كيف تم إعداد أول وثيقة في الإسلام ؟ - عبد اللطيف مهيوب العسلي

لم يكن من السهل قبل 1400 سنة 
أن يتم إنشأ وثيقة توافقية  تنضم الحياة الدينية  والاجتماعية 
والسياسية وتنشيء دولة توافقية بين طوائف  متنوعة ومختلفة في مختلف شؤونها  تقوم على قواعد العدل ، ولكنه جائز وليس مستحيلا . أما  أن يتم انشاء مثل هذه الوثيقة وتطبيقها على أرض الواقع بأكمل وجه  ، ويضاف إليها  طابع البر والإحسان وإلتزام المؤمنين وفي مقدمتهم الرسول الكريم بها مع طوائف تقف ضد منهجهم ، دون مطالبتهم بالمثل عدى العدل .
 فهو الأمر الذي أعجز الفلاسفة والباحثين والعلماء والمفكرين ، فهم ما أودع  في بره وحلمه ، وفي إحسانه وخلقه،  وسيبقى كذلك للأخرين وكل عجزه يكفيه  ،  صفة لازمة بصاحب الخلق العظيم ( حجر زاوية اﻷولين و اﻷخرين ) يقيسون بنيانهم عليه ، 
ويرتشفون منابع نوره دون أن يرتقوا الى لمنزلته .   
فأنظر بعض ماسطرته وثيقته .
(.وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم.
.وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه،)
تلبية لنداء رب العالمين ۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) المائدة. 
 
استأذن  القاريء الكريم لأنتقل به الى القرى المتناثرة في وادي يثرب التي تحولت  بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى مدينة المدائن وعاصمة العواصم، أول مدينة منورة  أسسها رسول النور والهدى . وصارت المدينة التي شرفت بنزول آخر الرسالات فيها ، وشرفت بهجرة   أفضل الرسل وكما شرفت بأفضل المهاجرين كما.
 
 
  تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بعد هجرته بثلاث أسس 
بنا أول مسجد أسس على التقوى 
والثاني المؤاخاة
والثالث صحيفة المدينة او وثيقة المدينة اول وثيقة دستورية مكتوبة في ذلك التاريخ .
 
وﻷني قد تحدثت  تحت عنوان( أول الأسس في العهد النبوي ) 1
 الذي بدأ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو تأسيس أول مسجد أسس على التقوى ، 
 
فإن الأساس الثاني هو العمل على المؤاخاة بين الذين خرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله يبتغون فضلا من الله
ورضوانا مفعمين بأرواحهم الظامئة الى الحب  وبين الذين تبوء الدار من قبلهم  ففتحوا لهم قلوبهم، بالحب و الإخلاص  فقط. فلا مكان للمصلحة الذاتية قطعًا 
بين المهاجر الذي يبلّغ رسالة ربه وبين  ومن ينصت إليه، 
وﻻ مكان للمصلحة الذاتية بين من يقدم المعنى الكامن في جوهره وبين من يتلقاه،
 وبين من يحمل كأس الحياة ومن يجمع شمله ويستعيد وعيه، وبين من يقدم المعونة ومن يستقبلها،
 إنما هي ابتغاء مرضاة الله ولا شيء غير مرضاة الله تربطهما.
فانزل الله فيهم قوله تعالى 
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) التوبة
وقوله سبحانه وتعالى :
 (( للفقراء.. الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)سورة الحشر
 
 وأما ثالث هذه الأسس في العهد المدني 
هو  إبرام معاهدة مع يهود المدينة أو يهود يثرب كما كانت تعرف قبل هجرته، وهؤلاء هم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير. والمشركين .
 
(وهو يعتبر أول دستور مدني في التاريخ، وقد أطنب فيه المؤرخون و المستشرقون على مدار التاريخ الإسلامي، واعتبره الكثيرون مفخرة من مفاخر الحضارة الإسلامية، ومَعلَمًا من معالم مجدها السياسي والإنساني.
 
إن هذا الدستور يهدف بالأساس إلى تنظيم العلاقة بين جميع طوائف وجماعات المدينة، وعلى رأسها المهاجرين و الأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، يتصدى بمقتضاه المسلمون و اليهود وجميع الفصائل لأي عدوان خارجي على المدينة.
 
