بين الضَّحِك والبكاء - أم وفاء خناثة قوادري

بين الحين والحين، نُسرَق مِن ها هنا، نجيب نداء الفطرة فينا، فتجنح النفسُ بنا إلى الابتسامة؛ لتجلوَ الهم، وتبرح الحزن.
 
نتشوَّق إلى الفكاهة والدعابة، ونزيح التبرُّم والكدر.
 
وما عساها أن تكون الخشونة والتزمت، إلا مجافاةً للطباع السليمة، وسوقًا لِما يُنفِّر الخالق والخَلْق معًا.
 
ترى ما موقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مِن الابتسامة الراقية، والضحكة الحانية، التي لا إيذاءَ فيها ولا إسفاف؟
 
أوَلم يضحك صلى الله عليه وسلم والصَّحب الكرام ويتندروا؟!
 
بلى، لقد عَدَّ الإسلامُ الابتسامةَ عبادةً يؤجر المرء عليها ويثاب؛ فقد جاء في الحديث الشريف: ((تبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ))[1].
 
وهِي مِن الإحسان والمعروف؛ لِما لها مِن أثر إيجابي في إرساء الأخوَّة والتسامح بين الأفراد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرَنَّ مِن المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوَجْهٍ طَلْقٍ؛ "أي: ضاحك مستبشر"))[2].
 
ومعلوم أن الإسلام يبيح كل طيب تلتذُّ به الحواس، وفي عطف اللهو الحلال على التجارة ما يؤكد ذلك؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ [الجمعة: 11].
 
كما أنه دِين الفِطَر السليمة؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ﴾ [النجم: 43]؛ فالإنسانُ قد جُبِل على الصِّفتين؛ الضحكِ والبكاء، ولن تتوازن شخصيةُ الفرد حتى يأخُذَ بنصيبه من كلٍّ منهما.
 
وقد سُئِل ابن عمر رضي الله عنهما: هل كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم أعظمُ مِن الجبل.
 
ومِن ذلك ما رُوِيَ أنهم كانوا: (يتبادَحون بالبِطِّيخ، فإذا كانت الحقائقُ كانوا هم الرجالَ)[3].
 
وقد وصَف أحدُ الصحابة حُسنَ تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولا رآني إلا تبسَّم، وكان يمازح أصحابه ويخالطُهم ويحادثهم، ويداعب صِبيانهم ويُجلِسهم في حجره.
 
ومِن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان ينادي أنسًا رضي الله عنه: ((يا ذا الأُذُنَينِ))[4].
 
واستأذَن يومًا عمرُ رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نساءٌ مِن قريش يُكلِّمْنه، ويستكثِرْنَه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمرُ، قُمْنَ يبتدِرْنَ الحجاب، فأذِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحَك، فقال عمرُ: أضحَك الله سنَّك يا رسول الله، قال: ((عجِبْتُ مِن هؤلاء اللائي كنَّ عندي، فلما سمِعْنَ صوتَك ابتدَرْنَ الحجاب))، قال عمر: فأنت يا رسول الله كنتَ أحَقَّ أن يَهَبْنَ، ثم قال: أيْ عدوَّاتِ أنفسِهن، أتهَبْنَني ولا تهَبْنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟! قلن: نعم؛ أنت أفظُّ وأغلظُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم[5].
 
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لَمَّا رأيتُ مِن النبي صلى الله عليه وسلم طِيبَ نفسٍ، قلت: يا رسول الله، ادعُ اللهَ لي، قال: ((اللهم اغفِرْ لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخَّر، وما أسرَّت وما أعلَنَتْ))، فضحِكَتْ عائشةُ حتى سقط رأسها في حجرها مِن الضحك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أيسُرُّكِ دعائي؟))، فقالت: وما لي لا يسُرُّني دعاؤك؟! فقال: ((والله إنها لَدَعْوتي لأمَّتي في كلِّ صلاة))[6].
 
هكذا كان صلى الله عليه وسلم - وفي جميع أحواله - رفيقًا حليمًا، عطُوفًا وَدُودًا.
 
أين ذاك أين ممَّن ضيَّقوا الدِّين وفصَّلوه على مقاييسِ طباعِهم الفظَّةِ الغليظة المستخشنة؟!
 
♦♦♦♦
أجل، هو الحق يرفع عاليًا تلك النفوسَ، يسمو بها؛ لتعرج إلى عالم الملائكة الأطهار، فتصافحها أو تكاد، لكنها تبقى بشريةً، تنزِعُ فطرتُها إلى حقيقةِ النَّفْس الأولى، حين كان أبونا آدمُ في الجنة، حيث الانطلاق والمرح والسعادة، وهل يعبَّرُ عن السعادة بغير الضحكة والابتسامة؟!
 
لكن وكما أن لكل شيء ضوابطَ وحدودًا، فكذلك بالنسبة للضَّحِك والمزاح.
 
فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا!؟ قال: ((نعم؛ غيرَ أني لا أقولُ إلا حقًّا))[7].
 
وفي الحديث أيضًا: ((إياك وكثرةَ الضَّحِك؛ فإنه يُميتُ القلبَ، ويذهَبُ بنورِ الوَجْه))[8].
 
وقال رجلٌ لسفيان بن عيينة: المزاح هُجْنةٌ؛ "أي مستنكر"؟ فقال: بل هو سنَّة، ولكن لِمَن يُحسِنه ويضَعُه في موضعه.
 
أجل، يُحسِنه ويضَعه في موضعه، فلا يقول إلا حقًّا، ولا يتطاولُ على مَن هم أكبر منه مكانةً وقدرًا؛ إذ ليس أقسى على العالِمِ والعاقل أن يمازِحَه ثقيلٌ متطاولٌ عليه.
 
كما أن رفعَ الصوت بالقهقهة والمنكَر ليس مِن الأدبِ في شيءٍ؛ فالرسولُ الكريم -كما هو ثابتٌ عنه –كان أكثرُ ضحكِه التبسُّمَ، ولم يُرَ مُقَهْقِهًا أبدًا.
 
فالتبسُّمُ سلوكٌ إيجابي، يرفَع معنوياتِ الشخص، ويُرغِّبُ الغيرَ فيه، أما غيرُ ذلك فقد يُسبِّبُ إيغارَ الصدور، وإماتةَ القلوب.
 
وينبغي أيضًا مراعاةُ الأوقات؛ إذ لا يصحُّ المزاحُ وقت الجِدِّ.
 
ورَد عن الإمام عليٍّ (كرَّم الله وجهه): (أعط الكلامَ مِن المَزْحِ بمقدار ما تُعطي الطعامَ مِن المِلْحِ).
 
ونصَح أحدُ الصالحين ابنه فقال: (اقتصِدْ في مزاحك؛ فالإفراطُ فيه يُذهِب البهاءَ، ويجرِّئُ عليك السفهاءَ، وتركُه يَقبِضُ المؤانِسين، ويُوحِش المخالِطين).
 
♦♦♦♦
أوَيبكي الرِّجال؟! إي والله يبكُون، إذا كانت الحقائقُ مُفزِعات، والمدلهمَّاتُ خُطوبًا.
وأيُّ شدة أكبرُ وأيُّ هولٍ أعظَمُ مِن يومٍ قال فيه الحق سبحانه: ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]، وقال: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2]؟!
 
حُقَّ إذًا لقلوب العارفين أن تفزَعَ وتستطيرَ، وتتجافى عن دارِ الغرور؛ لتتعلَّقَ بمالكِ المُلْكِ والملكوت؛ فمخافةُ الله هي دواءُ القلوب، والبكاء بين يديه ثمرتها.
 
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ﴾ [المعارج: 27]، وقال: ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ﴾ [الإسراء: 109].
 
وليس الخائف مَن يبكي ويمسح دموعَه، بل الخائف مَن هجَر ما نُهِيَ عنه، مسارعًا إلى الطاعات، متفقدًا أحوالَ قلبه، مشفقًا مما قد يكونُ داخَلَ نيتَه وإخلاصَه؛ إذِ اللهُ وحده المطَّلِعُ على السرائرِ، المُمحِّصُ لها.
 
قالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله، ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾ [المؤمنون: 60] هو الرجل يسرق ويزني؟ قال: ((بل الرجل يصوم ويُصلِّي ويتصدَّق، ويخاف ألا يُغفَرَ له))[9].
 
ورُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم - وهو مَن هو، وقد غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر - كان إذا دخَل في الصلاة (يُسمَع لجوفه أزيزٌ كأزيزِ المِرْجَلِ مِن البكاءِ)[10].
 
وفي الحديث: ((عينانِ لا تمَسُّهما النارُ؛ عينٌ بكَتْ مِن خشية الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله))[11].
 
ويأتي العلماءُ بعد الأنبياء في مقامِ اطِّلاعِهم على سرِّ قوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، وقوله: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102].
 
فعن عبدالله بن عمر قال: (لأن أدمَعَ دمعةً مِن خشية الله: أحبُّ إليَّ مِن أن أتصدَّقَ بألفِ دينارٍ)[12].
 
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول: (لو نُودِيَ: لِيدخُلِ الجنةَ كلُّ الناسَ، إلا رجلًا واحدًا، لخشيتُ أن أكونَ أنا ذلك الرجلَ).
 
أما شيخُ الإسلام ابن تيمية، فكان إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤُه حتى يميلَ يَمنةً ويَسرةً[13].
 
وسُئل أحدُ العارفين: مَن آمَنُ الناسِ غدًا؟ قال: أشَدُّهم خوفًا اليوم.
 
وقال آخرُ: خطَرُ الثباتِ وعُسرُ الخاتمة، يزيدانِ نيرانَ القلبِ اشتعالًا!
 
♦♦♦♦
مولاي، خافَك مَن عرَفك، فاستحَثَّ السيرَ إليك.
بَتَّ "جَناح البعوضة"[14]، وتجافَى عن الشَّهوات.
أحبَّك لكمالِك، وتمامِ إحسانِك وجمالِك.
وأنِسَ بحُسْنِ الظنِّ فيك.
فحاشاك أن تُخيِّبَ كسيرًا يقرَعُ بابَك.
فزِعًا منكَ إليك.
 
 
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة