حياة البرزخ بين القبول والرد - عبد اللطيف مهيوب العسلي

 حياة البرزخ بين القبول والرد  

وﻷن ملك البرزخ فيه لغط كبير
 
وأعني بملك البرزخ حياة البرزخ
 
 ومعرفتها تحتاج إلى شيء من التفصيل فهي فارق بين حياتين لكنها موجودة ولها خصائصها .  
 
لمعرفة معنى  البرزخ  لا بُدَّ أولا: أن نعرف المعنى اللغوي له :
 
البَرْزَخ - بَرْزَخ : 
 
البَرْزَخ : الحاجز بين شيئيْن . 
 
و البَرْزَخ ما بين الموت والبعْث ، فمن مات فقد دَخَل البرزخ . 
 
وفي التنزيل العزيز : المؤمنون آية 100 وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ) . 
 
و البَرْزَخ ( في علم الجغرافية ) : قطعة أَرض ضيقة ، محْصورة بين بحْرَين ، موصِّلة بين أرضَيْن . 
 
و البَرْزَخ ( في علم الطب ) : البَرْزخ الدَّرَقِي : جزء منقبض من الغُدَّة الدَّرقية ، يكون في الخط الوَسَطي من الرُّغامَى ، ويصل بين الفَصَّين الجانِبيين اللذين تتألَّف منهما تلك الغُدَّة . والجمع : بَرازِخ .
 
المعجم: المعجم الوسيط -
 
ومن هذا المعنى يتضح أن البرزخ مجمع لشيأين بينهما خصائص مشتركة أو نقطة التقاء بين اﻷول والثاني ﻻ  تتغلب فيه خصائص اﻷول على الثاني وﻻ خصائص الثاني  على اﻷول وﻻ يلغي أيا منهما الأخر كذلك هو البرزخ فيه من خصائص الحياة الأولى وخصائص الحياة الثانية .
 
فلا يزال يصل إلى العبد من عمله الصالح كالصدقة الجارية والعلم النافع والولد الصالح كما في الحديث.( إذا مات الميت أنقطع عمله إلا من ثلاث ...)
 
ويصله نصيبه المقسوم مما كسب إن خير فخير وإن شر فشر فيتمنون اﻷشقياء الرجوع إلى الدنيا فلا يستطيعون  أن يرجعوا أما السعداء فهم فرحين مستبشرين تتنزل عليهم الملائكة اﻻ تخافوا وﻻ تحزنوا ..
 
فمن عرف المعنى الدقيق للبرزخ سهل عليه التعرف على حياة البرزخ وملكه .
 
ومن يطلع على نصوص القرآن يجد أنها قد تناولت حياة البرزخ بشيء من الإيجاز بما ﻻ تطغى على حياة الآخرة بعد البعث  في الوقت الذي فصلت فيه لنا الحياة بعد البعث بما ﻻ يدع مجالا للشك أو اللبس ، حتى خيل للبعض أﻻ حياة في البرزخ .
اﻻ انه مما يجدر ذكره هناك شيء من التفصيل فيما نقل عن السنة المطهرة ،
 
ولكن لم يتسن للمطلع التفرقة بين حياة البرزخ والحياة اﻷخرى إما لنقص في نقل الأحاديث أو لعدم صحة بعضها وروايتها بنفس درجة ما هو مشهور وصحيح  ، يدل على ذلك ما روي من أحاديث ركزت على القبر والجسد وهي متعارضة مع اﻵيات والواقع مما شجع البعض على إنكار حياة البرزخ لمخالفتها للواقع .وقالوا نحن نرى القبر قبرا ﻻ جنة فيه وﻻ نار فيه ، ونرى الجسد رميما لا حياة فيه .
 
فأين إذا تكمن الحقيقة ؟ وما الجمع بين اﻷدلة فهل لحياة البرزخ  وجود أم ﻻ ؟ 
 
وللإجابة على هذا السؤال ينبغي التعرف أوﻻ على وجه الاختلاف .
 
 ووجه الإختلاف في الحياة البزخية ﻻختلافها على الحياة الاولى والثانية كما سنوضح ذلك،
 
 فعلى سبيل المثال فإن من يقول على من فارقت روحه جسده بأنه مات  ، فهو صحيح باعتبار عدم وجود الحياة في جسده ، وبنفس الوقت إن قلنا أن روحه فارقت جسده وخرجت منه كما وصف الله (( فلولا إذا بلغت الحلقوم ...فلوﻻ إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين .)) 
 
فهو صحيح باعتبار أن الروح لم تمت .
 
لإننا إن قلنا ماتت فلزم أحد الأمرين :
 
إما أن تكون للإنسان ثلاث حياة ، حياة الدنيا ، وحياة البرزخ ، وحياة ما بعد البعث وهو مخالف لنص الآية ((  قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) )) .
 
أو الأمر الثاني أن يكون للإنسان حياتان وموتة واحدة وهو أيضا متعارض مع اﻷية الكريمة السابقة ومع قوله تعالى (( كل من عيها فان 26 ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام 27  )) من  سورة الرحمن .
 
أضف إلى ذلك ورود نصوص تتحدث عن تحلل الأجساد بعد موتها  وبعثها من جديد بعد النفخة الثانية .
 
ولذلك قلنا ﻻ بد من تفصيل على  النحو التالي :
 
لكل إنسان نفسان ( روح وجسد )  وحيا تان وموتتان  :
 
فأما النفسان فهما :
 
النفس الأولى  (الروح ) :
 
و هي  التي بها فهم الخطاب ورد الجواب وبها عرفت العلوم وهي الروح التي خلقها الله في عالم ( الذر  ) دل عليها قوله تعالى :
 
 ((  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) الأعراف/ 172، 173 .
 
وهذه النفس لها  حياتان وموتة واحدة  فحياتها الأولى في الدنيا وفي البرزخ بعد مفارقتها للجسد .
 
وموتها في النفخة الأولى مع موت الملائكة قال تعالى : ((كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. )) .الرحمن .
 
ففي اﻷية السابقة دليل على موت كل مخلوق وكل روح ونفس حتى يقول الملك الجليل لمن الملك فلا يسمع مجيبا من الأقطار السماوات والأرض  وكل ما في علمه من عالم الملك والملكوت ،  فيجيب نفسه بنفسه سبحانه بلسان حوله وقوته ( لله  الواحد القهار ).
والحياة الثانية بعد النفخة الثانية نفخت البعث مع النفس الثانية ( الجسد ) قال تعالى : 
 
((  . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) )) الزمر.
..
وأما النفس الثانية فهي نطفة الجسد التي خلقها الله من الأبوين قال تعالى : (( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏ ثم جعلناه نطفة في قرار مكين‏ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ))
 
ولها حياتان وحياتها ﻻ تكون اﻻ مع الروح الأولى ، ولها موتة واحدة ، فحياتها الأولى في الدنيا وموتها عند انتهاء أجلها في الدنيا حين تفارقها الروح .
 
أما حياتها الثانية فهي مع الروح بعد البعث  والدليل قوله تعالى :
 
(( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 42 )) 
 
سورة الزمر.
 
الأية السابقة تدل على أن للإنسان نفسين ومو تتين النفس التي تموت في منامها والنفس اﻷخرى التي لا تموت في منا مها .
 
فصار لكل إنسان نفسان وحياتان وموتتان . 
 
 وبيت القصيد أن الحياة البرزخية للروح التي أفهمها الله الخطاب ورد الجواب فقط وليس للجسد حياة في البرزخ بل حياته الثانية بعد البعث .والله أعلم. 
....
أما دليل الحياة البرزخية
 
فلقد وعد الله سبحانه وتعالى كل من خرج من الدنيا بعمل صالح وتوبة خالصة بالثواب الحسن بحسب مرتبته دون مماطلة أو تأخير بمنه وكرمه بكيفية يعرفها كل من وصل اليها ولها أدلة عقلية ونقلية  
فمن الأدلة العقلية :
 
 أن العقل والمنطق يلزم من قضى عمله وأكمله أن يستوجب أجره  مطل الغني ظلم فإذا كان هذا ما تحكم به العقول والشرع في أحكام الخلق ، وهو أيضا حكم الله على خلقه ان من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ، فما بالك بحكمه على نفسه وهو أحكم الحاكمين ،   والله غني وﻻ يوجد ما يمنع وجود حياة كاملة للروح التي فارقت  الجسد ﻻ عقلا وﻻ نقلا . 
 
وأما نقلا فمن القرآن ومشهور السنة نكتفي بدليلين من القرآن الكريم :
 
(( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون  170] فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ َيحْزَنُونَ 171 )) .آل عمران. 
 
وهو دليل واضح على ملك البرزخ وحياته .
 
وقوله تعالى في أخر سورة الواقعة :
 
﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾
 
فلم يجعل الله بين زمن الموت والجزاء زمن ثالث بل جعل الثواب مباشرة بمجرد بلوغ الروح الحلقوم فروح وريحان وجنة نعيم .....الخ . والله اعلم . 
 
نسأل الله أن يجعلنا ممن عاش في هذه الحياة الدنيا مؤمنا ، ومات صالحا ، ودخل في برازخ السعداء فرحا مستبشرا ، وبعث آمنا ،ودخل الجنة سالما ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.