فوائد غض البصر - عبدالرؤوف الأسطواني

قال إبراهيم في روضته:
"فصل: وفي غض البصر عدة فوائد: أحدها تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضر شيء على القلب إرسال البصر، فإنه يريه ما يشتد طلبه ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه، قال الأصمعي: رأيت جارية في الطواف كأنها مهاة، فجعلت أنظر إليها وأملأ عيني من محاسنها، فقالت لي: يا هذا، ما شأنك؟ قلت: وما عليك من النظر؟ فأنشأت تقول:
وكنتَ متى أرسلت طرفك رائدًا 
لقلبك يومًا أتعبتك المناظرُ 
رأيتَ الذي لا كله أنت قادرٌ 
عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ 
 
والنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه كما قيل:
كل الحوادث مبداها من النظر 
ومعظم النار من مُستصغر الشرر 
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها 
فتكَ السهام بلا قوسٍ ولا وتر 
والمرء ما دام ذا عينٍ يُقلبها 
في أعين الغيد موقوف على الخطر 
يسر مُقلته ما ضر مُهجته 
لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر 
 
والناظر يرمي من نظره بسهام غرضها قلبه وهو لا يشعر، فهو إنما يرمي قلبه، ولي من أبيات:
يا راميًا بسهام اللحظ مجتهدًا 
أنت القتيل بما ترمي فلا تصب 
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له 
توقه إنه يأتيك بالعطب 
 
وقال الخفاجي[1]:
رمت عينها عيني وراحت سليمة 
فمن حاكم بين الكحيلة والعبرى؟ 
فيا طرف قد حذرتك النظرة التي 
خلست فما راقبت نهيًا ولا زجَرَا 
ويا قلب قد أرداك طرفي مرة 
فويحك لِمَ طاوعته مرة أخرى؟ 
 
ولي من أبيات لعل معناها مبتكر:
ألم أقل لك لا تسرق ملاحظة 
فسارق اللحظ لا ينجو من الدرك[2] 
نصبت طرفي له لَما بدا شركًا 
فكان قلبي أولى منه بالشرك 
 
الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نورًا وإشراقًا يظهر في العين وفي الوجه والجوارح، كما أن إطلاق البصر يورثه ظلمة تظهر في وجهه وجوارحه، ولهذا والله أعلم ذكر الله سبحانه آية النور في قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [النور: 35] عقب قوله: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ﴾ [النور: 30]، وجاء الحديث مطابقًا لهذا، حتى كأنه مشتق منه وهو قوله: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره عن محاسن امرأة، أورث الله قلبه نورًا).
 
الفائدة الثالثة: أنه يورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصير بمنزلة المرآة المجلوة، تظهر فيها المعلومات كما هي، والنظر بمنزلة التنفس فيها، فإذا أطلق العبد نظره تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه، فطمست نورها؛ كما قيل:
مرآة قلبك لا تريك صلاحه ♦♦♦ والنفْس فيها دائمًا تتنفس
 
وقال شجاع الكرماني: (من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وأكل من الحلال لم تُخطئ فراسته)، وكان شجاع لا تخطئ له فراسة.
 
والله سبحانه وتعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنسه، فمن غض بصره عن المحارم، عوَّضه الله سبحانه وتعالى إطلاق نور بصيرته، فلما حبس بصره لله، أطلق الله نور بصيرته، ومن أطلق بصره في المحارم، حبس الله عنه بصيرته.
 
الفائدة الرابعة: أنه يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب، فإنه إذا استنار ظهرت فيه حقائق المعلومات، وانكشف له بسرعة ونفذ من بعضها إلى بعض، ومن أرسل بصره تكدر عليه قلبه وأظلم، وانسد عليه باب العلم وطرقه[3].
 
الفائدة الخامسة: أنه يورث قوة القلب وثباته وشجاعته، فيجعل له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، وفي الأثر: إن الذي يخالف هواه يفرق الشيطان من ظله، ولهذا يوجد في المتبع لهواه من ذل القلب وضعفه ومهانة النفس وحقارتها، ما جعله الله لمن آثر هواه على رضاه؛ قال الحسن: إنهم وإن هملجت[4] بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين[5]، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
 
وقال بعض الشيوخ: الناس يطلبون العز بأبواب الملوك، ولا يجدونه إلا في طاعة الله، ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه، وفيه قسط ونصيب من فعل من عاداه بمعاصيه، وفي دعاء القنوت: (إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت).
 
الفائدة السادسة: أنه يورث القلب سرورًا وفرحة وانشراحًا أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوه بمخالفته ومخالفة نفسه وهواه، وأيضًا فإنه لما كف لذته وحبس شهوته لله - (وفيها مسرة نفسه الأمَّارة بالسوء) - أعاضه الله سبحانه مسرة ولذة أكمل منها؛ كما قال بعضهم: "واللهِ لَلَذَّةُ العفة أعظم من لذة الذنب"، ولا ريب أن النفس إذا خالفت هواها أعقبها ذلك فرحًا وسرورًا، ولذة أكمل من لذة موافقة الهوى بما لا نسبة بينهما، وها هنا يمتاز العقل من الهوى.
 
الفائدة السابعة: أنه يخلص القلب من أسْر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، فهو كما قيل: "طليق برأي العين وهو أسير"، ومتى أسَرت الشهوة والهوى القلب، تمكن منه عدوه وسامه سوء العذاب وصار:
كعصفور في كف طفل يسومها ♦♦♦ حياض الردى والطفل يلهو ويلعب
 
الفائدة الثامنة: أنه يسد عنه بابًا من أبواب جهنم، فإن النظر باب الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل، وتحريم الرب تعالى وشرعه حجاب مانع من الوصول، فمن هتك الحجاب ضَرِيَ بالمحظور، ولم تقف نفسه منه عند غاية، فإن النفس في هذا الباب لا تقنع بغاية تقف عندها، وذلك أن لذتها في الشيء الجديد، فصاحب الطارف لا يقنعه التليد[6]، وإن كان أحسن منه منظرًا وأطيب مخبرًا، فغض البصر يسد عنه هذا الباب الذي عجزت الملوك عن استيفاء أغراضهم فيه.
 
الفائدة التاسعة: أنه يقوي عقله ويزيده ويثبته، فإن إطلاق البصر وإرساله لا يحصل إلا من خفة العقل وطيشه، وعدم ملاحظته العواقبَ، فإن خاصة العقل ملاحظة العواقب، ومرسل النظر لو علم ما تجني عواقب نظره عليه لما أطلق بصره، قال الشاعر:
وأغفل الناس من لم يرتكب سببًا ♦♦♦ حتى يفكر ما تجني عواقبه
 
الفائدة العاشرة: أنه يخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يوجب استحكام الغفلة عن الله والدار الآخرة، ويوقع في سكرة العشق؛ كما قال الله تعالى عن عشاق الصور: ﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [الحجر: 72]، فالنظرة كأس من خمر، والعشق هو سكر ذلك الشراب، وسكر العشق أعظم من سكر الخمر، فإن سكران الخمر يفيق، وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات؛ كما قيل:
سكران سكر الهوى وسكر مدامة ♦♦♦ ومتى إفاقة من به سكران؟
 
وفوائد غض البصر وآفات إرساله، أضعاف أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبَّهنا عليه تنبيهًا، ولا سيما النظر إلى مَن لم يجعل الله سبيلًا إلى قضاء الوطر منه شرعًا، كالمردان الحسان، فإن إطلاق النظر إليهم السم الناقع والداء العضال.
 
وقد روى الحافظ محمد بن ناصر من حديث الشعبي مرسلًا، قال: قدم وفد عبدالقيس على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم وراء ظهره، وقال: كانت خطيئة من مضى من النظر، وقال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم الرجل يحد النظر إلى الغلام فاتهموه، وقد ذكر ابن عدي في كامله من حديث بقية عن الوازع عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحد الرجل النظر إلى الغلام الأمرد، وكان إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وغيرهما من السلف ينهون عن مجالسة المردان، قال النخعي: مجالستهم فتنة، وإنما هم بمنزلة النساء، وبالجملة فكم من مرسل لحظاته رجع بجيش صبره مغلولًا، ولم يقلع حتى تشحط بينهم قتيلًا: