قصة التابعي الجليل ربيعة الحارثي

السوسنة - حدثت هذه القصة في عهد الأمويين، أيام الفتوحات الإسلامية في العام 51 للهجرة، حيث كان الصحابي الجليل " الربيع بن زياد الحارثي - رضي الله عنه- أمير خرسان يقود جيشه في عدد من الفتوحات الإسلامية المتتالية، ففتح الله عليه سجستان وغيرها من البلدان والدول المجاورة، واستمرت مسيرته المباركة، من نصر إلى نصر إلى أن عبر بجيشه نهر سيحون، (وهو نهر يقع بعد سمرقند في حدود تركستان)، وقد كان عبور المسلمين لهذا النهر مناسبة سعيدة وفاتحة خير مكنت الفتوحات الإسلامية من الوصول إلى الصين ووسط آسيا،  وما أن وصل الصحابي الجليل وجيشه إلى هذا النهر حتى توضؤوا بمائه، وصلوا ركعتي شكر لله لما وفقهم إليه من خير.

- فروخ ونهر سيحون: موعد مع الحرية
كان في الجيش عبد يدعى فروخ، وهو عبد مملوك للصحابي الجليل الربيع بن زياد رضي الله عنه، وقد كان فروخ شجاعاً مقداماً، فأبلى بلاء حسناً في كل المعارك التي رافق فيها سيده، فما كان من الربيع رضي الله عنه إلا أن أعتقه عند نهر سيحون، مكافأة له على شجاعته وإقدامه وإخلاصه وأعطاه نصيبه من الغنائم التي فتح الله بها عليهم. 


- حياة جديدة وأسرة سعيدة:
عاد فروخ إلى المدينة المنورة فرحاً بحريته، ومعه نصيبه الكبير من الغنائم ، فاشترى داراً في وسط المدينة، وتزوج بامرأة تقية صالحة، وعاشا معاً حياة هانئة سعيدة. 

- الشوق الكبير .. وبداية الحكاية
ذات يوم سمع فروخ خطيب المسجد النبوي يخبر الناس بأخبار الفتوحات الإسلامية، والمناطق الجديدة التي فتحها الله على أيدي المسلمين، ويحضهم على الجهاد ويشجعهم على الإلتحاق بجيوش الفتح الإسلامي، فاشتاقت روحه إلى ساحات القتال، وإلى الغزو في سبيل الله، فقرر أن يعود إلى ساحات المعارك مرة أخرى، ويلتحق بجيوش الفتح، وكانت امرأته حاملاً، فاستودعها هي وجنينها، وأعطاها ما تبقى من مال الغنائم لتنفقه على نفسها وطفلها حتى يعود أو يستشهد في سبيل الله.

غادر فروخ بيته وعائلته ، وبعد بضعة أشهر وضعت زوجته وليدها، وأسمته "ربيعة".

- نشأة غير عادية
كان ربيعة طفلاً نجيباً ذكياً، وكانت أمه حريصة كل الحرص على أن ينشأ نشأة مميزة، ليكون قرة عين لها ولأبيه الغائب، فتعلم القراءة الكتابة في سن مبكرة، ثم حفظ كتاب الله عن ظهر قلب، وحفظ ما تيسر من الأحاديث الشريفة، ومتون العرب، وكان هذا كله بمتابعة من ثلة مميزة من المدرسين والشيوخ، ولم تبخل أمه أبداً بالمال، بل أنفقت على تعليمه وتربيته بسخاء، وأكرمت معلميه ومربيه أيما إكرام.

لزم ربيعة حلقات العلم، وتتلمذ على أيدي عدد من الصحابة الكرام كأنس بن مالك رضي الله عنه، وعدد من التابعين كسعيد بن المسيب، ومكحول الشامي، وسلمة بن دينار.

ثم ارتفع قدره، وأصبح له عدد من التلاميذ الذين يأخذون العلم عنه، واشتهر برأيه السديد في استنباط الأحكام للمسائل التي لم يرد فيها نص  القرآن أو السنة، ولذا لقب بربيعة الرأي، وأصبح محدث المدينة وفقيهها وإمامها على الرغم من صغر سنه.
أما بالنسبة لفروخ، فقد طالت غيبته وانقطعت أخباره، وتضاربت أقوال من عادوا من ساحات المعارك، فمنهم من قال أنه ما زال يواصل الجهاد، ومنهم من قال أنه أسير عند الأعداء، ومنهم من قال أنه نال الشهادة، ولذلك لم يرجح لدى زوجته أي من هذه الأقوال، لكن غيبته طالت أكثر وأكثر واستمرت 27 عاماً.

