الابتلاء بين التكريم والإهانة - د. عبدالسميع الأنيس

تأمَّلتُ قولَ الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
 
فرأيتُ:
1- أن الابتلاء امتحانٌ، والإنسانُ بعده إما أن يُكرَم أو يُهان:
فإذا نزل البلاء، فتلقَّاه الإنسان بالصبر والرضا، صاحَبَه سَكينة وأُنس، واستفاد منه صاحِبُه في تكفير السيئات، ورفع الدرجات.
 
وإن تلقَّاه بالجَزَع والاعتراض، صاحَبَه قلقٌ وضَجَر ووَحْشة، ولم يستفد منه صاحبُه، وإذا نَطَق بكلمات السُّخط وعدم الرضا، أَثِمَ.
 
فما أجملَ أن يبتلِيَك ربُّك بالبلاء، ثم يراك صابرًا محتسبًا، مُثنِيًا عليه سبحانه بالثناء الجميل! أُسوةً بأيوب عليه السلام، الذي أخبر عنه الحقُّ بقوله: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
 
ورحم الله الأستاذ بديع الزمان عندما قال:
"أيها المُبتلَى ببَلِيَّة، إن نعمةً ما مُندرِجةٌ ضِمن كل مصيبة، لاحظْها بدقة لِتشاهِدَها.
 
إذ كما توجد درجة حرارة في كل شيء، ففي كل مصيبة توجد درجة من النعمة، شاهدْ درجة النعمة هذه في البَلِيَّة الصغرى، وفكِّر بالعُظمى، واشكر ربك الرحيم.
 
وإلَّا... فكلما استعظمتَها، جَفَلتَ منها؛ لأنك إذا ما تأسَّفت عليها، تُستَعظم وتكبر حتى تتضخَّم، ويُصيبك الرعبُ منها، وإذا ما زِدتها بالقلق والأوهام تتوءمتْ بعد أن كانت واحدة؛ لأن صورتها الوهمية التي في القلب تَنقلِب إلى حقيقة، ثم تعود تَنزل بضرباتها الموجعة على القلب"؛ الكلمات، اللوامع، ص: 870.
 
2- إن أمَّة النبي عليه الصلاة والسلام أمَّة مكرَّمة:
وكلما زاد التكريم زاد الابتلاء! أليس قد قال الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أشدُّكم بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل)).
 
ومثلها كمثل التِّبْر؛ يُعرَض على النار ليكون ذهبًا خالصًا يصلح للزينة والخزينة.
وقد لَبِث نبيُّ الله أيوب عليه الصلاة والسلام في البلاء سنين عددًا، ثم فرَّج الله عنه.
 
وذَكَر غيرُ واحد من المفسِّرين أنَّ بين دعوة موسى عليه الصلاة والسلام على فِرعون وقومه، وبين قول الله عز وجل لهما: ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾ [يونس: 89]: أربعين سَنَة!
 
وقد لَبِث نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ومَن معه من المؤمنين في الحِصار في الشِّعَب ثلاث سنين.
 
3- ولهذا كان على المؤمن أن يَستسلم لله سبحانه ولا يشكو؛ فإن الشكوى بلاءٌ في بلاء؛ قال الأستاذ بديع الزمان:
"دع الصُّراخ يا مسكين، وتوكَّلْ على الله في بلواك؛ إنما الشكوى بلاء، بل بلاء في بلاء، وآثام في آثام في بلاء.
 
إذا وجدتَ مَن ابتلاكَ، عادَ البلاءُ عطاءً في عطاء، وصفاءً في صفاء، ووفاءً في بلاء... دعِ الشكوى واغنَم الشكر كالبلابل؛ فالأزهار تَبتسِم من بَهجة عاشقِها البلبل؛ فبغير الله دنياك آلامٌ وعذاب، وفناء وزوال، وهباء في بلاء، فتعالَ توكَّل عليه في بلواك.
 
ما لك تَصرُخ من بَلِيَّة صغيرة وأنت مُثقَل ببلايا تَسَع الدنيا؟ تبسَّم بالتوكُّل في وجه البلاء؛ ليبتسم البلاء، فكلما تبسَّم صَغُرَ وتضاءل حتى يزول.
 
أيها المغرور، اعلم أن السعادة في هذه الدنيا في تركها، إن كنت بالله مؤمنًا فهو حَسْبُك، فلو أدبرْتَ عن الدنيا أقبلَتْ عليك، وإن كنتَ معجبًا بنفسك فذلك الهلاكُ المبين، ومهما عَمِلتَ فالأشياء تُعادِيك.
 
فلا بد من التَّرْك إذًا في كلتا الحالتين؛ وتَرْكها يعني: أنها ملكُ اللهِ، يُنظَر إليها بإذنه وباسمه، وإن كنت تبغي تِجارة رابحة، فهي في استبدال عمرٍ باقٍ لا يزول بعُمْرِك الفاني الزائل، وإن كنتَ تريد رغباتِ نفسك، فهي زائلة تافهة واهية، وإن كنتَ تتطلَّع إلى الآفاق، فختم الفناء عليها؛ فالمَتاع في هذا السوق مُزيَّف، لا يستحق الشراء إذًا.
 
لذا دَعْهُ؛ فالأصيل منه قد أعدّ خلفه"؛ الكلمات - 224.
اللهم ادفعْ عنا المِحَن والفِتَن، واجعلنا من الشاكرين الحامدين.