الدين : قراءة رشيدة ! - عبدالرحمن العسلي

لإحداث التغيير يجب أن يتوفر شيئان مترافقان ، و الذان هما : الفكرة و الانسان .
 
تمثل الفكرة خارطة طريق ، و هي إسقاط نظري ذهني تعطي تقديرا ما لإمكانية و كل ما يتعلق باسقاطها على الواقع ، و الإنسان هو ذلك الطرف الذي يستطيع القيام بذلك ؛ أي القيام بإسقاط الفكرة عمليا .
 
يمكنني القول : إن الدين ما هو إلا الفكرة ، و سيظل مجرد فكرة ما لم يكن هناك إنسانا يسقطه على الواقع ، و من هذه النقطة يمكن توصيف مشكلتنا اليوم كمسلمين .
 
الدين عبارة عن خطط استراتيجية و خارطة طريق لهذا الإنسان "الفاعل" الذي يعتبر إعمار الأرض و تكوين مجتمعات راشدة الأهداف الأساسية له ، و عندئذ سيكون للدين "الفكرة" أهمية وجود .
 
تاه إنسان اليوم في تعامله مع الدين ، و حين راح يعطي للدين تعريفا آخر اختلت العلاقة بين الطرفين ، و لم تنتج هذه العلاقة المختلة غير نتائج سلبية أبرزها : الفشل !
 
و يحتاج انسان اليوم ، بتقديري ، إلى إعادة ترتيب و صياغة الأولويات و العمل عليها و ترسيخها كقيم لا يمكن أن تمس أو تتعدى ، و بعد ذلك سيترتب كل شيء : الحياة ، الانسان ، المنطق ، العقل ، و التعايش .
 
يقدم القرآن هذه الاستراتيجية و تلك خارطة الطريق ، و ما نحتاج هو قراءة هذا الكتاب و التعرف عليهما ، و على الأهداف و الآليات و مجالات التركيز و مصفوفة الأعمال و الأنشطة التي تحقق ذلك . هو كتاب ، و الكتاب يهدف أساسا لإيصال رسالة و تكوين رؤية و اقتراح آليات و أفكار في الشأن الذي جاء لأجله .
 
أتت فكرة الصلاة لتتيح للإنسان مساحة للتعرف على تلك الاستراتيجية و خارطة الطريق ، فالإنسان يقضي وقتا خلال فترات اليوم أوقات الصلاة في قراءة القرآن ؛ أي في التعرف و دراسة ما يطرح ، و أعتقد أن هذا الوقت كاف للإنسان الذي يريد أن يعرف للحصول على ما يريد .
 
من الواضح أن عددا كبيرا من الأفراد في الوقت الراهن يعيشون من غير رؤى ، فلم تعمل مناهج التعليم على إكساب الأفراد مهارات القيام بهذه المهمة الجوهرية في الحياة ، كما أنهم لم يستطيعوا تكوين هذه الرؤى عن طريق مؤسسات الدين نتيجة لإنحراف اهدافها و آلياتها و مناهجها ، ، بالتالي فإن ضرورة التفكر الفردي في الكتاب "القران" لتشكيل هذه الرؤى ، أمر مهم ، لا غنى عنه ، و لا عذر لمن تجاهله أو هرب منه . 
 
و لعل من أبرز الأسباب التي منعت الأفراد من القيام بذلك يتمثل في (اولا) : اعتقادهم بأن هذا الكتاب كتاب تعبدي فحسب ، و جاء لإتمام الطقوس الدينية و تقتصر مهمته عند هذا الحد ، و (ثانيا ) : التجهيل المتعمد و العميق الذي قامت به السلطات الحاكمة و رجال الدين و ذلك لأجل مصالحها و منافعهما .
 
لقد قدم دين الإسلام وسائل ابتكارية للحصول على المعرفة و هيأها لتصبح مساحات للتعلم و التفكير و تبادل للمعارف ، لعل أهمها ما يلي :
1. الصلاة .
2. المساجد .
3. المسؤلية المجتمعية . ( الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، النصح ، الدعوة ، ... )
4. شهر رمضان .
 