وبإبرام هذا الدستور –وإقرار جميع الفصائل بما فيه- صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، والمساواة والعدل.
حوى هذا الدستور 47 بندا  وفصلها البعض الى اثنين وخمسين بندا،  خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين،
 وتشير كتب الحديث إلى أن الفقرات 1-25» التي تتناولت العلاقات فيما بين المسلمين كتبت في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه ؛ 
وأما البنود من  25 الى البند 52  فهي مرتبطة بالعلاقة بين اليهود  المسلمين والمشركين وكان مناقشتها في بيت بنت الحارث :
. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده. )
 
ومن المهم جدا معرفة أن وضع هذا الدستور في السنة الأولى للهجرة، أى عام 623م. في بيئة لم تعرف ما المدينة وﻻ ما المدنية  . 
 
ما الخيارت المتاحة ؟
ليكن معروف لديكم أنه ليس أمام أي انسان لكي يخلق نظاما جديدا للتعايش والاستقرار واﻷمن سوى طريقين 
أما القوة 
وأما الحوار والتوافق من خلال توثيق معاهدة تحفظ للجميع حقوقهم . 
ولقد استندت الوثيقة الدستورية على اساسين :
1- الأول الحوار 
2- الثاني: المشاركة مع  كل الطوائف في التشاور والموافقة عليها . 
 
إن الهم الأكبر الذي شغل المجتمع الانساني في الماضي والحاضر وﻻ شك أنه سيكون هم الأجيال في  المستقبل ...هو ارساء قواعد التعايش والسلام والأمن والاستقرار
لقد  كان هم  الرسل والأنبياء والمصلحين ....والفلاسفة يتمحور على هذه القضايا الثلاث  
القضية الدينية
القضية الاجتماعية 
القضية السياسية .
فصحيفة المدينة تضمنت الجوانب الثلاثة والحياة السياسية منها بشكل رئيسي ...
  
فتعالوا بنا - ايها السادة اﻷعزء - لنستأذن من صاحب المدينة ، لمعرفة ..كيف بدأ  وضع هذه الوثيقة والتعرف على بعض من بنودها ؟
فبحسب ما توصل إليه  الباحثون من المسلمين و المستشرقين ، *
 
أن  الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بفحص البنية الإجتماعية والدينية والسكانية للمدينة أولاً. 
 فقام بإحصاء سكّاني في المدينة، وهو أمر كان غريباً تماماً بالنسبة للتقاليد والأعراف التي كانت سائدة آنذاك.
 
 وقد تبين نتيجة الإحصاء أن عدد سكّان المدينة يبلغ 10 آلاف شخص، منهم 1500 مسلم و 4000 يهودي و 4500 من المشركين .
   
ثم خطا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم خطوة ثانية فقام بترسيم الحدود للمدينة المنورة ووضع علامات في زوايا الجهات الأربع لها، وهكذا عَيَّنَ حدود «دولة المدينة». وحسب المادة 39 من الوثيقة فإن المنطقة المحصورة في ضمن هذه الحدود والواقعة في داخل وادي يثرب (الجوف) أصبحت منطقة الحرم.
ومن أهم البنود :
 
1.هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله)، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم،
2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس.
3.المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
 
أما المادة 22.تشير وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل.
.......
ومن الملاحظ فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم
  أكد فيها على مبدا العدل والبر باكثر من مره   . إضافة الى ذلك التزم المؤمنون المتقون على أقوم الهدى والبر. 
 ومن ذلك ما تضمنته هذه المادة 
  
(وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم وأن الله على أبر هذا. وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
وأنه لا يأثم أمرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأن لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.)
________________
- معشر السادة اﻷعزاء -
  . ماذا يمكننا أن نستنتج من وثيقة المدينة : 
 أن كل مجموعة دينية وعرقية كانت في يثرب هي ضمن محيط جغرافي محدد اسمه ( المدينة المنورة ) تملك حرية ثقافية وحقوقية؛ دون أي محابة بين دين وأخر أو طائفة وأخرى .تشمل كافة الحقوق
لكل طـرف من ناحية الدين  ، وتشريع  القوانين المتعلقة بالمجتمع والمحاكمة والثقافة والتجارة والفن والعبادة وتنظيم الحياة اليومية…الخ، 
 
*( والمادة التي كانت تَضمن هذه الحقوق هي المادة رقم «25». التي تنص :
.(وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه.).. 
 