- لقاء طال انتظاره
عاد فروخ إلى المدينة بعد غياب دام 27 عاماً، وأخذ يبحث عن بيته في المدينة التي تغيرت كل ملامحها، وما إن وصل إلى بيته، حتى دفع الباب برمحه ودخل ملهوفاً، وقد أنسته لهفته وعجلته الإستئذان قبل الدخول.

فوجئ ربيعة بفارس يحمل رمحاً ويقف في وسط داره .

فأسرع إليه وقد أخذته الغيرة على أهله، ونشب الشجار بينهما، وكل منهما يدعي أن هذا البيت بيته، وأن الآخر قد اعتدى على حرمة بيته، واجتمع الجيران من كل حدبٍ وصوب، حتى جاء الإمام مالك بن أنس وهو آنذاك أحد تلاميذ ربيعة، فعرض على فروخ أن يجد لنفسه بيتاً غير هذا البيت، فرفض فروخ ذلك وقال: أنا فروخ مولى بني فلان، وهذه داري.

فلما سمعت أم ربيعة كلام فروخ أقبلت تنظر إليه، وقالت هذا زوجي، هذا أبوك يا ربيعة، وهذا ابني الذي كنت حاملاً به عندما خرجت للجهاد يا أبا عبد الرحمن، إنه ابنك.


وما إن سمع الأب والإبن كلامها حتى أقبلا يعانقان بعضهما وانفض الجمع وعاد الناس إلى بيوتهم.

- وضعته حيث يجب أن يوضع
جلس فروخ إلى زوجته يحدثها عما مر به خلال الغزو، وكيف قضى أيامه في الفترة التي غاب فيها عنهم، ثم أخرج أربعة آلاف دينار وأخبرها أن هذا ما غنمه في تلك الفترة وطلب منها أن تحضر المال الذي تركه عندها ليضم الأربعة آلاف إليه، لكنها لم تعرف كيف تخبره بأنها أنفقت كل المال على تأديب ربيعة وتعليمه، ولم تعرف إن كان هذا سيرضيه أم سيسخطه، فتشاغلت عن سؤاله، لكنه أعاد عليها السؤال: أين المال الذي تركته عندك؟
فأجابته: وضعته حيث يجب أن يوضع، وسأخرجه لك بعد أيام.

- نعم، فوالله ما ضيعتِه
توضأ فروخ وهم بالخروج إلى المسجد، فسأل عن ربيعة، فأجابته زوجته بأنه سبقه إلى الصلاة.

بعد أن صلى فروخ توجه لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هم بمغادرة المسجد، إلا أنه تفاجأ بحلقة علم كبيرة لم يسبق له أن رأى مثلها، ورأى الناس يقبلون بلهفة على ما يقوله الشيخ فيلتقطونه ويدونونه في صحائفهم، فجلس في مكان بعيد من الحلقة ينظر ويستمع، حتى انفضت الحلقة واجتمع الناس على الشيخ يسألونه، فسأل فروخ أحد الرجال الذين كانوا يحضرون الحلقة عن الشيخ، وطلب منه أن يذكر له اسمه ونسبه، فأخبره أنه ربيعة بن فروخ، ففاضت عينا فروخ بالدمع وحمد الله وعاد إلى بيته، وأخبر زوجته بما رأى من مكانة ابنهما، فانتهزت زوجته الفرصة وسألته: أيهما أحب إليه المال أم ما بلغ ابنه من العلم والشرف؟

فأخبرها أن ما وصل إليه ابنه أحب إليه من الدنيا وما فيها، فأخبرته أنها أنفقت المال على ابنهما حتى وصل لما هو عليه الآن من العلم والحكمة وسداد الرأي، وسألته إن كانت نفسه طابت بما فعلت هي بالمال، فأجابها: نعم فوالله ما ضيعتِه.
المصدر : الموقع الالكتروني الاسلامي اسلام ويب 

 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة