اتباع المتشابه لتحريف المحكم - محمد بن علي بن جميل المطري

 من أسباب ضلال أهل الكتاب من قَبلنا تكلف الاستنباط واتباع المتشابه لرد المحكم، وهذه طريقة أهل الزيغ والأهواء كما قال الله سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران:7-9].

 
قال ابن كثير في تفسيره (2/6-8):
" يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ﴾ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد. ولهذا قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ أي: الإضلال لأتباعهم، إيهاماً لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى هو روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ﴾ [الزخرف: 59] وبقوله: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله، وعبد، ورسول من رسل الله".
 
وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ".
 
ومن أمثلة المحكم ما في القرآن من آيات كثيرة تثبت أن الله في السماء مستو على عرشه كما يليق بجلاله، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [الْمُلْكِ: 6-7]، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الْأَعْرَافِ: 54]، وقال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الْأَنْعَامِ: 18]، وقال الله تعالى: ﴿ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [النحل:50].
 
فهذه آيات محكمات واضحات تثبت صفة العلو لله سبحانه، وجاءت بعض الآيات المتشابهات التي تحتمل معنى حق ومعنى باطل مثل قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الْحَدِيدِ: 4].
 
فهذه الآية استدل بها بعض أهل البدع على أن الله ليس في السماء وأنه في كل مكان، وتركوا الآيات الواضحات البينات واتبعوا المتشابهات التي تحتمل معنى باطلا تمسكوا به، وتحتمل معنى حقا فهمه أهل العلم منها عندما ردوها إلى المحكم فعرفوا مراد الله منها، فقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ﴾ يحتمل معنى باطلا هو الذي أراده أهل البدع وهو أن الله في كل مكان بذاته حتى في أماكن القاذورات والنجاسات وفي بطون الحيوانات وفي جهنم تعالى الله ما يقولون، وتحتمل معنى حقا وهو أن الله معنا بعلمه في كل مكان، فلا يخلو مكان من علم الله، وهذا المعنى هو الذي أراده الله؛ ولذا بدأ تلك الآية بذكر استوائه على عرشه ثم ثنى ذلك بذكر علمه بما يدخل في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء ويصعد فيها، ثم ذكر أنه معنا أينما كنا أي بعلمه ثم ختم الآية بذكر أنه بكل شيء بصير، وبهذا البيان صارت هذه الآية المتشابهة محكمة بينة المعنى، وهذه طريقة أهل العلم يقولون: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7].
 
وآية أخرى متشابهة استدل بها أهل البدع في هذه المسألة وهي قوله تعالى: ﴿ ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة:7].
 
فالراسخون في العلم ردوا هذه الآية المتشابهة إلى الآيات المحكمات، قال ابن جرير في تفسيره (22/468): "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ألم تنظر يا محمد بعين قلبك فترى ﴿ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ﴾ من شيء، لا يخفى عليه صغير ذلك وكبيره؛ يقول جلّ ثناؤه: فكيف يخفى على من كانت هذه صفته أعمال هؤلاء الكافرين وعصيانهم ربهم، ثم وصف جلّ ثناؤه قربه من عباده وسماعه نجواهم، وما يكتمونه الناس من أحاديثهم، فيتحدثونه سرًا بينهم، فقال: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ﴾ من خلقه، ﴿ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾، يسمع سرّهم ونجواهم، لا يخفى عليه شيء من أسرارهم، ﴿وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ يقول: ولا يكون من نجوى خمسة إلا هو سادسهم كذلك، ﴿ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ ﴾ يقول: ولا أقل من ثلاثة ﴿ وَلا أَكْثَرَ ﴾ من خمسة، ﴿ إِلا هُوَ مَعَهُمْ ﴾ إذا تناجوا، ﴿ أَيْنَمَا كَانُوا ﴾ يقول: في أيّ موضع ومكان كانوا. وعني بقوله: ﴿ هُوَ رَابِعُهُمْ ﴾، بمعنى: أنه مشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه ".
 
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في التمهيد (7/ 138): "وعلماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى: ﴿ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ ﴾ هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم أحد في ذلك يحتج به".
 
ومما يدل على أن المراد بالآية العلم كما فسرها السلف أن الآية بدأها الله بالعلم وختمها بالعلم فقال في أولها: ﴿ ألَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾ وقال في آخرها: ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾، والحمد لله الذي بين لنا كل ما نحتاج إليه.
 
قال ابن عثيمين في كتابه أصول في التفسير ص 45:
" الراسخون في العلم أصحاب العقول، يعرفون كيف يخرجون هذه الآيات المتشابهة إلى معنى يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كله محكما لا اشتباه فيه. والحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه أنه لو كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقا وعملا لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه، والتمسك بالمتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا، وهدى للناس، ولما أمكن العمل به، وبناء العقيدة السليمة عليه، ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آيات محكمات، يرجع إليهن عند التشابه، وآخر متشابهات امتحانا للعباد، ليتبين صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ، فإن صادق الإيمان يعلم أن القرآن كله من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق، ولا يمكن أن يكون فيه باطل أو تناقض لقوله تعالى: ﴿ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42] وقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ [النساء: الآية 82] وأما من في قلبه زيغ، فيتخذ من المتشابه سبيلا إلى تحريف المحكم واتباع الهوى في التشكيك في الأخبار والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيراً من المنحرفين في العقائد والأعمال، يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة" انتهى بتصرف يسير.
 
 
"الألوكة"