،  ,وحتى لا ينحرف اصحاب الحق جعلهم الرسول يتفقون حول مباديء محددة وواضحة وردهم الى مرجع واحد .
 
و المادة التي حددت هذا الحق هي رقم «42» .
وتنص  ( بأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله [عز و جل] وإلى محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه 
 
 وكان القرآن الكريم يؤكد لرسوله فيما يخص اليهود أن بِوُسعه النظر في دعاوى القوم إن أراد ذلك ويعطيه هذه الصلاحية ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ (المائدة: 42). 
وعلى إثر هذه الآية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخيّر مَن يراجعه منهم وكان يسألهم ما إذا كانوا يريدون أن يحكم بينهم بالقرآن أم بالتوراة؛ أي إن الرسول صلى الله عليه وسلم 
أما المادة «23» فكانت  تشير 
 إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم المطلق في الأمور الدينية للمسلمين، 
 ولكنه  يستشير الآخرين في المسائل الإدارية. وكان هذا أمراً طبيعيّاً، لأن المسلمين كانوا قد بايعوه ورضوا بالارتباط به والانقياد له منذ البداية. وهو أمر مناسب لأسس الدين الإسلامي الذي لا يفرق بين العبادة والحقوق. وهذه المادة -كمَبدَأ أساسيٍّ- تؤكّد أن الدين الإسلامي يُلزم المسلمين فقط.)  ...
 
 ... وقد يقول قائل كيف نرد الأمر إلى الله ورسوله؟ 
لله ورلسوله ميزان واحدا فقط هو العدل والحق قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ...) الأنعام. 
 وفي  الآية  التالية توضيح لنا كيف تستقيم لله  :
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135)
يمكننا استخراج كليات أساسية  :
 ويمكننا أن نستخرج كليات أساسية من أحكام هذه الوثيقة ،  يمكن لهذه الكليات الأساسية أن تكون مصدر إلهام في حل كثير من المشاكل اليوم. 
إننا ونحن نعيش في هذا العصر مشاكل عدّة مثل النـزاع العربي الإسرائيليء والنـزاعات الإقليمية ودعوى صراع الحضارات والعمليات الإرهابية نرى أننا في حاجة ماسّة إلى مشاريع تتخذ من التعاقد والحوار والمباحثات أساساً لها، أي نحتاج إلى مشاريع تؤمن بالتعددية وتسعى له. والاعتراف به واستخراج الأسس المشتركة الموجودة بينهم على قدر الإمكان والتي تشكّل أرضية قانونية تساعدهم على العيش معاً بأمن وسلام.
ما الذي نستفيده من هذه الوثيقة ؟
وإن من يمعن النظر في هذه الوثيقة وفي واقعنا سيستنتج أنها ممكن ان تفيدنا كثيرا. 
وﻷن هذه الوثيقة تجربة رائدة علينا أن نتعلم منها كيف نحل  مشاكلنا 
.....إنها تجربة فريدة أنشأها المصلح اﻷول والنبي اﻷعظم
نعم لقد أنشأ ( المدينة الفاضلة ) المدينة المنورة  التي انصهر فيها كل طوائف المجتمع بمختلف ثقافاتهم وأديانهم وأعرافهم ,وقبائلهم في بوتقة واحدة .
. إن مدينة هذا سمتُها، لَمَدينة فاضلة وسكانُها سعداء.
إن التساهل في هذه الأزمات التي يعاني منها المجتمع العربي والاسلامي والتقليل من خطرها مغالطة للنفس وتضلليل للأخرين فعلينا ان نعي جيدا 
أنه .....
لا ينال الفردُ السعادة والنجاح إلا في مجتمع ينبض أمنًا وسلامًا، ولا يصلح المجتمع أو ينعم بالسكينة والرضا إلا بأفراد تشبّعوا بروح الإيثار والإخلاص والتفاني. 
 
