان مبيت ضد أتباع الأرواحية، بل هو تأكيد صادق وتعليل موضوعي لأسباب تلك الانتفاضات الإسلامية، فهي لم تقم إلاّ لمقاومة الفساد والظلم لا لقهر النزهاء والعاملين مهما كانت عقيدتهم.

ولدى استقراء الوضع الساد في "سالوم وكاجور وباديبو " يظهر جليًّا تدني الأمن العام وتعاسة "بادولو " الأمر الذي جعل قيام حركة مابا جاخو حتمية لا مفر منها لرفع الظلم. ولتحقيق النجاح لمثل تلك الحركة لا بد من توفر حدّ أدني من الوحدة، وقيادة سياسية قوية وحكيمة، وشاء الله تعالى أن اجتمع ذلك كله في شخص الشيخ مابا، فاستطاع أن يقطع شوطًا بعيدًا في توحيد أقاليم "ريب " و "سالوم " و "باديبو " وأوشك أن يم "سين" إلى مملكته لولا أن تصدت له القوى الاستعمارية تحت ستار "كومبا أندفين جوف فماك " فوضعت حدًّا للمد الإسلامي سنة 1867م في معركة مشهورة باسم معركة "صومب "(10) حيث استشهد الشيخ مابا جاخوبا ؛ لكن حركته لم تخمد بوفاته إذ حمل لواءها أخوه ونجله من بعده.

الإمام فودي كبا دومبويا

(FODE' KABA DOUMBOUYA 1818ـ1901م)

لقد تركت حركة الشيخ مابا صدىً كبيرًا في غربي أفريقيا كله، وساهمت في إبراز قيادات، وخاصة في السنغال، منها: حركة الإمام "فودي كبا دومبويا" الذي كان قد استنجد في بداية أمره بالشيخ "مابا جاخوبا " حينما اعتدى بعض المعتدين عليه هو وطلبته بمنطقة كازامانسا، وأدّى تعاونه مع الشيخ مابا إلى نتائج مثمرة حيث ساعد على حماية الجماعة الإسلامية ورفع معنوياتها.

ركّز "فودي كبا " جلّ اهتمامه على جماعة (جولا ) التي كانت إلى ذلك العهد، لم ينتشر في صفوفها الدين الإسلامي، وبفضل جهوده كلّل الله تعالى مساعيه بالنجاح بدخول عدد كبير من أبناء هذه الجماعة في الإسلام، ونجح في بناء أسس الثقافة الإسلامية في تلك البلاد.

ولعلَّ أروع بطولة سجلها في تاريخ الحركة الإسلامية في السنغال هو رفضه رفضًا قاطعاً للمساومة حينما التجأ إليه مسلمون فارون من الاحتلال الإنجليزي إثر نزاع نشب بينهم وبين المحتلين الأجانب، وكان هؤلاء قد طالبو الإمام "فودي كبا" بعدم حماية المسلمين وبضرورة تسليمهم إليهم؛ وكانت حمايته لأولئك المسلمين سببًا لنشوب معارك ضارية بينهم وبين ائتلاف مكوّن من الفرنسيين وحلفائهم من الخونة، أثناء تلك الاصطدامات استشهد الإمام "فودي كبا " سنة 1901م بعد حياة حافلة بالأعمال البطولية في خدمة العقيدة الإسلامية(11).

كانت هناك حركات نشطة في مناطق مختلفة من السنغال تهدف كلها إلى ترسيخ قواعد الإسلام، منها: حركات خطت خطوات هامة في سبيل تحقيق أهدافها، وحركات تكالبت عليها قوى الشر، من ذلك: ثورة الشيخ "سيرن أنجاي سال " الذي نجح في الوصول إلى الحكم في (كاجور ) سنة 1663م وحاول وضع البلاد في ظل الشريعة الإسلامية، وتقدم مشروعه إلى حدٍّ بعيد، ولم ينجح أعداء الإسلام في القضاء على نظامه إلاّ بعد أن استغاثوا بأمير (سالوم ). وفي القرن الثامن عشر ـ في المنطقة ذاتها ـ قام المسلمون بثورة مماثلة، وكان من سوء الحظ أن أحدق بهم الأعادي من كل جانب، ففشلت ثورتهم بعد أن أبلوا البلاء الحسن، وكانت الإجراءات التي اتخذت ضدهم قاسية حيث بيع بعضهم وفر بعضهم الآخر إلى إقليم الرأس الأخضر.