إنا لله - نجلاء جبروني

دخلتُ إلى المطبخ مُسرعةً كعادتي، لم يعد أمامي إلا ساعةٌ واحدة لتحضير الطعام قبل أن أذهب إلى العمل، أشعلت الموقد، وضعتُ الإناء على النار، أمسكت السكين لأقطع بعض الخضار، الأفكار تتزاحم في رأسي، المسؤوليات والأعباء تطاردني، يا ربِّ أعنِّي، بارِك لي في وقتي، وفجأة أفلتت السكين مني، فجَرَحت يدي جرحًا عميقًا سالت منه الدماء، يا ألله، أفي هذا الوقت بخاصة؟!
 
حاولت تضميدَ الجراح، لكن لا أمل، الدماء تسيل، وزاد الألم، وفجأة تذكَّرت دعاء المصيبة، كيف عنه ذهلت؟! لكن هل يشرع دعاء الاسترجاع إذا جُرحت؟
 
إنه مجرَّد جرح، تفكَّرت لحظة، فحضرني الجواب، نعم يشرع الاسترجاع عند كلِّ ما يُبتلى به الإنسان من مصائب عظُمت أو صغرت؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 155، 156]، فيُشرَع الاسترجاع عند كل شيء يؤذي الإنسانَ أو يضره، سواء كان فَقْد عزيز عليه، أو ضياع ماله، أو مرضًا يصيبه، أو جرحًا يؤلمه، أو كلمة تسوءه، أو خبرًا يُحزنه، حتى لو كُسر إناؤه، أو قُطع نعله، فكل ذلك يُعَدُّ من المصائب.
 
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبدٍ تصيبه مصيبة، فيقول: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 156]، اللهم أجُرْني في مصيبتي وأَخلِفْ لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها)).
 
وعندها توجَّهت إلى الله بالدعاء، فتوقَّفت الدماء وسكن الألم، فكان الدعاء لجرحي دواءً، وكان الاسترجاع لقلبي سكنًا، وكيف لا، وفي الاسترجاع من المعاني العظيمة والفوائد الجليلة ما لا يخفى على أحد؟!
 
ففيه اعتقاد بالقلب، وذِكر باللسان، وعمل بالجنان:
فأما اعتقاد القلب، فالإيمان بالقدَر، وبأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما قدَّره الله حتمًا سيقع.
وأما العمل، فالرضا والتسليم لله، وحسن الظن بالله، واحتساب الأجر والثواب عنده.
 
(إنا لله)؛ أي: مملوكون لله، مُدبَّرون تحت أمره وتصريفه، فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيءٌ، فلا اعتراضَ على فعله الموافق لحكمته؛ فهو الذي يعلم بما فيه الخير لعبده، وهو أرحم به من نفسه، فيوجب ذلك للعبد الرضا عن الله، والشكر له على تدبيره.
 
ومع أننا مملوكون لله، (فإنا إليه راجعون) يوم المعاد، فمُجازٍ كلَّ عاملٍ بعمله، فإنْ صبَرْنا واحتسبنا، وجدنا أجرنا موفورًا عنده.
 
فمَن وفَّقه الله للصبر والاسترجاع عند هجوم هذه المصائب، ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))، فحبس قلبَه عن التسخُّط والجزع، ولسانَه عن الشكوى والضجر، واحتسب أجرها عند الله - فقد امتثل أمر الله وفاز بالثواب؛ لهذا قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وهذا الابتلاء والامتحان سُنة الله التي قد مضت، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
 
ففي الاسترجاع عند المصائب‏: ‏الإقرار بعبودية الله ووحدانيته، والتسليم بقضائه، واليقين بالرجوع إليه، والرجاء في ثوابه، وهو مِن فضل الله تعالى على هذه الأمة، ذكر البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: "لقد أُعطِيتْ هذه الأمة عند المصيبة شيئًا لم تُعْطَه الأمم قبلها، ولو عرَفها يعقوب عليه الصلاة والسلام لَمَا قال: ﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 84]"، فعلينا بالرضا والاسترجاع، مهما عظُمت المصيبة؛ لأن فوات ثواب الصبر والتسليم أعظمُ من المصيبة.