في زمن الفتن تختبر القيم - عبد اللطيف مهيوب العسلي

من السهل أن توافق على مواثيق ومبادئ ,وقد تكون هذه المواثيق والمبادئ مناسبتا لك حين تم توثيقها وتتماشى مع حاجتك ومع رغبتك ، لكن غالبا ما تتغير الحاجة والظروف عن تلك التي كانت حال العقد ، بل وقد تصبح غير مناسبة لك ما يجعلك ﻻ تفي بها ما لم يمنعك وازع ديني أوخلقي أو عقوبة قانونية , كذلك عقد الإيمان بالله وبالكتب يتم من الشخص وقد يكون صادقا حين آمن لكنه في حياته يصطدم بأحداث لا تخدم مصلحته حينها ﻻ يصمد فيصبح اشبه ببيت العنكبوت التي ﻻ تقيها من برد وﻻ حر وﻻ مطر ، ويفتن حين يكون بعض ما آمن به يتعارض مع رغبته الشخصية وهوى نفسه ,أو له تكلفة عليه ، ولأن لكل شيء ثمن ,وهنا يختبر الإيمان ويعرف الصادق من الكاذب وسورة العنكبوت توضح لنا هذا بجلاء
قال تعالى :
 
, الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) 1
 
ولعلى من أهم التعاريف اللغوية للفتنة الأتي:
 
أ – . ( الفتنة الاختبار ، والفتنة المحنة ، والفتنة المال ، والفتنة الأولاد ، والفتنة الكفر ، والفتنة اختلاف الناس بالآراء ، والفتنة الإحراق بالنار ؛ . وقوله عز وجل : ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين يقول : لا تظهرهم علينا فيعجبوا ويظنوا أنهم خير منا ، فالفتنة هاهنا إعجاب الكفار بكفرهم . ويقال : فتن الرجل بالمرأة وافتتن اي أعجب فيها ) 2
 
ولأن الفتة هي اختلاط بين أمرين أو أكثر بينهما تشابه لكن احدهم صحيح وحقيقي وآخرا يكون خادعا وموهما ,فإن بيت العنكبوت تشبه في غزلها ونسجها بيت الخيمة التي تغزل لكن شتان بين البيتين , كذلك الفضة قد تخلط بغيرها من الشوائب ولا يخلصها إلا اختبارها في النار , وكذلك المحن والحروب هي نار ـ غالبا يقال : نار الفتن ـ يظهر فيها الصادق من الكاذب المؤمن من المنافق, وليتضح لنا المعنى أكثر فقد ضرب الله لنا المثل ببيت العنكبوت وذكر لنا ضروبا منها :
ب ـ ضروب من الفتن
 
1 ـ أن يفتن الإنسان بأهله وأسرته قد يكون الأب صالحا والإبن فاسدا أو كافرا أو العكس , ومع إن بينهما حقوق طبيعية مشتركة لكل منهما ومصالح فما حدود هذه المصالح ؟
فهل تلغى أم يعطى كل ذي حق حقه ؟
 
كما قال تعالى : وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) العنكبوت
 
2 ـ النوع الثاني الفتنة في المجتمع وكثير ما يفتن به السياسيون لان السياسة عادة قائمة على المنافع الآنية ولكن ينبغي أن تكون عند المؤمن بما يرضي الله ,وكذلك يفتن الوجهاء ومن يتبعهم من أحزاب ومناصرين .
 
وبما أن الإيمان والعمل الصالح بعضه يكون حصيلته وثمرته في الدنيا والآخرة لكن البعض الآخر يكون ثمرته في الآخرة فقط فعلى سبيل المثال الوالدين في حال كبرهما لا يرتجي الولد المنفعة منهما في الدنيا ولكنه يحسن إليهما إما طبعا وخلقا حسنا وإما إيمانا وطمعا بما عند الله وإما للإثنين معا.
 
وفي المجتمع كثيرا ما تكون ثمرة العدل فائدتها عائدة للآخرين ، وقد لا تعود بالضرورة لمن يطبقها عدى السمعة الطيبة والخلق الحسن ,لكن في كثير من الأوقات قد يتعرض من يقول الحق ، أو يطبق العدل ، أو يأمر الناس به إلى الأذى وربما إلى ما هو اشد من ذلك تشريدا أو قتلا إلى غير ذلك ، وهنا يفتتن المرء ويقع بين خيارين ما آمن به ، وما تعارض مع إيمانه فان كان إيمانه شكليا خادعا ، فانه يتحول إلى الخداع والنفاق والمجاملة وتحقيق هذا قوله تعالى:
 
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) البقرة.
 
,فهو يرى إن ما هي عقوبة حاصلة أو منفعة حاصلة خيرا من منفعة محتملة بحسب القاعدة ( الفائدة الحاصلة وان كانت قليلة خيرا من الآجلة ولو كثرت ) وهنا هلك من هلك ونجا من نجا .
 
وهذه القاعدة وإن كانت صحيحة في النظرية التجارية إلى حد ما ، وفي المعاملة مع المخلوقين فليست كذلك مع الله وتوضيح ذلك أنك تضمن ( الفائدة الحاصلة وإن قلت على الفائدة الآجلة ) لإن المخلوقين أحوالهم تتبدِل , وأوصافهم تتغير فقد يموتون أو يعجزون أو يموت من وعدوه , وبالتالي ﻻ يستطيعون الوفى أو لم يعد لديهم الرغبة بالوفى .
 
لكنها مع الخالق فلا ـ مطلقا ـ لأنه سبحانه وتعلى أحواله لا تتبدل ,وأوصافه لا تتغير ، ووعده حق وقوله. صدق ، وهو غني ومليء لا يفقر ، وقوي قادر لا يعجز ,حتى إذا مات من يفعل الخير من المخلوقين فان الله يعوضه في الآخرة نسال الله أن يجعلنا ممن وثق بوعده وعمل بتوفيقه
 
، ولان إيمان المفتون ليس يقيني إنما هو تقليدي شكلي فما وعده الله يعتبره محتملا ويساويه ولو بالا وعي بوعد المخلوقين فيلجا إلى الخداع والنفاق قال تعالى
 
((..وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)..)) العنكبوت
 
..
3 ـ أما النوع الثالث غالبا ما يقع فيه من لديهم حاجات عند الناس ، أو عليهم التزامات ,أو ارتكبوا جرائم فهم يعلمون أن الله لن يجاملهم ، ولن يغالط معهم فلذلك يهربون إلى غير الله ويحتمون به ، وهم مثل الأولين انما تخذوا بيت كبيت العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ..
 
قال تعالى في نفس السورة :
 
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) )) االعنكبوت .
 
فالله وعد من يعمل صالحا أن ينقذه وينجيه وان يحييه حياة طيبة لكن لا بد من الصبر وله أجل يختاره الله ,ووعد من أذنب ثم عاد إلى الله بالمغفرة والتوبة .
 
فمن كان إيمانه تقليديا شكليا خادعا فانه لا يثق إلا بما يراه ماثلا ومحسوسا , وأما المؤمن الصادق فانه يثق بما وعده الله به ويصبر فقد نصر الله نوحا بعد أن لبث ألف سنة إلا خمسين عاما وكذلك الرسل وسورة العنكبوت سردت لنا تلك الوقائع وأخبرتنا من أحوال الرسل ما يكفي لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد .
4 ـ ومن أعظم الفتن وأخطرها أن يحسب الإنسان نفسه أنه ممن يحسنون صنعا , وأن عمله وفق لإرادة الله وهو في حقيقة الأمر بخلاف ذلك .
واني لا أدعو الله ان يوفقني فقد أكون من المفتونين دون أن أشعر فنسأل الله العظيم ألا يجعلني منهم وان يتداركني بلطفه وجوده ويعرفني عيوبي وأخطائي قبل قراءة طرسي بعد موتي وﻻت حين مناص .
 
ب ـ ما لذي أطالب به أنفسنا وإياك :
 
* احفظ الله يحفظك واستعن به يعينك .
 
فالإنسان مهما كان ذكيا وحاذقا وعالما فانه يفتن ويضعف ما لم يطلب من الله ان يساعده ويعينه ومن فضل الله ان يسر لنا ذلك وعلمنا كيف نستعين على أنفسنا وذلك ما تضمنته الآيات الآتية :
 
((اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) )) العنكبوت
 
نلخص من الآيات ما أطالب به نفسي وإياك – – عزيزي – فاروي عني :
 
1 ـ تلاوة القران الكريم
 
2 ـ إقامة الصلاة
 
3 ـ ذكر الله تعالى
 
4 ـ عدم المجادلة إلا بالتي هي أحسن والاعتراف لمن تجادله بما هو صواب فان كان ذلك في حق أهل الكتاب فمن باب أولى لمن هم مسلمون وان اختلفت مذاهبهم
 
5 ـ الإكثار من تلاوة الآية في أخر سورة العنكبوت (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)))
…. :…………..
دعاء
 
( نسألك اللهم ان تجعل رأينا في كل مشكلة ومحنة هو رأيك ,وحبنا في كل حركة حبك ,وإرادتنا في كل مقصود إرادتك ,ولا تفتنا فتنة الجاهلين بمعرفتك فنجعل كراهيتنا في إرادتك واردتنا في كراهيتك ,ومحابنا في مساخطك ,ومساخطنا في محابك ,ونحن نزعم إن ذلك منك لا منا ,ونعتقد أن ذالك عنك لا عنا فنحمل عليك ما تحمل علينا ونضيف اليك ما تضيف الينا فلا نثبت عدلك في العقوبة كما نثبت فضلك في المثوبة ,ولا نرى غضبك في المعصية كما نرى رضاك في الطاعة فنلجي إليك في العصيان ونعذر النفس والشيطان .) 3
.
………….
هامش
1 – سورة العنكبوت
2 – ابن العربي
3 – للعارف بالله الشيخ أحمد ابن علوان في كتابه (التوحيد الأعظم.)