المزاح المشروع - الشيخ ندا أبو أحمد

 كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يداعِب مَن حولَه، ولكن لا يقول إلاَّ حقًّا، وقد مرَّ بنا في الحديثِ الذي أخرجه الترمذيُّ في "الشمائل" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسولَ الله، إنَّك تداعِبنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نعم، غير أنِّي لا أقولُ إلا حقًّا))؛ (صححه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية: رقم 202)، وفي روايةٍ عند الإمام أحمد: ((إنِّي وإِنْ داعبتُكم، فلا أقولُ إلاَّ حقًّا))؛ (صحيح الجامع: 2509)، (الصحيحة: 1726).

 
• يقول جابر رضي الله عنه كما عند البزَّار: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الوحيُ أو وعظَ، قلت: نذير قومٍ أتَاهم العذاب، فإذا ذهبَ عنه ذلك رأيتَه أطلقَ الناسِ وجهًا، وأكثرَهم ضحكًا[1]، وأحسنَهم بِشرًا".
 
• يقول الإمام الخطابي رحمه الله: "وسُئِل بعضُ السَّلَف عن مزح الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: كانَت له مهابة، فكان يبسط الناسَ بالدُّعابة". ا.هـ؛ (غريب الحديث: 2/ 163).
 
ومن صور مزاح النبي صلى الله عليه وسلم:
ما أخرجه أبو داود والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً استحمَل[2] رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إنِّي حامِلُك على وَلَدِ النَّاقة))، فقال: يا رسول، ما أصنَع بولد النَّاقة؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبلَ إلا النوقُ)).
 
• قال صاحب عون المعبود رحمه الله: "لمَّا كان المتعارَف عند العامَّة في بادي الرَّأي استعمال ولدِ النَّاقة فيما كان صغيرًا لا يصلُح للركوب، وإنما يقال للصَّالح: الإبلُ - تَوَحَّش الرجلُ على فهم المعنى...، فالإبل ولو كبارًا أولادُ النَّاقة، فيَصْدُق ولد النَّاقة بالكبير والصغير".اهـ؛ (عون المعبود: 13/ 343).
 
• ويقول علي القارِي رحمه الله: "أراد به المباسَطة له والملاطفة".
 
• ومن مزاح النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما ذكره صاحبُ "الإحياء" عن زيد بن أسلم قال: "إن امرأةً يُقال لها: أم أيمن، جاءَت إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: إنَّ زَوجي يدعوك، قال: ((ومن هو؟ أَهو الذي بعينِه بياضٌ؟))، قالَت: والله ما بعينه بياض، فقال: ((بلى، إنَّ بعينه بَيَاضًا))، فقالت: لا والله، فقال: ((بلى، إنَّ بعينه بياضًا))، فقالت: لا والله، فقال: ((مَا مِن أحدٍ إلاَّ وبعينه بياض))؛ (رواه ابن أبي الدنيا).
 
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد البياض المحيط بالحَدَقة، وهي فهِمَت أنَّه البياضُ الذي على الحدقَة ويسبِّب ضعفَ البصر (الماء على العين).
 
• ومن مزاح النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الإمامُ أحمد وأبو يعلى وابن حبَّان من حديث أنس رضي الله عنه: أنَّ رجلاً مِن أهل البادية كان اسمه زَاهِرًا، كان يُهْدِي للنبي صلى الله عليه وسلم الهديةَ من البادية، فيجهِّزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يَخرج، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إن زَاهِرًا بَادِيَتُنَا[3]، ونحن حاضروه[4]))، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحبُّهُ، وكان رجلاً دميمًا[5]، فأتاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو يبيعُ متاعَه، فاحتضنَه مِن خلفِه وهو لا يُبْصِره، فقال الرجلُ: أَرْسِلْني، مَن هذا؟ فالتفتَ، فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يَألو[6] ما ألصَق ظهرَه بصدرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين عرفَه، وجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن يشتري العبدَ؟))، فقال: يا رسولَ الله، إذًا واللهِ تجدني كاسدًا[7]، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لكن عِند اللهِ لستَ بكاسدٍ))، أو قال: ((لكن عندَ الله أنتَ غالٍ))، وزَاهِرًا رضي الله عنه كان حرًّا، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن يشتري العبدَ؟)) يقصد به أنه عبد لله، فهو يمازِحه ولكن لا يقول إلا حقًّا.
 
• ومن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذيُّ في الشَّمائل المحمديَّة عن عائشة رضي الله عنها:
أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أتَتْه عجوزٌ من الأنصار، فقالَت: يا رسولَ الله، ادعُ اللهَ أن يُدخِلني الجَنَّةَ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أمَّ فلانٍ، إنَّ الجَنَّةَ لا تدخلها عجوزٌ))، تقول عائشة رضي الله عنها: فذهب عنِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى، ثمَّ رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقَّةً وشدَّة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ ذلك كذلِك، إنَّ الله تعالى إذا أدخلهنَّ الجنة حولهنَّ أبكارًا))؛ (حسنه الألباني في مختصر الشمائل: برقم 205، وهو في الصحيحة: 2987).
 
• وفي رواية عند الترمذي أيضًا من حديث الحسن قال: "أَتَت عجوزٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يُدخلني الجَنَّة، فقال: ((يا أمَّ فلانٍ، إنَّ الجَنَّة لا تدخلها عجوز))، قالت: فولَّت تبكي، فقال: ((أخبِروها أنَّها لا تدخلها وهي عجوز؛ إن الله تعالى يقول: ﴿ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا ﴾ [الواقعة: 35 - 37])).
 
[1] وقوله: "وأكثرهم ضحكًا"؛ أي: تبسُّمًا، كما جاء في مسند الإمام أحمد: "أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسُّمًا"، وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قط مُستجمعًا ضاحكًا حتى أرى لهواته، إنَّما كان يبتسم"، وعند الإمام مسلم من حديث سماك بن حرب قال: "قلت لجابر بن سمرة رضي الله عنه: أكنتَ تجالس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، كان طويلَ الصَّمْت، وكان أصحابُه يتناشدون الشِّعرَ عنده، ويذكرون أشياء مِن أَمْر الجاهلية ويضحكون، فيبتسِم معهم إذا ضحكوا".
 
 
"الالوكة"