كلمة التأويل .. دلالتها .. وأطوارها

   د. سامي عطا حسن الجيتاوي
 
 
من المقرر لدى أهل العلم ،  أن الأصل هو إبقاء النصوص على ظواهرها ، لتدل على معانيها التي وضعت لها في اللغة ، ولكن تأويلها ، بصرفها عن معناها الظاهر  إلى معنى يحتمله اللفظ ،  لا يخالف فيه عالم له دراية بالكتاب والسنة  ، بشرط أن لا يحدث ذلك  إلا بدليل ، أو بقرينة توجب صرفه عن معناه الأصلي . وقد صاحبت ظاهرة التأويل النص الديني منذ أن حاول المسلمون تفهم القرآن ، واستنباط الأحكام منه ، وكان  أداة لسبر أغوار النص الديني ، واكتشاف طاقاته المعبرة ، وعمل التأويل في بيئة المفسرين  والفقهاء   على توسيع  آفاق النص ، حتى يستغرق متجدد أحداث الحياة ، وعلى التوفيق بن الآراء والنصوص التي تبدو متعارضة ... واستغلال التأويل من قبل الفرق الضالة المنحرفة ، الذين  وجدوا في التأويل المنحرف  متنفسا لتعاليمهم  وتجاوزوا به  الحدود الظاهرة لمعاني الكلم ،  وشوهوا الدلالات اللغوية ، وصرفوا النصوص الدينية عن ظاهرها المراد ، إلى معان باطنية غير مرادة في النص لمناصرة مذاهب فاسدة  ونحل باطلة ،  دفع العلماء من مفسرين ، ومحدثين ، وفقهاء ، وأصوليين ، وغيرهم ، للتصدي لهم ، فبينوا معنى التأويل ، وأدلته ، ومجالاته ، وقاموا بوضع الضوابط والأصول  للتأويل الصحيح ، لمنع المبتدعين من تحريف النصوص ، والخروج بها عن معانيها المرادة ، وعن قواعد اللغة  . 
 
وظل التأويل مرادفا للتفسير منذ أن طفق الناس يتناولون كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله  - صلى الله عليه وسلم  -   بالشرح والفهم . ولكن أحداث الحياة المتجددة لا تقف عند حد ، والنصوص محدودة  فكان الرأي بأشكاله المختلفة ، وإن كان قد بدأ متحرجا في أول الأمر ، إلا أنه اتسع بعد ذلك ، وتعددت مناحيه ، والتأويل مدار النشاط بالرأي . وعندما اتسعت الفتوحات ، واندلعت شرارة الفتنة الكبرى  وانقسم الناس ، وتعددت اتجاهاتهم السياسية والدينية ، وتصارعت الآراء ، وكثرت الفرق والنحل ، لم تكن النصوص الدينية عن تلك المعارك بمعزل ، فاستعمل التأويل أداة لخدمة العصبية المذهبية ، بل كان وسيلة كل فريق في نصرة مذهبه ،  و تدور مادة التأويل في اللغة على عدة معان  ، منها: 
1 - الرجوع  ، والعود ، والمآل ، والعاقبة ، والمصير: نقل الأزهري عن ثعلب، عن ابن الأعرابي قوله :[ الأول : هو الرجوع] (الأزهري ، ، تهذيب اللغة ، ج 15 : ص 437)  وقال ابن فارس: [ قال يعقوب  : أول الحكم إلى أهله : أي : أرجعه   ورده إليهم . ] (أحمد بن فارس : معجم مقاييس اللغة ، ج1: ص 159.) 
2- التفسير ، والتدبر ،  والبيان : قال ابن جرير الطبري ( ت310هـ) : [ وأما معنى التأويل في كلام العرب فإنه : التفسير والمرجع والمصير . ] (تفسير الطبري : ج3: ص 184.) .  ومما سلف  يمكننا اختصار معاني  التأويل في اللغة في معنيين هما :المرجع  والعاقبة ،والتفسير والبيان . 
 
وقد وردت  كلمة ( تأويل ) سبع عشرة مرة  في عدة سور قرآنية كريمة ، نستخلص منها  : أن التأويل إذا تعلق بالكلام :  يكون المراد منه إرجاعه إلى الحقيقة التي تراد منه  فإذا قلنا : تأويل الآية  كذا ،  يكون المعنى : إرجاع الآية إلى المراد منها ، وعلى هذا يكون التأويل والتفسير متقاربان ..  
وإذا أضيف التأويل إلى غير الكلام ، يكون معناه : الحوادث التي ستقع مصدقة لأخبار الرسول
- صلى الله عليه وسلم  -   : كما يتبين ذلك في قوله تعالى : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق . ) (الأعراف : 53) 
 
 أو مبينة لوقائع الرؤيا :  فإن المراد بتأويلها هو : الحوادث الواقعية التي يمثلها ما رآه الإنسان في منامه  كالذي ذكرته آيات سورة يوسف ، ومثل ذلك  : الحوادث المتوقعة التي من أجلها فعل العبد الصالح  صاحب موسى - عليه السلام - ما فعل ، مما قصته علينا سورة الكهف .  
وردت كلمة التأويل في حديث رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  -   بمعنى : تعبير الرؤيا والمآل الذي تؤول إليه ،  وبمعنى التفسير ، وبمعنى العاقبة والمصير . 
 
أ  - فمن الأحاديث التي وردت  فيها كلمة  التأويل بمعنى الرؤيا : قال أنس بن مالك  - رضي الله عنه  - قال رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  -   :  [ رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم ، كأنا في دار عقبة بن رافع ، فأتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأولتها : بالرفعة لنا في الدنيا ، والعاقبة في الآخرة ، وأن ديننا قد طاب ] (صحيح مسلم ، حديث رقم : 2270.  ) ومن الأحاديث التي وردت فيها كلمة التأويل بمعنى التفسير والبيان :  دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم  -   لابن عباس بتعلم التأويل ، وقد ورد هذا الدعاء في روايات عديدة ، بينها تفاوت في ألفاظها . ففي البخاري : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم  -   ضم ابن عباس إلى صدره وقال : ( اللهم علمه الكتاب )( صحيح البخاري وبهامشه حاشية السندي : ج2، ص 308)     وفي رواية مسلم : ( اللهم علمه الحكمة . ) (صحيح مسلم ، حديث رقم : 2477) 
 
 وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما – قال : إن  رسول الله  - صلى الله عليه وسلم  -   وضع يده على كتفي ، أو منكبي ، ثم قال : ( اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ) (مسند الامام أحمد : ج1: ص 266.)  والمراد بالتأويل هنا : التفسير والبيان ، ولا يجوز القول بأنه يعلم حقائق تأويل القرآن الخارجية،لأن ذلك من الغيوب التي استأثر الله بعلمها . 
 
لم يكن التأويل وقفا على عصر دون عصر ، فقد وجد منذ عصر الصحابة  -   رضوان الله عليهم  -  وكان ذائعا شائعا بينهم ، قال الآمدي  : ( وإذا عرفت معنى التأويل ، فهو مقبول معمول به إذا تحقق بشروطه ، ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا  ، عاملين به من غير نكير . ) (الآمدي ، الاحكام في أصول الأحكام : ج3: 75.)    ويدلنا على ذلك اجتهادات ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما من أعلام الصحابة (الدلالات الفظية عند الأصوليين : ص 238-239)  ، بالإضافة إلى الآثار المروية عن كبار الصحابة التي تحذر من شطط التأويل  ، من ذلك : ما رواه عمرو بن دينار قال  : قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - : ( إني أخاف عليكم رجلين : رجل يتأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينافس أخاه على الملك . ) (ابن عبد البر: جامع بيان العلم : ج2: 237) وعن عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أن  عمر بن الخطاب ، قال : ( ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ، ولا من فاسق بين فسقه ، ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ، ثم تأوله على غير تأويله  )( المرجع السابق : ج 2 : 238.) كما كان أهل الرأي والعلم بالمرصاد للمؤولين الذين لا يريدون وجه الحق في تأويلاتهم ، وغير المستندة إلى أدلة الشرع ، أو مخالفة لحكمة التشريع ، أو الناتجة عن خطأ في الفهم ، كفعل أبي بكر   – رضي الله عنه – بالمرتدين ، الذين أولوا آية الزكاة على غير وجهها (فتح الباري : 12: 233) ،  وكما فعل عمربن الخطاب – رضي الله عنه  - بقدامة بن مظعون  (ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم : ج5: 475)، وصبيغ بن عسل التميمي (السيوطي : الدر المنثور ، ج2: ص 7 .) ، وأمثالهم .       
التأويل  في الاصطلاح:-  يطلق مصطلح التأويل في اصطلاح المتقدين من السلف وأهل القرون الثلاثة الأولى على معنيين هما : 
 
الأول : تفسير اللفظ وبيان معناه ، وهذا كثير في استعمالات السلف .. جاء في الحديث الذي رواه جابر في وصف الحج قوله : ( ورسول الله - صلى الله عليه وسلم  -   بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به )( صحيح مسلم : ج2: ص 887.) يعني :  تفسيره وبيانه بأقواله وأفعاله- صلى الله عليه وسلم  -   . ونرى ذلك كثيرا في تفسير الإمام الطبري، حيث يستخدم التأويل بمعنى التفسير، فيقول: ( وقال أهل التأويل) ثم يورد أقوال المفسرين . 
الثاني : الحقيقة التي يؤول إليها الكلام ، أي : وقوع المخبر به في وقته الخاص إذا كان الكلام خبرا  أو امتثال ما دل عليه الكلام ، وإيقاع مطلوبه إذا كان الكلام طلبا ، وهو معنى يرجع إلى العاقبة والمصير ) (مجموع الفتاوى ، ج3: ص 55-56.) . وظل هذان  المعنيان معروفين للسلف إلى أن ظهرت الفرق الإسلامية المختلفة منذ عهد الخليفة الراشد  : عثمان بن عفان  - رضي الله عنه وأرضاه - ، فكان للتأويل اصطلاح آخر ، انتشر ببطء في الفكر الإسلامي ،وتلون بلون كل فريق ومذهب ، وأخذ يشكل معارضة هادئة للإسلام ، معتمدا على الآيات بتحريف دلالاتها ، أمام استحالة التغيير للنص المحفوظ . وكانت محاولات هؤلاء على قلتها ، تعتبر البدايات الأولى للتأويل الباطني الفاسد ، وليس أدل على ذلك من قول قتادة عند قراءته لقوله تعالى :(فأما الذين في قلوبهم زيغ ..الآية) ( آل عمران : 7 ) :  ( إن لم يكونوا الحرورية  - أي الخوارج - ، والسبئيين ، فلا أدري من هم . …. إلى أن يقول : والله إن اليهودية لبدعة ، وإن النصرانية لبدعة ، وإن الحرورية- أي الخوارج الذين انحازوا إلى بلدة حروراء بالعراق -  لبدعة ، وإن السبئية لبدعة ، ما نزل بهن كتاب ، ولا سنهن نبي ) . (تفسير الطبري ، ج3: 119. )  وقال الطبري عند تفسيره لقوله تعالى : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ .. الآية ) (آل عمران : 7 ) :( هذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك ، فإنه معني بها كل مبتدع في دين الله ، كان من أهل النصرانية ، أو اليهودية ، أو المجوسية ، أو كان سبئيا .. ) (تفسير الطبري ، ج3: 121.)  لقد وجد السبئيون  الباطنيون -  ومن نسج على منوالهم  - في التأويل متنفسا لتعاليمهم  يتجاوزون بها الحدود الظاهرة لمعاني الكلم ، أو كما يقول البغدادي : ( إن الباطنية احتالت لتأويل 
أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة . ) (عبد القاهر البغدادي ، الفَرق بين الفِرق : ص 175.) فقام العلماء من مفسرين ، ومحدثين ، وفقهاء ، وأصوليين ، وغيرهم ، بالتصدي لهم ، وبينوا معنى التأويل ، وأدلته ، ومجالاته ، وقاموا بوضع الضوابط والشروط للتأويل الصحيح ، لمنع المبتدعين من تحريف نصوص الآيات ، والخروج بها عن معانيها المرادة .
 
معنى التأويل في اصطلاح المتأخرين : قال  الفخر الرازي محمد بن عمر: - ( التأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح ، مع قيام الدليل القاطع عن أن ظاهره محال) (الفخر الرازي : أساس التقديس ، ص 222.)   وقال ابن الحاجب-جمال الدين عثمان بن عمر المشهور بابن الحاجب: (التأويل: هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح،  بدليل يصيره راجحا . ) (شرح مختصر المنتهى : ج3: ص 75 .)       
والتعريف الاصطلاحي للتأويل في اصطلاح المتأخرين  ، أصبح في عرف المتكلمين ،  والفقهاء ، والمفسرين ، هو الذي ينصرف إليه الذهن عند الإطلاق، وأصبح شائعا ومتعارفاً عليه بين المتأخرين  ويبدو أن استعماله بهذا المعنى، استوجبته دواعي كثيرة، كان من أبرزها مواجهة التأويلات  المنحرفة التي بدأت بالبروز في المجتمع الإسلامي في وقت مبكر ، والتي كانت مستندا لكثير من النزعات الطائفية والشعوبية ، والفرق الضالة ،  وبعض الذين تسربلوا  بالإسلام، ولم يتجردوا من مواريثهم العقائدية، وتركاتهم الثقافية، وأرادوا الكيد للإسلام من الداخل.