التفرقة بين مجال الدين العام، وبين مجاله الخاص - عبد اللطيف مهيوب العسلي

 التفرقة بين مجال الدين العام ، وبين مجاله الخاص . ( 1، 2)

...
 ولإن الإشتباك بين الكثير من المفاهيم ومنها الإشتباك الحاصل بين مجال الدين العام وبين مجاله الخاص الذاتي ، قد اتاح الفرصة لممارسسة الطغيان تحت ذريعة السياسية أو الدين أو تحت ذريعتهما معا ، وقد تسبب للبشرية بكوارث وويلات وحروب في الماضي والحاضر وﻻ مؤشر لتوقفها في المستقبل ، ولقد أوقفت النهضة اﻷربية حين فصلت بين الكنيسة والسياسة أنهارا من الدماء دفع ثمنها الشعوب الأوربية ولم تستثني أحدا بما فيه المتدينين أنفسهم ، حتى من كانوا ينتسبون الى دين واحد، لكن هذه التجربة لم ينجح كل من تحمس لتطبيقها في بلداننا. العربية والإسلامية . وﻻ أعتقد نجاحها في المستقبل . لسبب بسيط وهو أن القرآن قد سطر القواعد العامة في مجال الدين العام بمنتهى الوضوح والدقة ، وفصل بين مجال الدين العام ومجاله الذاتي الخاص فإذا كان المجال العام ملزم للجميع فإن مجاله الخاص ( ﻻ إكراه في الدين ) ومحاولة فصل ما هو مفصول عبث وحمق وحيلة خبيثة لنسف التدين من أصله . 
 
وﻻ أدعي استطاعتي حل هذا الاشتباك بمقال أو أكثر أو كتاب أو أكثر ولكنك قد توافقني الرأي أن الحاجة ماسة لدراسة وافية ومراجعة جادة. لكل ما يتعلق بهذه الظاهرة وفصل المفاهيم عن بعضها ، فقد اختلطت الثقافات والعادات، والممارسات بجوهر الدين ، ومارس البعض دور الإله باسم الدين ....الخ ولم يقتصر الخطر على من هم بدين أخر بل عم الكل بما فيهم ابناء الدين الواحد فكل يكفر اﻷخر وكل يدعي الحقيقة ويصوب سهمه ضد أخيه ولم يشفع ﻷي منهما اشتراكه بالدين والوطن هذا حال عالمنا العربي على وجه الخصوص ، ولكي نقف عند هذه المشكلة يجب الإعتراف بوجودها أوﻻ ، وما محاولة الفصل بين مجال الدين العام ، ومجاله الخاص إﻻ أحد الخطوات للتعرف على هذه المشكلة ، أو بمعنى أدق أنه يستحق النقاش . 
 
وبهذا الخصوص أتقدم بالشكر للكاتب  السوداني عبد الحليم ...الذي سبقني وكتب موضوعين لهم علاقة بطريقة ما بما تناولته  اﻷول بعنوان  ( الدين في المجال العام (1) ) والموضوع الثاني (الفصل بين الدين والتدين (2) )، وكذلك استاذي القدير  البروفسور سيف العسلي الذي ناقشت معه الجوانب المختلفة المتعلقة بهذا المفهوم بمجاله العام والخاص و  إلى جانب قراءتي ما كتب في مجال الحريات والحقوق الإنسانية لرواد عصر النهضة ، من ذلك (جون لوك )، و (توماس جيفر سون ) وغيرهم من اولي الفضل   ، وقبل هذا وذاك أدين للكتاب المعلم القرآن الكريم  منتهى كل علم . وتأويل كل كلام.    
  وﻵن الدين يتعلق بهذا الإنسان الواعي ، والحر ، والعاقل والاجتماعي ، والسياسي ..
 