محال وألف محال أن يتشكل مجتمع سليم من أفراد أصيبوا بعاهات الأنانية وحب التسلط .
إنه من دواعي الحيرة والقلق ،  انتشار العداوة وسيرانها في شرايين  المجتمع من أوله حتى آخره، يأكل في جسمه من الداخل، ويذيبه شيئًا فشيئًا كسرطان يسري في العروق..
وعلينا أن ندرك 
أنه من المحال أن يحظى بالسعادة أفراد لم يجدوا مجتمعًا صحيحًا يتفيؤون ظلاله ويحتمون تحت أجنحته .
فإن أردنا اليوم  أن نصلح شأن اليمن ، شأن العراق ، وسوريا ، وليبيا ، فماذا نفعل 
يجب التوقف عن القتل  من اﻵن فصاعدا ، وترك الماضي وراء ظهورنا إنشأ قواعد جديدة للحاضر والمستقبل ، وﻻ نكون أداة لدول خارجية لا ترقبوا فينا إﻻ وﻻ ذمة  فل نتوقف من اﻵن فصاعدا عن القتل لبعضنا البعض تحت أي مبرر ، ونعقد عهدا شبيها بهذا العهد النبوي ...
ففي ظل تعاهُد كهذا فقط، يصبح المجتمع متوازنًا خفاقًا بالأمل واعدًا، ويعيش الفرد في أرجائه عزيزًا كريمًا. في ظل مجتمع آمن .
إن الفرد لا يمكن أن يعيش عزيزًا كريمًا، في مجتمع أصابه التحلل والعفن في بعض أجزائه، وحاصره الخصوم من كل جانب. حتى في لقمة عيشه ، 
 
مجتمع كهذا ﻻ يستطيع الفرد القيام بواجباته تجاه خالقه. في مجتمع كهذا، محال لأي امرئ أن ينقذ سفينته من الغرق. فما بالك إذا كان هذا المجتمع مخترَقًا من خصومه، بل ينمو ويترعرع البعض من أبنائه في مهد الأعداء وفي أكنافهم، ويلوّحون لهم بمناديل الفرح، فيصدقونهم ويَحُلّون في قلوبهم .
.من السهل مواجهة العدو الخارجي،  أما حين تنخر العداوة في المجتمع من الداخل فيدق جرس الخطر 
 
، وأن كارثة الكوارث وام الدواهي حين  يفقد المجتمع قدرته على تمييز عدوه من صديقه،
  فيحسب أشد الخصوم فتكًا به وامتصاصًا لدمائه وتمزيقًا لأعصابه؛ صديقًا حميمًا.
أجل، حينما تكون بصيرة الأمة عمياء إلى هذا الحد، ويكون الخصم مكّارًا فتّاكًا إلى هذا المدى، فذلك يعني أن العدو قد اجتاز الأسوار، وتسلل إلى الداخل، وباتت القلعة في خطر جسيم.
فيا ليتنا انتبهنا مبكرا لهذا الخطر الجسيم .
 
نسال الله ان يردنا الى جادة الحق مردا جميلا وان يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وان يعرفنا بعيوب أنفسنا وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لِهداكم اجمعين .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. 
..................................
 
الهامش 
لمصادر
(1) صحيح البخاري.
(2) السيرة النبوية لابن هشام. 
(3) دلائل وإشارات الدولة المدينة أخبار البلد / عبد اللطيف مهيوب العسلي. 
(4) الوثائق السياسية لمحمد حميد الله.
________________
الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.
مجلة حراء التركية .
 
*  المستشرق الروماني جيورجيو.
 
# وتكملة للفائدة نلحق بنود الاتفاقية :
 
وثيقة المدينة المنورة
1.هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله)، بين المؤمنين والمسلمين من قريش و(أهل) يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم،
2.أنهم أمّة واحدة مِن دون الناس.
3.المهاجرون من قريش على رَبعتهم يتعاقلون بينهم وهم يَفدُون عانِيَهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4.وبنو عَوف على رَبعتهم يتعاقلون معاقلَهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
5.وبنو الحارث [بن الخزرَج] على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
6.وبنو ساعِدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تَفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
7.وبنو جُشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8.وبنو النّجّار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9.وبنو عَمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
11.وبنو النَّبِيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
12.وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
.وأنّ المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (أي مثقلا بالدَّين وكثرة العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
12/ب.وأنْ لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13.وأن المؤمنين المتقين [أيديهم] على [كل] مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ (كبيرة) ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم.
14.ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمنًا في كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن.
15.وأنّ ذمّة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم، وأنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
16.وأنّه مَن تبعنا من يهود فإنّ له النصرَ والأسوةَ غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم.
17.وأنّ سِلم المؤمنين واحدةٌ، لا يُسالِم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
18.وأنّ كل غازية غَزَت معنا يعقب بعضها بعضًا.
19.وأن المؤمنين يُبِيء بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
20.وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدًى وأقومه، 20/ب.وأنّه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا، ولا يحول دونه على مؤمن.
21.وأنّه مَن اعتَبط مؤمنًا قتلا عن بيّنة فإنه قَوَدٌ به إلا أن يرضى ولي المقتول [بالعقل]، وأن المؤمنين عليه كافّةً ولا يحلُّ لهم إلا قيام عليه.
22.وأنّه لا يحل لمؤمن أقرَّ بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن يَنصر مُحدِثًا (مجرما) ولا يُؤوِيه، وأن من نصره أو آواه فإنّ عليه لعنةَ الله وغضبَه يوم القيامة، ولا يُؤخذ منه صرف ولا عدل.
23.وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنّ مردَّه إلى الله [عز و جل]وإلى محمد [ صلى الله عليه وسلم ].
24.وأنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا مُحاربين.
25.وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه.
26.وأنّ ليهود بني النّجّار مثل ما ليهود بني عوف.
27.وأنّ ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
28.وأنّ ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29.وأنّ ليهود بني جُشَم مثل ما ليهود بني عوف.
30.وأنّ ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
31.وأنّ ليهود بني ثَعلَبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا مَن ظلم وأَثم فإنّه لا يُوتِغ إلا نفسَه وأهلَ بيته.
32.وأنّ جَفْنَةَ بطنٌ مِن ثعلبة كأنفسهم.
33.وأنّ لبني الشُّطَيبَة مثل ما ليهود بني عوف، وأنّ البرَّ دون الإثم.
34.وأنّ موالي ثعلبة كأنفسهم.
35.وأن بطانة يهود كأنفسهم.
36.وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد [ صلى الله عليه وسلم ]. 36/ب.وأنّه لا يَنحَجِز على ثأرِ جُرحٍ، وأنه مَن فَتَك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظَلم، وأنّ الله على أبَرِّ هذا.
37.وأنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأنّ بينهم النصر على مَن حاربَ أهل هذه الصحيفة، وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبرّ دون الإثم. 37/ب.وأنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وأنّ النصر للمظلوم.
38.وأنّ اليهود يُنفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
39.وأنّ يَثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصحيفة.
40.وأنّ الجار كالنفس غير مضارٍّ ولا آثِم.
41.وأنّه لا تُجار حرمةٌ إلا بإذن أهلها.
42.وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة مِن حَدث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مَرَدَّه إلى الله [عز و جل] وإلى محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه.
43.وأنّه لا تُجار قريش ولا مَن نَصَرها.
44.وأنّ بينهم النصر على مَن دهم يثرب.
45.وإذا دُعوا إلى صلح يُصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دَعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين إلا مَن حاربَ في الدِّين. 45/ب.على كل أناس حِصَّتهم مِن جانبهم الذي قِبَلهم.
46.وأنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البِرّ المحض مِن أهل هذه الصحيفة، وأنّ البِرّ دون الإثم لا يَكسِب كاسب إلا على نفسه، وأنّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبَرِّه.
47.وأنه لا يحول هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وأنه مَن خرجَ آمِنٌ ومن قعد آمِنٌ بالمدينة، إلا مَن ظلم وأثم، وأنّ الله جارٌ لمن بَرَّ واتّقى ومحمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ].
(المصدر: السيرة النبوية لابن هشام، 2/150-151).
*****




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة