مسلمو «القرم» .. أيتام على موائد اللئام

 تسابِق الأخبار الزمن في نقل أخبار الصراع الدائر في أوكرانيا، ذلك البلد الذي انفرط من عقد الاتحاد السوفيتي ضمن منظومة من الدول السوفيتية القديمة، لكن روسيا التي تصر على وراثة الاتحاد السوفيتي المنفك في السيطرة على دول الاتحاد القديمة؛ تأبى أن تترك تلك الدول دون محاولة الاستحواذ عليها، ويزيد من حمى محاولتها ذلك اجتياح النفوذ الأمريكي لتلك الدول في صورة قواعد عسكرية واقتصادية مقابل حفنة من المساعدات أغرقت معظم دول المنطقة؛ وذلك في مقابل رحيل القواعد الروسية، حتى باتت روسيا منكمشة داخل حدودها تقريباً، ويهددها النفوذ الأمريكي في عقر دارها، وتطرق القواعد الأمريكية أبوابها.

روسيا استيقظت من غفوتها بعد ما باتت القواعد الأمريكية تغرق دول آسيا الوسطى، وتحاول التشبث بما بقي من نفوذها في أوكرانيا؛ وذلك سبب الصراع الساخن هناك بين أمريكا وروسيا على تولية النظام التابع لأي منهما في أوكرانيا.. كان هناك رئيس تابع لموسكو، ثم حدثت مظاهرات الثورة البرتقالية؛ فأنتجت رئيساً تابعاً لأمريكا، ثم اشتغلت الثورة المضادة لتعيد النظام القديم؛ فانفجرت مظاهرات أعادت النظام المنتَخَب؛ فحاصرت روسيا أوكرانيا وضمت إليها شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا، وسيطرت البحرية الروسية على سبع قطع بحرية أوكرانية، كما احتلت قاعدة عسكرية أوكرانية هناك، محاوِلة إنهاء الوجود الأوكراني، ومحاصرة نفوذها وتهديدها في عقر دارها.
وبهذا انتقلت شبه جزيرة القرم من النفوذ الأوكراني إلى النفوذ الروسي، وباتت تلك الجزيرة -وهي أرض إسلامية إذ يمثل المسلمون غالبية سكانها- يتقاذفها المتصارعون، وبات أهلها كأغلبية الشعوب المسلمة في دول الاتحاد السوفيتي المنفك كالأيتام على موائد اللئام، وهكذا حال المسلمين في معظم دول الاتحاد السوفيتي المنفك.. منطقة القوقاز (الشيشان والأنجوش.. وغيرهما)، ودول آسيا الوسطى (أذربيجان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان.. وغيرها)، لا حول لهم ولا قوة، وإنما يسيطر عليهم إما النفوذ الروسي أو الأمريكي أو كلاهما، يتنافسان والنظم الحاكمة تتحرك وفق مصالحها هناك.
أعود إلى شبه جزيرة القرم.. ففي حوار أجراه معه الزميل شادي الأيوبي من أثينا يقول "سيران عريفوف"، رئيس الهيئة التشريعية في اتحاد المنظمات الاجتماعية "الرائد" في أوكرانيا، وعضو الإدارة الدينية لمسلمي القرم: "دخل الإسلام شبه جزير القرم في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين. وتسمية "القرم" تسمية تترية تعني "القلعة"، وكانت تضم مناطق ما يسمى الآن شبه جزيرة القرم، أما تسمية التتار فهي تسمية لاحقة لا علاقة لها بالمغول التتار، وفق تفسير المؤرخ د. محمد صبحي عبد الحكيم.
قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية مسلمة توالى على حكمها خمسون خاناً.
عام 1474م أصبحت حليفاً للدولة العثمانية، واستمر هذا الحلف إلى عام 1774م، عندما دخلت القرم تحت الوصاية الروسية.
بدأت معاناة تتار القرم نتيجة ضعف الدولة العثمانية والحروب الكثيرة مع الدولة الروسية، تخلت الدولة العثمانية عن القرم، ووقعت اتفاقية عرفت بمعاهدة "كوجك قينارجه"، نصت على منح القرم استقلالاً ذاتياً عن الدولة العثمانية عام 1774م، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه الجزيرة، ولكن الروس بقيادة الإمبراطورة "يكاتيرينا الثانية" أخلّوا بالاتفاقية، واحتلوا الجزيرة عام 1783م، وأحرقوا ودمروا عاصمتها ونحو 21 ألف معلم إسلامي، بين مسجد ومدرسة وكتاب وغيرها تعرض معظمها للتهديم، وتعرض أهلها للتهجير في دول آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا ورومانيا للتهجير، بعد أن مورست ضدهم شتى أنواع العنف والتمييز.
كان أعنفها على يد "ستالين" في 18 مايو 1944م، عندما قام بتهجير جميع السكان التتار إلى آسيا الوسطى وسيبيريا (حوالي 300 ألف مسلم جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء)، في عربات قطار مخصصة للحيوانات، وفي ظل برد قارس قضى على عشرات الآلاف منهم، بعد ذلك تمّ تغيير 80% من أسماء المدن والقرى والبلدات القرمية إلى أسماء روسية، واستُجلب الروس والأوكرانيون للعيش في القرم بدلاً من التتار الذين صودرت أراضيهم وممتلكاتهم بعيد التهجير.
ومع بداية انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م، بدأ التتار بالعودة التدريجية إلى القرم ليجدوا أنفسهم أقلية (20% من السكان) وليجدوا بيوتهم قد سُكنت من قبل الروس، فسكن معظمهم في قرى السهول والجبال النائية الفقيرة التي تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية. انتهى كلام الأستاذ "سيران عريفوف".
وهكذا، فقصة المسلمين في شبه جزيرة القرم تجسد محنة المسلمين في شتى بقاع الاتحاد السوفيتي المنفك عبر التاريخ، والتي تحاول روسيا تكرارها اليوم مع المناطق الإسلامية الضعيفة كمنطقة القوقاز وشبه جزيرة القرم، وينازعها في ذلك النفوذ الأمريكي المتنامي هناك، وهي في نفس الوقت تحكي قصة حروب الإبادة ضد المسلمين عبر التاريخ في شتى بقاع الأرض، وما يجري اليوم في أفريقيا الوسطى وكشمير وبورما وغيرها هو استمرار لنفس المسلسل، بل إن ما يجري في سورية ومصر والعراق يمثل وجهاً آخر لنفس الصورة.. لكنه ينطلق نحو نفس الهدف.
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة