لماذا قال تاتار القرم لا للكرملين؟ - محمد السماك

 ماذا يعني أن يصوّت المسلمون التاتار في القرم ضد انضمام شبه الجزيرة الأوكرانية الى الاتحاد الروسي؟

 
لا شك في أن التاتار كانوا يعرفون جيداً أن نتائج الاستفتاء ستكون لمصلحة الانضمام، ذلك أن أكثرية السكان هم من أصل روسي.
 
ولا شك في انهم كانوا يعرفون أيضاً عواقب التصويت السلبي، ليس فقط على صعيد علاقاتهم مع سكان القرم من الروس، بل على صعيد موقف الكرملين منهم.
 
ولا شك في انهم كانوا يعرفون كذلك حجمهم كأقلية لا تزيد على 13 بالمائة من السكان. وأن تصويتهم ضد رغبة الأكثرية سوف تكون له عواقب انتقامية فيما بعد.
 
ومع ذلك قالوا لا للانضمام الى روسيا.. ولا للرئيس فلاديمير بوتين. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا؟
 
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التوقف أمام التجارب الثلاث التالية:
 
تتمثل التجربة الأولى في موقف روسيا من الجمهوريات الاسلامية في آسيا الوسطى التي تمكنت من الاستقلال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، مثل أوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وأذربيجان، وتلك التي حاولت في القوقاز وقمعت مثل الشيشان وتاتارستان.
 
فالموقف الروسي من شعوب هذه الدول ذات الأكثرية الاسلامية كان موقفاً فوقياً واستعدائياً بعد الاستقلال، وكان موقفاً استغلالياً وابتزازياً قبل الاستقلال.
 
أما التجربة الثانية فتتمثل في موقف الاتحاد الروسي من تداعيات ما بعد انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي في البلقان. فقد تعرض المسلمون في البوسنة والهرسك الى مجازر ابادية على يد القوات الصربية. وفي بلدة سيبرينتشا وحدها قتل الصرب بدم بارد أكثر من سبعة آلاف مسلم (رجل وامرأة وطفل) لمجرد أنهم مسلمون. مع ذلك وقف الكرملين مدافعاً عن الصرب ومغطياً جرائمهم. وعلى العكس من ذلك اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقفاً انسانياً متعاطفاً. فقد كشف الموقف الغربي عن الجرائم الجماعية وتمكن من احالة مرتكبيها أو بعضهم- الى محكمة العدل الدولية في لاهاي. وصدرت بالفعل عن المحكمة أحكام بالإدانة.
 
ان المقارنة بين موقف موسكو الداعم لمرتكبي الجرائم ضد الانسانية في البلقان، وموقف الغرب المتعاطف مع الضحايا، تشكل درساً للتاتار في شبه جزيرة القرم، وهو عدم الثقة وعدم الاطمئنان الى موقف الكرملين.
 
ومما يعزز دروس هذه التجربة، الموقف الروسي من قضية كوسوفا التي كانت تحت السيطرة الصربية رغم أن أكثر من 95 بالمائة من شعبها هم من المسلمين الذين يتحدرون من أصول ألبانية. وعندما حاولت كوسوفا الانفصال كغيرها من مناطق البلقان عن الاتحاد اليوغسلافي المنهار، حاولت بلغراد بدعم من موسكو قمع محاولتها بالقوة العسكرية.. ولقد استمر قصف مدن وبلدات كوسوفا على مدى أكثر من عام الى أن تدخلت الولايات المتحدة وفتحت الطريق أمام مبادرة دولية لاجراء استفتاء ادى الى اعلان استقلال كوسوفا عن صربيا. وهو الاستقلال الذي لم تعترف به موسكو حتى الآن.
 
ويشكل تزامن الأزمة في أوكرانيا مع الأزمة في سورية، أساس التجربة الثالثة التي تعلم منها التاتار في القرم المزيد من الدروس والعبر. فقد وقفت روسيا الى جانب النظام السوري ودعمته عسكرياً ومالياً وسياسياً في الوقت الذي تؤكد احصاءات المنظمات الدولية ان عدد ضحاياه تجاوز 150 ألفاً من القتلى، اضافة الى ملايين من المهجرين. ورأى التاتار كيف ان الفيتو الروسي أجهض كل المحاولات التي حاول مجلس الأمن الدولي أن يقوم بها لتحقيق تسوية سياسية توقف سفك الدماء وتدمير البلاد. واستخلصوا من ذلك ان ما يراه الرئيس بوتين في مصلحة الكرملين أو في مصلحته الشخصية، يأتي أولاً، وانه فوق كل اعتبار انساني.
 
فوق ذلك كله، ربما لم يكن التاتار بحاجة الى كل هذه التجارب المستجدة حتى يتخذوا الموقف السلبي من سياسة الرئيس بوتين. ان لهم تجربتهم الخاصة مع الكرملين حتى في العهد القيصري.
 
فقد كان التاتار يشكلون الأكثرية السكانية الكبرى في شبه جزيرة القرم عندما احتلتها روسيا القيصرية وشنت عليهم حرب ابادة، حيث قتل منهم أكثر من 350 ألفاً في ذلك الوقت، وهجر الى تركيا المجاورة أكثر من مليون (يتحدر وزير خارجية تركيا الحالي داود أوغلو من أصول تاتارية). حدث ذلك بعد تدمير وإحراق مساجدهم ومدارسهم ومدنهم ومصادرة أملاكهم.
 
ففي ايام العهد القيصري كان عدد التاتار حوالي العشرة ملايين، وبعد الحرب العالمية الثانية انخفض هذا العدد الى قرابة المليون فقط. ذلك ان التاتار أبدوا تعاطفاً مع بداية الحرب مع ألمانيا النازية، لا حباً بالنازية ولا بهتلر، ولكن نكاية بالكرملين وستالين، وأملاً في أن ينتصر الألمان وأن يحقق هذا الانتصار أملهم برفع كابوس الاضطهاد الروسي الذي يعانون منه.
 
ولكن بعد هزيمة ألمانيا، انتقم ستالين منهم شر انتقام، فساقهم كالأغنام الى مجاهل سيبيريا حيث قضى مئات الآلاف منهم برداً وجوعاً..
 
لم يعد التاتار - أو القلة الباقية منهم - الى شبه جزيرة القرم الا بعد انضمامها في عام 1954 الى أوكرانيا حيث استعادوا بعض حقوقهم وأملاكهم. ولذلك فانهم يتعاطفون مع أوكرانيا ولا يثقون بروسيا.
 
لقد راهن التاتار بامتناعهم عن التصويت لمصلحة الانضمام الى روسيا على أمرين أساسيين. الأمر الأول هو وحدة أوكرانيا، والأمر الثاني هو التزام المجتمع الدولي وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي باحترام سيادة أوكرانيا ووحدتها. فهل يخسرون الرهان على الغرب كما خسروا الرهان على ألمانيا النازية؟.. وماذا سيحل بهم اذا تكرست هذه الخسارة مرة ثانية؟.. وأي انتقام سوف يتعرضون له على يد الكرملين وسيده الجديد؟..
 
قبل أوكرانيا، راهنت جورجيا عل الغرب وخسرت. وبعد جورجيا راهنت الثورة السورية وخسرت. ويبدو انه في حسابات الرئيس الأميركي باراك أوباما، فانه مهما كان ثمن هذه الرهانات الخاسرة مرتفعاً انسانياً، فانه يبقى دون الثمن الذي قد يجد العالم نفسه مضطراً لدفعه اذا تحول الصراع مع الكرملين الى صراع مسلح. وهذا صحيح فعلاً. ولكن الصحيح أيضاً هو ان الرئيس بوتين يعرف ذلك.. وانه يتصرف على أساس ذلك أيضاً!!
 
صحيح ان بوتين ليس ستالين. وصحيح ان عالم اليوم هو غير العالم الذي كان سائداً في العهد الستاليني بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن من طموحات بوتين المعلنة اعادة صناعة الامبراطورية الروسية. فهو يعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي أكبر خطأ في التاريخ الحديث. ولذلك فانه يعمل على تصحيح هذا الخطأ. أو لعله يحاول وقف امتداداته أولاً من خلال التصدي لتوسع حلف الأطلسي شرقاً.. بضم دول الجوار الروسي الى الحلف؛ وثانياً من خلال وقف امتداد النفوذ الاميركي في دول آسيا الوسطى عبر اتفاقيات استثمار النفط والغاز.
 
لا يملك التاتار - أو لم يعودوا يملكون - من القوة ما يمكنهم من الدفاع عن وجودهم وعن حقوقهم الوطنية. كل ما يملكونه هو أن يمتنعوا عن التصويت!!
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة