نظرة أميركية بعين واحدة الى التشدُّد الإسلامي

سام منسّى  

 

تكمن أهمية المقال - المقابلة التي أجراها الصحافي جيفري غولدبرغ مع الرئيس الأميركي باراك أوباما في مجلة «أتلانتيك» أنه قدّم مراجعة شاملة للسياسة الخارجية الأميركية على مدى ثماني سنوات تقريباً. المقابلة قدّمت حججاً للذين يؤيدون هذه السياسة كما في المقابل للمتضررين منها أو المناهضين. الأهم بالنسبة إلينا في منطقة الشرق الأوسط، أن هذا المقال يؤكد ما عُرف عن موقف الرئيس الأميركي من القضايا التي تشغل وتشعل المنطقة، لا سيما تداعيات الربيع العربي لجهة الحروب الدائرة في كل من سورية وليبيا، وكذلك المواقف الأميركية تجاه مصر وتونس ودول الخليج العربي بعامة والسعودية بخاصة.

بعيداً من التجريح بهذه السياسة الخارجية، ما نحتاجه فعلياً هو قراءة هذه المراجعة الشاملة لسياسة هذه الإدارة تحديداً تجاه منطقة الشرق الأوسط، لفهم حقيقة الموقف الأميركي والإفادة والتعلُّم منه من جهة ومحاولة تصويبه ومواجهته بما فيه مصلحة الدول العربية أو الأطراف التي تضررت منه من جهة أخرى، وذلك عبر معرفة المفاصل الرئيسة التي تحكمت به.
البعض يعتبر أن لدى الرئيس أوباما إيديولوجيا معينة وراء سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط، فيما ينفي آخرون هذا القول معتبرين أن قراءة هذه السياسة بمعزل عن الصورة الكبرى لسياسة هذه الإدارة بعامة هي قراءة ناقصة تمنعنا من إدراك حقيقتها.
إن مواقف وردود فعل الرئيس الأميركي من التطورات في الإقليم هي جزء من رؤيته الكبيرة لدور الولايات المتحدة الأميركية في السياسة العالمية، وغير مرتبطة بما حصل أو يحصل في منطقة الشرق الأوسط حصراً.
وسياسة ادارة اوباما تجاه آسيا لم تعط ثماراً ناجحة أكثر منها بالنسبة الى أوروبا كما بالنسبة الى الشرق الأوسط. بالتالي، النقطة الأولى التي يجب التوقف عندها هي رؤية هذا الرئيس الأميركي لدور الولايات المتحدة الأميركية في السياسة العالمية.
في نظر الرئيس الأميركي ينبغي أن تكون الولايات المتحدة جزءاً من المجتمع الدولي وأن يكون لها بالطبع دور أساسي، إنما هو يرفض أولاً لعب دور شرطي العالم، ويعتبر ثانياً أن المصلحة الرئيسة والأولى هي مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، ويعتقد ثالثاً أنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تقوم بعمل ما خارج نطاق حدودها يجب ان يكون هذا العمل منسقاً مع دول أخرى مجتمعة. بمعنى أنه لم يعد هناك وجود لسياسة «القطب الواحد»، ولم تعد الولايات المتحدة في نظر الرئيس الأميركي الدولة العظمى الوحيدة في العالم بل هو يراعي في هذا المجال أدوار روسيا الاتحادية والصين وأوروبا وغيرها.
وفي السياق نفسه ينبغي التذكير بأن على رغم كل الاتهامات التي وجّهت إلى الولايات المتحدة والأوصاف التي أطلقت عليها من قبل الجهات اليسارية والقومية بأنها دولة إمبريالية وتوسعية، تظهر الوقائع أن الولايات المتحدة لم تكن كذلك عبر تاريخها. فعلى رغم كل تدخُّلاتها في العالم، كانت السمة الرئيسة لهذه التدخلات على الأقل منذ فيتنام أنها مهمات وأهداف غير منجزة: لم تنجز في فيتنام ولم تنجز في أفغانستان ولم تنجز في العراق ولم تنجز في لبنان إلخ... والأسباب دوماً ان مزاج الرأي العام والمزاج السياسي للولايات المتحدة يميل إلى الانكفاء والعزلة أكثر منه إلى السيطرة والتوسع. قد يكون الحجم الاقتصادي للولايات المتحدة وأهمية دورها في الاقتصاد العالمي وراء الانطباع السائد أن ما يدفعها هو رغبة توسعية امبريالية، من دون أي وجود لرغبة كهذه في العقل الأميركي بعامة.
يمثّل الرئيس اوباما يامتياز ومن دون أدنى شك هذا التوجه، لا سيما أنه أحاط نفسه منذ البداية بمجموعة من المستشارين المقربين الذين يشاركونه وجهة نظره هذه، ما أدى على مدى السنوات السبع الماضية إلى خروج عدد كبير من المستشارين والوزراء من هذه الإدارة.
انما أول ما يلفت في حديث الرئيس أوباما هو نظرته المتعالية تجاه حلفائه من رؤساء دول أو أصدقائه من الدول الحليفة، إضافة إلى سمة العناد والتشبث بآرائه. يضاف إلى هذه النظرة الفوقية عدم الحيادية. إن المواقف التي أطلقها الرئيس الاميركي، لا سيما تجاه منطقة الشرق الأوسط والحروب الدائرة فيها هي نظرة مجتزأة.
قد تحمل أقوال الرئيس اوباما جانباً من الحقيقة. المنطقة تعاني من مشاكل أساسية وينبغي ألا نلقي بوزرها وما آلت إليه الامور، لا سيما في سورية، على كاهل السياسة الاميركية. ولكن من جهة أخرى، فإن نظرة الرئيس الأميركي لدول الخليج العربي وبقية الدول العربية وتركيزه على فكرة القبلية التي يعزو إليها الكثير من المشكلات وأسباب الأزمات في المنطقة هي نظرة مجتزأة ومسطحة. أولاً: من المبالغة اعتبار القبلية لبّ المشكلة في العالم العربي، وهي ليست فقط سمة عربية بل هي موجودة في دول أخرى في المنطقة. وثانياً: يركّز أوباما على دول الخليج العربي وينسى أو يتناسى تماماً إيران ودورها على مدى أكثر من 36 سنة في المنطقة بعامة وتجاه الولايات المتحدة بخاصة منذ الثورة الإسلامية في إيران وحتى اليوم، ويشطب في شكل شبه متعمّد كل ما قامت به ولا تزال.
إن عدم التمييز بين الشعب الإيراني وحكام إيران هو جزء من المشكلة، إذ يتناسى الرئيس الأميركي تماماً طبيعة النظام الإيراني ويتجاهل القوى التي تتحكم بإيران ودور رجال الدين في الحياة السياسية، ويكاد يُسقط من حسابه عقيدة الدولة الإسلامية ومنسوب التطرف والتشدُّد الشيعي وما تأتّى عنه من تصدير للثورة الإسلامية، ما أيقظ في المقابل التطرف والتشدُّد السني، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه. العطب الرئيس في سياسة هذه الإدارة تجاه المنطقة هو مقاربة وجه من وجوه التطرف العنفي، أعني التطرف السنّي ونتائجه، والتغاضي عن الوجوه الأخرى.
إن اقتصار «الشيطنة» على المتشددين من السنّة واعتبار «القاعدة» وأخواتها من «داعش» وغيرها صافية وخالية من أدوار استخبارات دول كثيرة، يؤكد مجدداً على الانحياز من جهة والنظرة المسطحة لمشكلات المنطقة من جهة ثانية.
