زكاة الحلي والذهب - أ. د. علي أبو البصل

 الياقوت والجواهر، وغير ذلك من أنواع الحليِّ، فهل تجب الزكاة فيما يُتَّخذ حليًّا للنساء أو للرجال، أم لا تجب؟

 

أولاً: تحرير محل النزاع:

أ - الحلي ليس من حاجات الرجل، ولا من مقتضيات فطرته؛ ولهذا حرَّم الإسلام عليه التحلي بالذهب، ولم يبح للرجال إلا التختُّم بالفضة، ومثل هذا لا يبلغ التحلي به نصابًا، وإن بلغ نصابًا بنفسه فتجب فيه الزكاة؛ لأنه مال مُعطَّل، كان في الإمكان أن يُنمى وينتفع به، وأحل للنساء التحلي بالذهب لحاجتهنَّ إليه للتزين للأزواج[1].

 

ب - اتفق الفقهاء في الجملة على أن الحلي من غير الذهب والفضة كاللؤلؤ والمرجان ونحوها، فلا زكاة فيه[2]، لأنه مال غير نام، بل هو حلية ومتاع للمرأة، أباحه الله تعالى بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ﴾ [النحل: 14].

 

جـ - الحلي المعدُّ للتجارة أو الإجارة أو النفقة تجب فيه الزكاة، وكذلك ما اتخذ حِليةً فرارًا من الزكاة[3].

 

د - إذا كان الحليُّ للبس، فنوت به المرأة التجارة، انعقد عليه الحول من حيث نوت، ووجبت فيه الزكاة؛ لأن الوجوب هو الأصل، وإنما انصرف عنه لعارض الاستعمال، فعاد إلى الأصل وهو وجوب الزكاة بمجرد النية من غير استعمال، فهو كما لو نوى بعرض التجارة القنية، انصرف إليه من غير استعمال[4].

 

هـ - انحصر خلاف الفقهاء في حلي المرأة من الذهب أو الفضة، هل فيه زكاة، أم لا؟[5].

 

و- يباح للنساء في حلي الذهب والفضة والجواهر، كل ما جرت عادتهن بلبسِه؛ مثل السوار والخلخال، والخاتم، وما يلبسنه على وجوههن، وفي أعناقهن وأيديهن، وأرجلهن، وآذانهن وغيره، فأما ما لم تجْرِ عادتهن بلبسه، فهو محرَّم، وعليها زكاته، كما لو اتخذ الرجل لنفسه حلي المرأة، ومن ذلك اتخاذها حِلية الرجال؛ كحلية السيف، فهو محرَّم، وعليها الزكاة.

 

ز- اتخاذ آنية الذهب والفضة، حرام على النساء والرجال جميعًا، وكذلك استِعمالها، وفيها الزكاة، لما في ذلك من السرف والخُيَلاء، وكسر قلوب الفقراء، ولا حاجة إليه[6].

 

ثانيًا منشأ الخلاف في هذه المسألة:

يَرجع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة، إلى الأمور التالية:

1 - اختلاف الآثار الواردة في المسألة، واختلاف العلماء في صحتها ودلالتها.

 

2 - اختلاف الفقهاء في قياس حلي المرأة، وتكييفه الفقهي، فمن قاسه على النقد واعتبره امتدادًا له، أوجب فيه الزكاة، ومن قاسه على الأثاث والمتاع، واعتبره من حاجات المرأة، لم يوجب فيه الزكاة؛ لأن الزكاة تجب في المال النامي، أو القابل للنَّماء، وحاجات المرأة، لا نماء فيها، فلا تجب فيها الزكاة بإجماع[7].

 

ثالثًا آراء العلماء في زكاة حليِّ المرأة:

انقسم الفقهاء في هذه المسألة إلى فريقين:

الأول: يرى وجوب الزكاة في حليِّ المرأة، إذا كان من الذهب والفضة، ويُنسب هذا الرأي إلى عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وهو مذهب الحنفية والزيدية والظاهرية، وقول عند الشافعية والحنابلة[8].

 

واستدلوا على رأيهم هذا، بما يلي:

أ - قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].

 

وجه الاستدلال بالآية الكريمة:

اشتملت الآية الكريمة على وعيد شديد لمن يكنز الذهب والفضة، وترك إنفاقها في سبيل الله، من غير فصل بين الحليِّ وغيره، وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته فهو كنز، ولا يلحق الوعيد إلا بترك الواجب، فدلَّ ذلك على وجوب الزكاة في حليِّ المرأة من الذهب والفضَّة[9].

 

ب - قال صلى الله عليه وسلم: ((في الرِّقَّة ربعُ العُشر))[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وليس فيما دون خمس أَواقٍ مِن الوَرِقِ صدَقة، فإذا بلغ مائتي درهم، ففيهما خمسة دراهم))[11].

 

وجه الاستدلال بالحديثين الشريفين:

يُفيد الحديثان بوضوح وجوب الزكاة في حلي المرأة المصنوع من الفضة؛ وذلك لاندراجه تحت عموم هذين الحديثين الشريفين، فتجب الزكاة في الحليِّ إذا بلغ نصابًا[12].

 

جـ - عن عمرو بن شعيب عن جده، أن امرأتين أتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أيديهما سوارانِ مِن ذهب، فقال لهما: ((أتؤدِّيان زكاته))، قالَتا: لا، قال، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتُحبَّان أن يُسوِّركما الله بسوارَين مِن نار؟)) قالتا: لا، قال: ((فأدِّيا زكاته))[13].

 

وجه الاستدلال بالحديث الشريف:

يفيد الحديث الشريف بوضوح وجوب الزكاة في حلي المرأة المصنوع مِن الذهب؛ لأنَّ العقوبة بالنار، لا تكون إلا بتركِ الواجب، كما أن الأمر يقتضي الوجوب؛ ولهذا يعد الحديث نصًّا في الموضوع.

 

د - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنتُ ألبس أوضاحًا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، أكنز هو؟ فقال: ((ما بلَغ أن تؤدي زكاته، فزكِّي، فليس بكنز))[14].

 

وجه الاستِدلال بالحديث الشَّريف:

يدلُّ الحديث بوضوح على وجوب زكاة الحليِّ المصنوع من الذهب؛ لأنَّ عدم الزكاة يؤدي إلى الكنز المحرم، بالإضافة إلى الأمر الوارد في الحديث، والذي يُفيد الوجوب.

 

هـ - عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلَ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم فرَأى في يَدي فَتِخات مِن وَرِقٍ، فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلتُ: صنعتهنَّ أتزينَّ لك يا رسول الله! قال: ((أتؤدِّين زكاتهنَّ؟)) قلتُ: لا، أو ما شاءَ اللهُ، قالَ: ((هو حَسبُك من النار))[15].

 

وجه الاستِدلال بالحديث الشريف:

يدلُّ الحديث بوضوح على وجوب الزكاة في الحليِّ المصنوع مِن الفضَّة؛ لأنَّ العقوبة بالنار، لا تكون إلا بترك واجب.

 

و - وأما المعقول فإن الحليَّ مال فاضل عن الحاجة الأصلية؛ إذ الإعداد للتجمُّل والتزين دليلُ الفضل عن الحاجة الأصلية، فكان نعمةً لحُصول التنعم فيه، فيلزمه شكرها، بإخراج جزء منها للفقراء[16].

 

والفريق الثاني: يرى عدم وجوب الزَّكاة في حليِّ المرأة المَصنوع مِن الذهبَ والفضة، ويُنسب هذا الرأي إلى عبدالله بن عمر، وعائشة، وأسماء بنت أبي بكر، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وهو مذهب المالكية، والراجِح عند الشافعية والحنابلة وبعض الزيدية[17].

 

واستدلوا على رأيهم بما يلي:

أ - عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود، قالت: خطَبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر النساء، تصدقن ولو من حليكنَّ، فإنَّكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة))[18].

 

وجه الاستدلال بالحديث الشَّريف:

يدلُّ الحديث بظاهرة على عدم وجوب الزكاة في حليِّ المرأة؛ لأن الحلي لو كانت زكاته واجبة، لما ضرب المثل به في صدقة التطوع، وهذا يعني بوضوح أنَّ الحلي لا زكاة فيه، وإنما يسنُّ التصدق منه.

 

ب - عن جابر بن عبدالله، قال: "ليس في الحلي زكاة" وينسب ذلك إلى ابن عباس، وأنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين[19]، وهذا يدل بوضوح على عدم وجوب الزكاة في الحلي؛ لأن النفي يدل على ذلك.

 

جـ - أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها، لهنَّ الحليُّ، فلا تخرج منه الزكاة[20].

 

د - روى نافع أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يُحلي بناته وجواريه الذهب، فلا يخرج منه الزكاة[21].

 

وهذه الآثار تدل بوضوح على عدم وجوب الزكاة في حلي المرأة، وهذا دليل على سماع ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن السبيل إلى مثل هذه المسائل التوقيف لا الرأي.

 

هـ - لم يردْ لا نص، ولا قياس في زكاة حليِّ المرأة، والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية ما لم يَرِد بها دليل شرعي مُعتمَد، ولعدم وجود دليل معتمَد في وجوب الزكاة في حليِّ المرأة، يصار إلى الأصل، وهو عدم وجوب الزكاة فيها.

 

و - الزكاة تجب في المال النامي، أو المُعَدِّ للنماء، والحليُّ ليس كذلك؛ لأنه مال جامد معطَّل ومخصص للزينة، فلا تجب فيه الزكاة[22].

 

ز - حليُّ المرأة مالٌ مُبتذَل في وجهٍ مُباح مُعتبَر شرعًا، لحاجة المرأة إلى ذلك، فلا تجب فيه الزكاة قياسًا على ثياب البذلة والمِهنة[23].

 

رابعًا: المناقشة والتَّرجيح:

1. مناقشة أدلة القائلين بوجوب زكاة حلي المرأة مِن الذهب والفضة، يردُّ على استدلالهم بما يلي:

أ - الاستدلال بالآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ﴾ [التوبة: 34] استدلال في غير محله؛ لأنَّ الآية نزلت في أهل الكتاب، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة وبيان نصبها[24]، ومقاديرها، والأموال التي تجب فيها، ومع القول بأنها مُحكَمة، فهي عامَّة مُجمَلة، خصصتها وفصلتها السنة الصحيحة، ومن ذلك الأدلة الواردة في عدم وجوب الزكاة في حلي المرأة المصنوع من الذهب والفضة[25].

 

ب - الاستدلال بحديث: ((في الرِّقَّة ربْع العُشر)) وبحديث: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)) استدلال في غيره محله؛ لأنَّ الرِّقة هي الدراهم المضروبة من الفضة، وكذلك الأواقي ليس معناها إلا الدراهم، كل أوقية أربعون درهمًا، والدراهم المضروبة ذات السكة السائلة في الناس، تجب فيها الزكاة باتفاق؛ ولهذا تكون الأحاديث خارج محل النزاع[26]، ولا يجوز الاحتجاج بها؛ لأنها لم تتعرض لزكاة الحلي لا من قريب ولا من بعيد.

 

جـ - أما الأحاديث الأخرى، والتي رواها أبو داود والترمذي والبيهقي والدارقطني، فهي أحاديث ضعيفة، لا يصح الاحتجاج بها، وقال فيها الترمذي: لا يصح في هذا الباب - أي في زكاة الحلي - عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء[27]، كما يحتمل أن الزكاة الواردة في الأحاديث هي الإعارة، كما فسر ذلك بعض العلماء، وذهَب إليه جماعة من الصحابة[28]، ومنهم ابن عمر[29] رضي الله عنهم أجمعين، والدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال، لبس ثوب الإجمال في محلِّ النزاع وسقط الاستدلال به.

 

د - يؤكِّد ضعف الأدلَّة مُخالفتها للأصل المجمع عليه في الزكاة، وهو أن الزكاة تجب في المال النامي، أو المعد للنماء، والحلي مرصودة لاستعمال مباح مصروفة عن جهة النماء، كما أنه لا يعقل من السيدة عائشة رضي الله عنها أن تسمع الوعيد الشديد الوارد في حديث الفَتخات ثم تخالفه، ولا تخرج زكاة حليِّ اليتامى اللاتي كنَّ في حجرها، وهذا يدل على ضعف الأحاديث التي استدلَّ بها الموجبون لزكاة الحليِّ [30].

 

هـ - القول بأن "الحليَّ مالٌ فاضل عن الحاجة الأصلية فتجب فيه الزكاة" غير صحيح؛ لأن الله سبحانه وتعالى أحل للنساء التحلي لحاجتهن إليه للتزيُّن للأزواج؛ ولهذا يكون بذل المال فيه مباحًا ومعتبرًا شرعًا، بخلاف حليِّ الرجال، فإنه مُبتذَلٌ في وجه محظور، ولهذا تجب الزكاة فيه؛ لأنه ساقط الاعتبار شرعًا، فكان ملحقًا بالعدم؛ ولهذا يكون التزيُّن للمرأة حاجة، وليس فاضلاً عن الحاجة؛ لارتباطه بفطرة المرأة وأنوثتها.

 

2 - مناقشة أدلة القائلين بعدم وجوب الزكاة في حليِّ المرأة المصنوع من الذهب والفضة.

أ - الأدلة في جملتها صحيحة، ويعتدُّ بها؛ وهي في مجملها أقوال للصحابة، وقولُ الصحابيِّ يُحتجُّ به، إذا لم يوجد دليل أقوى من قول الصحابي، خاصة أن المسألة تعبُّدية، ولا مجال للاجتهاد فيها.

 

ب - الأدلة من المعقول أدلة قوية، ويقول بها العلماء، ومنهم الحنفية؛ لأن من شرائط وجوب الزكاة في المال أن يكون ناميًا وفاضلا عن الحوائج الأصلية لمالكِه، وحليُّ المرأة يرتبط بحاجة أصلية لديها، وهو مال جامد معطَّل لا نماء فيه.

 

التَّرجيح:

وبعد التأمُّل في أدلة الطرفين ومناقشتها، يترجَّح لدينا قول القائلين بعدم وجوب الزكاة في حليِّ المرأة المصنوع من الذهب والفضة؛ للأسباب التالية:

أ - ضعف أدلة القائلين بوجوب الزكاة، كما قرَّر ذلك المحققون من العلماء؛ ومنهم الإمام الترمذي.

 

ب - الزكاة لا تجب إلا في المال النامي أو المعدِّ للنماء، وحلي المرأة معطَّل لا نماء فيه.

 

جـ - حاجة المرأة للحليِّ كحاجتِها إلى الثياب وأثاث المنزل، بالإضافة إلى قياس الحليِّ على العوامل من الإبل والبقر.

 

د - قوَّة أدلة القائلين بعدم وجوب الزكاة في حليِّ المرأة، يؤيِّد هذا فعل كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.

 

هـ - تحلِّي المرأة وتزينها بحليِّ الذهب والفضة، يُظهِر المرأةَ بمظهَر جميل محبوب لدى الزوج، وهذا يُقوِّي العلاقة الزوجية، وعدم وجوب الزكاة يُساعد على إقبال المرأة على التزين بحليِّ الذهب والفضة[31]، ويسنُّ للمرأة أن تتصدق من حليها، بإعارته أو إخراج المال عنه.

 

يقول الشوكاني: "فلم يبقَ في الباب ما يَصلح للاحتجاج به... بل كان معاذُ يَعِظ النساء، ويرشدهنَّ إلى الصدقة - أي: صدقة النَّفْل - فيلقين في ثوبه من حليهن، كما هو ثابت في الصحيح، ولو كان عليهن في ذلك زكاة، لأخبرهنَّ؛ لأنه فعل ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أَمرُهنَّ بما هو واجب عليهنَّ أقدم من أمرهن بما ليس بواجب عليهن[32].

 

 

"الألوكة"





آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة