سد الذرائع إلى الظلم - عبد الله القرشي

 يتساوى الناس في حب العدل والمطالبة به حين يحتاجون إليه، ثم يفترقون حين يكون العدل مخالفا لمصالحهم وأهوائهم، فيثبت أهل العدل المخلصون له، ويسّاقط المتشبثون بالعدل حين يوافق مصالحهم وأهواءهم. التحدي الأكبر حين يتواجه العدلُ مع الهوى وجهًا لوجه، ولذلك جاء التحذير واضحًا في القرآن من تأثير الهوى على إقامة العدل: «فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا» (النساء: 135).

والهوى ألوان ومسارب شتّى، ومن ذلك: الكراهية والعداوة، فإن ذلك مظنة الحيف والجور، وأهلُ الإيمان هم أهل العدل حتى مع أعدائهم، ولا يستبيحون الظلم مع من فارقهم في الدين، وقاتلهم عليه: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا» (المائدة:8). والشنآن مظنة الظلم والحيف، فإذا كان الشنآن في ذات الله، حيث فارقوا دينه، وقاتلوا أولياءه، فإن الظلم حيئذ قد يتلبس لباس الديانة والبراءة من المشركين، وما كان الظلم دينًا لله، وما كان الجور قُربةً لله، ولذلك جاء النص الواضح أن الأقرب لله هو العدل حتى مع الكافرين المناوئين لدين الله: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ (*) وَاتَّقُوا اللَّهَ (*) إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (سورة المائدة:8)، وبهذا لن ينفع التحايل على العدل، بإقامته ظاهرا والتحايل عليه باطنا، كما هو الحال في المحاكم الصورية، التي يقيمها المتغلب، وينتقم من خصومه ويبطش بهم باسم العدالة، ورسوم المحاكمة، فالعدل في الإسلام دينٌ لا يقبل التلاعب، والذي أوجبه ويحاسب عليه خبير بما تعملون.
ومن الهوى: الحبّ والقرابة، وقد يعدل المرء مع أعدائه، ثم يحابي أحبابه وقراباته، والعدل الذي يحبه الله أقوى من عاطفة الحب، كما هو أقوى من عاطفة الكره: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ» (الأنعام: 152)، وإمام العدل هو محمد- صلى الله عليه وسلم-، وقد أقسم - وهو الصادق المصدوق - أنه لن يتخلف عن العدل مهما بلغ حبُّه: «والذي نفسي بيدِه! لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقت لقطعتُ يدَها» متفق عليه.
ومن مسارب الهوى الخفيّة التي تؤثر على العدالة -وجاء القرآن بالنص عليها-، التعاطفُ مع الخصم الفقير أمام الخصم الغني؛ فإن هذا التعاطف يلتبس بالمروءة والأخلاق، وربما هرب الإنسان من محاباة الغني حتى وصل للتحامل عليه باسم النزاهة والعدالة، كل ذلك من الأهواء الخفيّة التي تَعرِض للعدل وتؤثر عليه، والله - جلّ جلاله - يقول: «إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا (*) فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا (*) وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» (سورة النساء:135).
والتجربة الإنسانية تُثبت أن الهوى أغلب، وأن العدل ما لم يُحرَس بقوانين صارمة فإنه سيذهب ضحية الأهواء الخاصة.
لقد تطورت الخبرة البشرية في اكتشاف ضمانات العدل، ومحاربة الأهواء الخاصة في الحكم، واشترطوا في ذلك استقلال القضاء؛ حتى لا يكون أداة طيِّعة في الظلم، واشترطوا إجراءات كثيرة تجعل النظام مستعصيا قدر الإمكان عن الاستغلال، ومؤديا لدور العدالة بين الناس. نعم، إن كل ذلك لن يغني عن التقوى والنزاهة الشخصية، لكن النزاهة الشخصية هي أيضا لا تغني عن تطوير القضاء وإجراءاته بما يضمن سدّ الذرائع إلى الظلم.
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة