وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه - د. أمين الشقاوي

 وقفات مع قوله تعالى

﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾
 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. ومن الآيات التي تحتاج منا إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم العظيمة، والفوائد الجليلة قول الله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].
 
"قوله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾ هذه الآية لها وجهان معروفان من التفسير:
الأول: أن المراد بالطائر: العمل، من قولهم: طار له سهم، إذا خرج له، أي: ألزمناه ما طار له من عمله.
الثاني: أن المراد بالطائر: ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة، والقولان متلازمان؛ لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة، أو السعادة.
 
والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما شهد له القرآن، أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله، فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جدًّا، كقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [النساء: 123] ، وقوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]، وقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
 
وأما على القول بأن المراد بطائره الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة، فالآيات الدالة على ذلك أيضًا كثيرة، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2]، وقال تعالى: ﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾ [الأعراف: 30]، وقال تعالى: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، إلى غير ذلك من الآيات.
 
قوله تعالى: ﴿ فِي عُنُقِهِ ﴾ أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة أو سعادة في عنقه، أي: لازمًا له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه، وإنما ذكر العنق لأنه عضو لا نظير له في الجسد، ومنه قول العرب: تقلدها طوق الحمامة، وقولهم: الموت في الرقاب. ومنه قول الشاعر:
اذْهَبْ بِهَا اذْهب بِهَا ♦♦♦ طَوَّقْتُهَا طَوْقَ الحَمَامَةِ
فالمعنى في ذلك كله اللزوم وعدم الانفكاك.
 
قوله تعالى: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴾ ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرج له يوم القيامة مكتوبًا في كتاب يلقاه منشورًا" [1]، أي مفتوحًا يقرؤه هو وغيره، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره، قال تعالى: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ [القيامة: 13، 14]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 10].
قال مقاتل: "إذا مات المرء طويت صحيفة عمله، فإذا كان يوم القيامة نشرت" [2].
قال القرطبي رحمه الله: "أي فتحت بعد أن كانت مطوية، والمراد صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلها من خير أو شر تطوى بالموت، وتُنشر في القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها" [3]، ولهذا قال تعالى: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14] أي: أنك تعلم أنك لم تُظلم، ولم يكتب عليك غير ما عملت؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي.
قال الحسن البصري رحمه الله: "قد عدل [والله] من جعلك حسيب نفسك".قال ابن كثير رحمه الله: "هذا من حُسنِ كلام الحسن رحمه الله "  [4].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَيْسَ مِنْ عَمَلِ يَوْمٍ إِلَّا وَهُوَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَرِضَ الْمُؤْمِنُ، قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا، عَبْدُكَ فُلَانٌ قَدْ حَبَسْتَهُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: اخْتِمُوا لَهُ عَلَى مِثْلِ عَمَلِهِ حَتَّى يَبْرَأَ أَوْ يَمُوتَ" [5] [6].
 
وبيَّن تعالى في آيات أخرى صفات هذا الكتاب الذي يلقاه العبد منشورًا، بأن من صفاته أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضرًا ليس منه شيء غائبًا، وأن الله تعالى لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئًا، قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
 
"وبيَّن في موضع آخر أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه - جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم - وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابًا يسيرًا، ويرجع إلى أهله مسرورًا، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴾ [الانشقاق: 7 - 9]، وقال تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [الحاقة: 19 - 23].
 
وبيَّن في موضع آخر أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعًا، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ [الحاقة: 25 - 32] أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من النار، وما قرب إليها من قول أو عمل.
 
وبيَّن في موضع آخر أن من أُوتي كتابه وراء ظهره، يصلى السعير، ويدعو الثبور، وذلك في قوله: ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 10 - 12].
 
وبيَّن في موضع آخر أنه إن أنكر شيئًا من عمله شهدت عليه جوارحه، قال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 21].
 
وفي الحديث: "فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ، قَالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلامِ، قَالَ: فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ" [7] [8].