هذه السياسة، لا سيما إبان هذه المرحلة الصعبة من تاريخ المنطقة، خلقت حالة من انعدام التوازن أدت الى تضخُّم في احجام وأدوار بعض الدول والمنظمات وضمور وانكماش في أدوار البعض الآخر. ولن تستقيم الأمور طالما التوازن لا يزال بعيداً. مَنْ غير واشنطن قادر على إعادة التوازن والأحجام الى طبيعتها؟
وفي هذا الــــسياق يجب ألاّ نغفل أن اللوبي الإيراني في واشنطن لعب دوراً أساسياً في تغيير وجهــة نظر الإدارة الاميركية خلال عهد الرئيس أوباما. استطاع هذا اللوبي الإيراني الإفادة من قناعات هذا الرئيس والحلقة الضيقة التي تحيط به من مستشارين ومقربين، ليخدم مصالح إيران والمحور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. بينما في المقابل كان اللوبي العربي مزعزعاً وضعيفاً ومشتتاً ولا يمثّل وجهة نظر واحدة، في وقت كان ينبغي أن يكون له دور في هذه المرحلة العصيبة. وعلى رغم ذلك يعتبر الرئيس اوباما أن شارع ماساشوستس في واشنطن، وهو شارع تقيم فيه أكبر مراكز البحوث الأميركية، يحتله العرب، وهذا دليل إضافي على النظر بعين واحدة.
يبقى ان نشير إلى ان البعد القيمي او الأخلاقي في سياسة ادارة الرئيس اوباما كما عبّر عنها في هذه المقابلة يبدو خجولاً وحتى ثانوياً.
يظهر ان الإدارة لم تعد تعير القيم الأميركية التقليدية الاهتمام نفسه، بل ان مصلحة الولايات المتحدة فوق كل اعتبار. بالطبع ان الولايات المتحدة ليست جمعية خيرية ولم تكن يوماً جمعية خيرية، إنما كانت هناك محطات مضيئة رئيسة في تاريخها ظهرت فيها هذه القيم بدءاً من الآباء المؤسسين، الى مبادئ ويلسون في بداية القرن، إلى مشروع مارشال، إلى البنك الدولي وصندوق النقد، كما المبادرات الكثيرة التي قامت بها دفاعاً عن قضايا حقوق الإنسان ومناصرة الحرية ومناهضة التعذيب.
في المقابل، لا ننسى سجل الولايات المتحدة الحافل إبان مناهضة الشيوعية ودعمها للأنظمة العسكرية المتشددة التي حكمت أميركا اللاتينية وغيرها. العالم العربي لن ينسى أيضاً الدور الأميركي في دعم الأنظمة الاستبدادية لفترة طويلة، كما مواقف واشنطن المؤيدة لممارسات إسرائيل.
انما أبرز تعبير عن ضمور القيم الأميركية هو سياسة هذه الإدارة إزاء الحرب الدائرة في سورية والموقف المتفرج على سقوط مئات الآلاف من الضحايا الابرياء، وأن تأخذ الموقف السياسي المطلوب لوضع حد للمجزرة في سورية وللفوضى الدائرة في ليبيا، كما التوقف عن الشماتة بالحلفاء الأوروبيين.
مآسٍ إنسانية لا يجوز ان تغيب عن بال رئيس أعظم وأكبر دولة في العالم، ما أفسح المجال لفلتان غير مسبوق على المستويات كافة، من الحدث الأوكراني الى المقتلة في سورية. ان مواقف إدارة الرئيس أوباما هي التي جعلت من روسيا الضعيفة على اكثر من صعيد قوة عظمى متخيلة.
هل أضرت هذه السياسة بالمصالح الأميركية؟
الاجابة في حاجة الى مزيد من الوقت، انما تجدر الإشارة إلى أن الناخب الأميركي الذي أوصل أوباما الى الرئاسة والى حد ما كرد فعل على سياسة الرئيس جورج بوش، هو نفسه يكاد يأتي بشخصية على غرار دونالد ترامب إلى رأس الدولة. وإذا لم يتمكن ترامب من الفوز فبفضل حكمة الجمهوريين فقط لا أكثر ولا أقل لأنهم لن يسمحوا بنهاية حزبهم.