فمن خلال الصلاة ، يستطيع الفرد التعلم و بناء قدراته و بالتالي تصميم خطته الفردية سواء الآنية أو المرحلية أو الاستراتيجية ، فانطلاقا من الخلفية المعرفية ، و كمية المعلومات ، و التجارب المقدمة ، و الخصائص المختلفة للإنسان و الحياة و المجتمعات و الكون ، و الأفكار المقترحة في هذا الإطار ، يمكن القول : إن هذه المواد و المعلومات و المعرفة قادرة لأن تمكن الإنسان من صياغة رؤيته و تحديد مشروعه و كتابة خطته ، كما انه يستطيع ، أيضا من خلال الصلاة ، تقييم إنجازاته ، و ما حققه من هذه الخطة بشكل دوري ؛ الأمر الذي يعني تغذية راجعة تعمل على تطوير خطته و بالتالي تحقيق أهداف أعلى بجهد أقل و بكفاءة عالية ، و كل ذلك يعني الفعالية و النجاح .
 
و بنظرة موضوعية منصفة فاحصة ، لا يمكن تجاوز حقيقة أن المسجد كفكرة و كوسيلة من أبدع الأفكار ، و أفضلها ابتكارية و عبقرية ؛ و ذلك لأبعادها الكثيرة في إطار تمكين المجتمعات من امتلاك أدواتها الذاتية التغيرية التي لا تكون بيد القوى المسيطرة أو طرف لا يمثل قناعة المجموع ، فالمسجد عبارة عن مساحات لها خصوصيتها و مصادر حمايتها ليتمكن الأفراد من مناقشة أفكارهم ، و القيام بالتخطيط لمصالحهم ، و إدارة شؤنهم الخاصة ، قنوات للتواصل و التعارف و التشارك .
 
إن فكرة المسجد لا تختلف كثيرا عن فكرة العمل المجتمعي في عصرنا هذا ، و لقد بات من الواضح دور و أثر و أهمية المنظمات المجتمعية الطوعية غير الربحية في الدول المتقدمة و غيرها ؛ و لعل فلسفتها ، التي هي ذات فلسفة فكرة المسجد ، القائمة على مشاركة المجتمع ، و حشد طاقته ، جعل لها هذا الدور و ذلك الأثر و تلك الأهمية .
 
و لعل من البدهي الإشارة إلى أن قدرة و إمكانية الأفراد ، لاسيما في المجتمعات الفقيرة و المتخلفة ، المالية و البشرية و الإدارية تجعل أمامهم تشكيل هذه المساحات و الأطر أمرا في غاية الصعوبة مما ينعكس على عمليات جوهرية في بناء قدرات الأفراد كالتعلم و الوعي و تبادل الخبرات ، و بالتالي يؤثر بشكل مباشر على وضع المجتمعات بشكل عام .
 
إذن ، يمكن الخلوص إلى أن فكرة المسجد التي قدمها الإسلام أداة ابتكارية لها أهميتها في إيجاد المساحة الكاملة للأفراد للتفكير و تشكيل الرؤى و تبادل الخبرات و المعارف مع بعضهم البعض ، كما أن لها أهميتها كبنية تحتية لتمكين الأفراد لإدارة شؤنهم و القيام بالتواصل و التشارك ، بالإضافة إلى بعدها الجمعي المتمثل بالمسؤولية المجتمعية .
 
إن فكرة دين الإسلام تقوم على تمكين الأفراد و بناء قدراتهم و بالتالي بناء المجتمعات و تطويرها ، و هذا يقوم على المنطلقات الأساسية :
1. تبني مشروع عالمي قيمي و أخلاقي و طوعي .
2. الانطلاق من ان الاخرين يمتلكون الحرية و الاختيار الكاملين ، فإن الأدوات كلها ترتبت بناء على ذلك ، و لعل أهمها التوعية (الدعوة ) ، فالتعليم ، فالتزكية (ترشيد الطاقات ) ، فالتنمية المستدامة (الاستخلاف ) .
 
و استناد على ذلك ، فإن الفلسفة الواضحة لدين الإسلام يمكن رؤيتها من خلال إيلاء الأهمية كلها للفرد فالمجتمع كونهما اللبنة الأساسية ، و البنية "المقدسة" ، و هذا يقودنا إلى إدراك الفكرة التالية : تمكين المجتمعات من السلطة ، أي أن المجتمع هو مالك السلطة و مانحها ، و بالتالي فإن التركيز كله كان منصبا على ترتيب هذا المجتمع و تأهيله ليكون قادرا على القيام بهذه المهمة .
لقد قدم الإسلام أدوات ابتكارية في غاية العبقرية في هذا الخصوص ، فالنصح ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و ترتيب العلاقات من خلال الأسرة فالجيران فالتكتلات البشرية الأكثر تعقيدا ، و النفقة و الصدقات والتكافل الاجتماعي و الزكاة إلى غير ذلك من الأفكار العبقرية .