السوسنة
فجعت السودان الأحد الماضي -19/11/2023- بوفاة الدكتور الحبر يوسف نور الدائم؛ الذي ترك سيرةً طيبة بخلقه السمح، ومعشره الطيب وعلمه النافع.
وكان الشيخ الراحل خبيراً باللغة العربية وفنونها، وأدبها وتراثها، وتفنن معرفة الشريعة والتفقه فيها، فهو رجل متذوق لكتاب الله، رزق فيه فهماً وتبصراً عجيباً.
أعطاه الله تعالى حافظة قوية، وأسلوباً لطيفاً، ونباهة حاضرة، وتمكناً لغوياً عجيبًا؛ يحفظ الشعر ويقرضه، وينثر الكلام دون تتعتع أو تلعثم، ويُلم بعلوم الضاد في تميز فريد، وامتلاك للبلاغة وناصية البيان.
فمن هو الدكتور الحبر يوسف نور الدائم
د. الحبر يوسف من مواليد 1/4/1940م. بقرية السروراب الكائنة بالريف الشمالي لمدينة أم درمان.
كان أبوه أحد حفاظ القرآن وفقهاء المنطقة، فحبب إليه العلم النافع، ودله على طريق المعارف.
تحدث مرة عن والده فقال:" (نشأت بفضل الله في بيئة سرورابية شاعرة، وكان أبي - رحمة الله تعالى عليه - شاعرًا له صولات وجولات في ضروب الشعر المختلفة.. ولا سيما في بابي الرثاء والغزل، فنهلت من معينه الصافي ما شاء الله".
تلقى تعليمـه الأولي بمدارس حي العرب الوسطى بأم درمان ثم الثانوية العليا بمدرسة وادي سيدنا بـ أم درمان أيضا.
كان من ضمن أساتذته أحمد علي النويري أستاذ اللغة العربية والبروفيسور عبد الله الطيب.
ونال درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب جامعة الخرطوم، وابتعث إلى المملكة المتحدة لينال درجة الدكتوراة من جامعة أدنبرة، بـ"أسكتلندة" وكانت الرسالة في تفسير الطبري.
كان أستاذاً بجامعة الخرطوم ورئيساً لقسم اللغة العربية، وعضوا ببرلمان السودان (كان رئيسًا للجنة التعليم في البرلمان)، ورئيساً لعدة لجان في البرلمان في مجال التعليم، والإصلاح؛ فكان في كل ساحة من تلك الساحات نبراساً للحق يدعو لأسلمة الحياة، وتطبيق شرع الله.
وكان حبراً في المعارف والعلوم، يزينه الأدب ورشاقة العبارة، وكان الطلاب عندما يأتونه، فيطرحون عليه الأسئلة، فكانت كل كلمة يقولها يُعضِّدها ببيت من شعر العرب، وشاهد من كلام السلف.
عرفه أهل السودان ببرامجه الإذاعية المتميزة في تفسير كتاب الله، وسيرة النبي المجتبى صلى الله عليه وسلم.
وكان الطلاب يأتونه فيلمسون عنده وقار الهيئة ورقة الحاشية وهدوء الطبع وكان كثير التبسم، يلقاك بوجه باش، وترحاب كبير، ولقد كان حفيًّا بطلاب العلم مشجعًّا لهم، يتفقد غرباءهم، ويقوم بخدمتهم.
كان د. الحبر يوسف رجلاً شديد التواضع، زاهداً في مكاسب الدنيا، ولقد نال الشهادات الأكاديمية من أرقى جامعات العالم مع العلم الغزير، فما زاده ذلك إلا تواضعاً وخدمة للناس، ولو شاء لجمع من الدنيا الكثير ولكنه آثر التقلل من الدنيا، والمضي فيها بزاد الراكب، يلحظ ذلك من زاره في بيته في أم درمان؛ حيث المتاع قليل، والزاد يسير، مع حرص على تعجيل القرى لضيفه والإحسان إلى زواره. ومكتبه في الجامعة مكتب صغير منذ أن صار أستاذاً بها أوائل سبعينيات القرن الماضي إلى أن توفاه الله.
حمل الدكتور الحبر همّ الدعوة لدين الله، وشُغِف بالعلم والمعرفة، فكان خلية نشاط في الدعوة والتعليم، فليله ونهاره دعوة وعلم، خدم المحابر فخدمته المنابر، داعياً إلى الله ومبشراً بدين الإسلام، عرفته المنابر والمحاضر، واستفاد منه البادي والحاضر، وكانت له قدم صدق في بيان حقائق الإسلام، والمنافحة عنه، وتحمل الأذى في سبيل ذلك كله.
عاش الشيخ الحبر حياته كلها في محراب العلم، وقدم علما غزيراً من خلال محاضراته، وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية التي تبين معاني القرآن وتتحدث عن بلاغته، وتنشر سيرة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ، ولقد خلف تراثاً علمياً عريضاً خاصة في مجال لغة العرب وآدابها، وللدكتور الراحل الحبر يوسف نور الدائم ديوان شعر مطبوع بعنوان "أنفاس القريض"، وكان في إلقائه للشعر يبهر سامعيه بطريقته الفريدة، وبجودة حفظه، وإتقانه وحسن بيانه.
قال أحد النقاد والمتابعين لمسار الأدب والأدباء: "شعر الدكتور الحبر يمتاز بالبلاغة الآسرة والكلمات الباهرة التي يرصّع بها قصائده، ويستدعى أوابد لغة الضاد، فتجيبه من أغوارها في يسر وسهولة.. ويغلب على شعره العاطفة الجياشة والشعور المرهف.. وهو حريص على أن يجري على نهج المتقدمين في أخيلته الشعرية وفي شكل بناء القصيدة.. حيث يبدأها بما يشبه الوقوف على الأطلال من الغزل العفيف.. فالدكتور الحبر هو واحدٌ من مدرسة الأصالة والمنافحة عن الفصحى، والقصيدة العمودية وأوزان الخليل" .
وهذا نموذج من شعره يرثى أحد أبنائه الذي مات غرقا في النيل:
أمل تبدد فاستحال سراباً ومُنى كَذبن وكن قبل عِذاباً
وذخيرة نفذت وكنت أعدها للنائبات فعشت بعد مصاباً
ابني الذي أعددته وذخرته للنائبات مهنداً وكتاباً
دارت عليه رحى المنية فجأة ودعته نحو رحابها فأجابا
يا نيل: قالوا إن ماءك نعمة يهب الحياة سعادة وشباباً
يغشى اليباب فيستحيل مواته روضاً يرف أزاهراً وخلاباً
ما بال مائك عمَّ روض سعادتي فأحاله بعد الحياة يباباً
يا نيل هل أدركت من غيَّبته ومنعته الأنفاس والأسبابا
لولا قليل من تقىً حصّنته بحمىً من الإيمان عزَّ جناباً
قد هبَّ يلهمني التصبر والرضا بقضاء ربي خاشعاً أوَّاباً
لهلكت حزناً عند فقدي فلذتي أوعشت عمري لا أحير جواباً
رباه أرسل من لدنك سكينة لفؤاد أمٍ قد تجرع صابا
وأنزل على روح الفقيد سحائباً من فيض برِّك تدمن التسكابا.