وﻷن أهم ما فضل  الله الإنسان وميزه عن غيره من مخلوقات اﻷرض هي كرامته الإنسانية، وأعظم عطاء  أعطاه الله من سلك منهم سبيل الرشد والعدل أن صبغه بصبغة اﻷيمان  فقد صبغ الجسد بالحس فكان الحس ألطف من الجسد وصبغ الحس بالعقل فكان العقل ألطف من الحس ، وصبغ العقل بالعلم فكان العلم ألطف من العقل (( صِبْغَةَ اللَّهِ ۖ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ۖ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138 )) البقرة
 
  . لذلك جعل الله ما هية  الإنسان مركبة  من الوعي ، والحرية ، والمسؤولية ، ما ترتب عليه ما  يدين وما يدان ، من خلال تصرفاته وسلوكه واستحقاقه للمكافئة  ، أو استحقاقه العقاب ، فالعقل الذي وهبه الله لكل انسان والذي بموجبه مكنه من إدراك ذاته وما ضيه وحاضره ، والتخطيط لمستقبله، فقد أفهمه الله الخطاب ورد الجواب ، ومن أجل ذلك كان هذا المخلوق من بين مخلوقات الأرض هو الذي يفهم الله ( الخالق) ويفهم نفسه ، ويفهم مجتمعه ، ويفهم الواقع الخارجي ، ويتصرف وفق إرادة واعية تمكنه من الإنسجام مع نفسه ومع من  حوله  . ومن أجل ذلك عقل عن ربه ، وما الدين اﻻ السمة البارزة من سماته ، ما يعني أن الدين بمجاله العام الواسع يعني أن كل مخلوق مدين ( بفتح الميم وكسر الدال ) أي أنه خاضع 
للمسأءلة العاجلة والآجلة . بطيعة خلقه واحتياجه لغيره وهذه الحاجة ﻻ بد ان تحكم بقواعد .
 
من التعاريف اللغوية  للمعنى اللغوي أن الدين يشتمل على الطاعة والإنقياد ، والمساءلة، والمعرفة  اي وجود ( التشريعات والكتب  ، الدساتير ، والقوانين ....) ويوم الدين يوم الجزاء . وجاء في الآيات الحكمية قوله تعالى: (( ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك الا ان يشا الله. .)) يوسف . أي في حكمه.
وقوله تعالى : (( مالك يوم الدين) الفاتحة .
اي يوم الحكم والجزاء.
.وايا كانت هذه التعاريف فكلها ترجع الى :
  أن الدين  أمر ينقاد له ويجازى عليه.)
 
فما نوع هذا الانقياد .؟ 
وهل هذا الانقياد إجباري ، أم اختياري .؟
 
ومن هنا تبرز أهمية مناقشة هذا الموضوع. 
وللتنبيه أن المناقشات التقليدية واﻷسئلة  التي ﻻ تفتح لنا مجالا لخيار ات اخرى هي جزء من تعقيدات إضافية . 
فلسنا مجبرين للسير وراء خيارات تبعدنا عن لب الموضوع. فعلى سبيل المثال قبل الاجابة  لاجابة ينبغي صياغة الأسئلة بشكل أقرب . 
..
ما اﻷمر الذي يجب أن نتفق على الانقياد له ؟
 
متى يكون هذا الانقياد إجباريا ؟  
ومتى يكون طوعيا .؟
الاجابة على السؤال الأول تحددها متطلبات الحياة وفقا لطبيعة الفطرة الإنسانية  .
وفي الثاني فإن إجابته متعلقة بالأول   ينبغي التفريق بين الإنقياد الإجباري الذي يحمل عليه الناس ولو كرها وهو ما يتعلق بالحقوق الطبيعية  والتسليم بالمسلمات المنطوية تحت مجال الدين العام  ، 
وبين اﻻنقياد الحر والطوعي والاختياري في مجال الدين الخاص الذاتي والذي ﻻ قيمة للإيمان ما لم يكن عن قناعة وطواعية. 
 والتفريق بين كل منهما سيترتب عليه الفصل بين الحسنة الدنيوية والسيئة الدنيوية ، والتي يترتب عليها نتائج  مباشرة في الدنيا من استحقاق المكافأة أو العقوبة ، وبين الحسنة الدينية والسيئئة الدينية التي ﻻ يترتب عليها نتائجها مباشرة في الدنيا من استحقاق المكافأة والعقوبة  بل في يوم الدين. 
 يتضح لك أن أهم ما يميز مجال الدين العام هو السلوك الإنساني الإجتماعي والسياسي، الخارج عن السلوك الشبيه بالحيواني . ولاستحالة أن يعيش أي مجتمع بدون قواعد تنظم العلاقة فيما بينهم ، فيجب أن  يخضع الجميع الى قواعد وتشريعات أيا كانت هذه القواعد والتشريعات التي تعارف عليها الغالبية ، وهي على الجملة تشتمل :  على الحفاظ على الحياة، و الحفاظ على المال والعرض ، والحفاظ على الحرية ، والحفاظ على حق السعي وراء السعادة، وما يتعلق بهذه الحقوق،  وهذا الدين يجب تطبيق العقوبة في حق من يخل فيه  في الدنيا قبل اﻷخرة ، فلو أستطعنا أن نمنع قتل النفس وحفظ الحقوق فذلك ما تسعى اليه المجتمعات ، واﻷمم الراشدة وتعمل كل ما من شأنه تحقيق ذلك بشتى الوسائل ، وفي مقدمتها سن الدساتير ، والقوانين   ، وبنفس القدر الدين الذي ارتضاه الله لعباده يحفظ هذه الحقوق ويضيف اليها قيما جديدة تعزز من مكانتها ، وتخلق رقابة ذاتية وطواعية من داخل النفس البشرية،  وتخلق فيه الوازع الذي يجعله يفعل هذا أو ﻻ يفعله ، وهو ما عبر عنه القرآن بالإيمان والتقوى ، ويعبر القرآن عن مجال الدين العام ب(الإسلام ) 
قال تعالى : (( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) )) الحجرات .
لأن من مقتضيات الدين الوفى بما آمن به بنفس راضية ما يجعله يحاسب نفسه  بنفسه أوﻻ قبل يوم الدين ، وحتى في غياب المحاسبة الدنيوية ، وهذا بحد ذاته ينتج عنه مراجعة لما قام به المدين ما ينتج عنه تعزيز اﻷفعال الحسنة والتراجع عن اﻷفعال السيئة،  ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ) ، وأما في المستقبل فمتطلبات الوفى بالدين   أن يكون حريصا على تصرفاته ﻷنه قد آمن بهذه القيم والمبادئ، ولديه يقين أنه محاسب على نتائج أفعاله ، فالدين  يحدد لك ماذا تفعل وما ﻻ تفعل ، وﻻ شك أن بعضا منها لها عقوبة دنيوية في الدنيا إن أمكن ذلك كالحقوق المتعلقة بالأخرين سواء كانت حقوقا عامة طبيعية أو ما يتعلق بها ، أو حقوقا بينية أنشئت بين الأفراد أنفسهم ، أو بين جماعة وجماعة أخرى،  كالمعاهدات  وعقود التجارة والمعاملات ، فهذه لها عقوبة دنيوية وأخروية ، تجتمع فيها التشريعات السماوية والأرضية ، ولكن هناك جانب كبير من التصرفات التي تتعلق بالشخص نفسه ﻻ يعلمها إﻻ الشخص نفسه والله،  وﻻ أحدا يستطيع أن يراقبها ويحاسب عليها سوى الله ، كالإيمان ، والكفر ، وأعمال القلوب ، ولم يفوض الله أحدا من خلقه أن يحاسب عليها،  أو يشرع باسمه ، وقد يشرع. البشر ﻷنفسهم فلا ينبغي أن ينسبوه إلى الله،  فل ينسبوه ﻷنفسهم ، الدين الحق منضبط وقواعده منضبطة وهو ﻻ يستثني أحدا أو يحابيه بل الكل أمامه سواء،  الطاغوت هو الذي يقوم به فرد يفرضه على الأخرين ويستثني نفسه ، ويستثنى من يريد ووقت ما يريد،  ويتعامل بمعايير مزدوجة  ،
 
الخلاصة :
نستنبط أبرز خصائص كل منهما .
* أن الدين موجود في المجال العام اضطرارا بحيث أن المسؤولية أهم ركائز الهوية الإنسانية  ، وطابعه العام الموضوعية والواقعية والحجية والتمحيص، والدين موجود كذلك في مجاله الخاص الذاتي باعتباره حق من الحقوق الطبيعية للإنسان فهو قائم على حرية الاختيار ، والحرية هي الركيزة الثانية في الهوية الإنسانية . فالإنسان بلا حرية ليس إنسانا ، وطابعه الذاتي يعطيه المعنى الإيماني . .....
 
* فلهذا فإن   مجال الدين العام ﻻ يمكن  أن يوجد إﻻ كقضية من قضايا المعرفة والفكر والسياسة ، ويخضع  للمعايير الموضوعية والإنسانية في اكتساب مشروعيته المعرفية والإجتماعية والسياسية من الواقع والعقل  . وأما في مجاله الخاص الذاتي فإنه  يخرج بجزء منه عن مجاله العام لكونه جزءا منه قائم على التسليم بالحقائق الواقعية مما اشتمل عليه مجال الدين العام ، والجز اﻷخر يقوم على الإيمان المشتمل على التصديق بوقوع الجزاء في اليوم اﻷخر وما يتعلق به .
 
*..وعلى المستوى الإجتماعي والسياسي فمجال الدين العام مرهون بإرادة اﻷغلبية من الناس التي  تمكنه من تحقيقه على أرض الواقع من خلال دفع اﻷغلبية  لمن ترى أنهم جديرين بالادارة وتمنحهم مشروعية الحاكم سواء بوسيلة ديمقراطية ، أو بأي وسيلة أخرى لتنفيذ بنود هذا التشريع وهو المنوط به المحاسبة والمساءلة وتنفيذ العقوبات المقررة وفقا لما أكتسبته من معرفة وقواعد تحدد تفاصيلها دساتير أو قوانين أوكتب سماوية أكتسبت  مشروعيتها من اتفاق غالبية الناس عليها ،.مع اﻷخذ بالاعتبار عدم المساسى بالحقوق الطبيعية العادلة للجميع وعدم تقيد الحرية التي ﻻ بد منها والتي تعطي الإنسان حرية اختار الدين الذي يرتضيه لخلاص نفسه في اليوم الأخر  ، بصرف النظر عن موقف اﻷغلبية أو غيرهم من هذا الدين كان حقا أم باطلا مع اﻷخذ بالاعتبارعدم الرضوخ للطيغيان بكل أنواعه .
 
* فالدين بمجاله العام يستمد قوته من اﻷغلبية وعقوبة مخالفته في الدنيا.تتم من اﻷشخاص الذين حصلوا على مشروعيتهم من موافقة الأغلبية لممارسة دور الحاكم .  .بعكس مجال الدين الخاص الذاتي الذي يستمد قيمته  من الروح الحرة المؤمنة المستمدة روحانيتها  من معبودها، وﻻ تكون نتائجه عقب الفعل  بل بين الفعل والجزاء زمن الحياة في كثير منه ﻻ تكون العقوبة المكافأة عاجلة وﻻ الع وإن تقدم شيء من ذلك فليست بديلة عن الأخرة ، والمحاسب هو الله وتدخل البشر في هذا الجانب ضرب من الخيال فليس بوسع أحد أن يجزم بصدق إيمان أحد وﻻ عدمه وﻻ يطلع على ما يخفيه .فكيف له محاسبة ما ﻻ علم له به .
وبما انه ذاتي فهو بكل تأكيد خارج نطاق مجال الدين العام ﻷنه حالة ذاتية تتصل بعمق الإنسان وعالمه الداخلي ومع ذلك فهذا الدين ﻻ يغرد بعيدا  عن مجال الدين العام وليس معزولا عنه أو يقف ضده ، بل بالعكس فإن هذه القيم الجديدة  التي تشبعت بها الروح المؤمنة تعكس أثرها عبر مختلف النشاطات المختلفة في الأسرة والمجتمع والسياسة. بقيمتها اﻷخلاقية واعتمادها على ما أعد الله لها في يوم الدين اليوم الآخر مالم يتسلل إليها الطغيان فيفسدها كما يفسد الدين بمجاله العام لذلك كان الدين الحق الذاتي مشروط بالكفر بالطغوت .
 
* وفي حالة التعارض فيما بين مجال الدين العام ومجال الدين الخاص الذاتي ، أو فيما أختلفت فيه الأديان ، أو المذاهب الدينية فإن الفيصل هو المعايير المشتركة والعامة والتي تكتسب قوتها من حقوق الإنسان الطبيعية الذي يؤيدها الواقع والعقل فإن العقل هو الوسيط اﻷمثل بين البشر فيما بينهم ، وفيما بين البشر والعالم الخارجي .وهو الذي بواسطته عرف الحسن من السيئ وعرف الدين بمجاله العام والخاص .
والمقال التالي يبين لنا براءة الدين الحق من الطاغوت.