حثَّ الإسلامُ على العمل الجماعي، وأكَّد على ذلك مرارًا وتَكرارًا، ولم يدَعْ مناسَبةً إلَّا وذكر بأنَّ العمل الجماعي هو الآليَّة المناسبة لنجاح أيِّ عمل، وأنَّها السبيل للتوفيق في الحياة للفرد وللجماعة، فقد قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103].
بل وحتى أهم العبادات التوقيفيَّة التي أُعطيَت خصوصيَّة فائقة، وأهمية بالغة[1]؛ وهي الصلاة، أمر الله جلَّ جلاله الناسَ أن يؤدُّوها جماعة، ثمَّ الحج، وخاطب القرآنُ الكريم - الذي هو كلام الله جل جلاله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - عمومَ النَّاس بـ: (يا أيها الناس) و(يا بَني آدم)، وخاطب المؤمنينَ: (يا أيها الذين آمنوا)، وأَثنى على أولئك المؤمنين الذين يَعملون بروح الفريق الواحد، فقال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [المؤمنون: 109]، وانتقد فاقدي الإيمان الذين يشكِّلون فريقًا ليؤدُّوا عملًا سلبيًّا، قال تعالى: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [البقرة: 100].
وقد أيَّدَت التجربة العمليَّة لكبرى المؤسَّسات والشركات في العالَم الحاجةَ الماسَّة لفِرَق العمل والتنظيم الإداري لها على أساس تَوزيع المهام والواجبات، وتحديد الصَّلاحيات؛ لسبب بسيط للغاية هو أنَّ (اليد الواحدة لا تصفِّق)، وأنَّ الفرد مهما بلغَت قدراته وإمكاناته، وتعدَّدَت مهاراتُه، فإنَّه يَبقى ذلك الشخص الذي يُمكنه القيام بمهام محدَّدة، وليس المهام كافَّة.
يقول نورمان سي هيل: (يؤدِّي الموظَّفون في أي شركة واجبات متخصصة، وعندما يَزداد حجم الشَّركة فإنَّ الحاجة لتقسيم العمَل إلى نشاطاتٍ منفصلة تَزداد كذلك، وحيث إنَّ فردًا واحدًا لا يمكنه القيام بكلِّ شيء، فإنَّ الآخرين يَشتركون معه ويتم تَقسيم العمل، ولكن بمجرد تَقسيم العمل يُصبح من الضروري إيجاد الطَّريقة المثلَى لتجميعه كله في المنتج النِّهائي)[2].
ولقد شدَّد الإسلام كثيرًا على لزوم الجماعة والسَّعي لها، والتحذير من الجنوح عنها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن خرج من الطَّاعة، وفارق الجماعة، ثمَّ مات، مات ميتةً جاهليَّة))[3]، كما حذَّرَت الشريعةُ الإسلاميَّة من عواقب تَرك العمل الجماعي، يقول رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((... وأنا آمُركم بخمسٍ أمرني اللهُ بهنَّ: الجماعة، والسَّمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، ومَن فارق الجماعةَ قِيدَ شِبرٍ، فقد خلع ربقةَ الإيمان والإسلام من رأسه، إلَّا أن يراجع))[4].
أهمية العمل الجماعي
والسؤال الذي يتردَّد على ألسن أكثر الناس: ولماذا العمل الجماعي؟ وما هي الأسباب التي مِن أجلها يُؤكد على أهميَّة موضوع العمل مع جماعة بهذه الطريقة؟
ومن خلال قراءة منطقيَّة للفوائد العمليَّة لوجود الفرد في جماعة أو فريقِ عمل، نتوصَّل إلى ما يأتي:
1- إنَّها استجابة طبيعيَّة للسجيَّة البشريَّة؛ فالإنسان يحتاج إلى من يعيش معه، ويتبادل معه الأفراح والأتراح، فلم يُخلق الإنسان من أجل أن يعيش منفردًا، فهو يستأنس بأخيه الإنسان، يقول الشاعر:
وما سُمِّيَ الإنسانُ إلا لأنسِه ♦♦♦ وما القلبُ إلا أنَّه يتقلَّبُ
والعمل الجماعي يلبِّي الكثيرَ من الحاجات للفرد؛ فمنها العاطفيَّة كالعلاقات الأخوية أو علاقات الصداقة، فبوجود الفرد مع مجموعةٍ يمكن أن يحبهم جميعًا أو ربَّما أحبَّ بعضهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء مع من أحبَّ))[5]، كما أنَّ المجموعة تمثِّل عونًا حقيقيًّا وسندًا للفرد في مجمل حياته عمومًا، وفي وقت الأزمات خاصَّة.
2- ضبط جماح النَّفس للفرد: فالفرد كما هو معلوم تنازِعه أكثر من جهةٍ لجرِّه للهفوات والتقصير والخطأ، فنفسُه الأمَّارة التي بين جَنبيه لها ملذَّاتها ورغباتها، وترغب في الدعة والترَف وغير ذلك، هذا من جِهة، ومن هنا يَحصل التقصير من قِبَل الفرد في أعماله، أو يصيبها الغرور من جهة أخرى، فوجود آخرين في العمل يَعني المشاركة في العمل وفي القرار، في النجاح وفي الفشل، فالإنسان ليس وحيدًا ليتفرَّد ويتمرَّد وتنفلت نفسُه نحو الغرور؛ اعتقادًا منها أنَّها صانعة الأشياء التي يَعجِز عنها الآخرون، بل هو جزء من مَنظومة لا بدَّ من إعطائها حقَّها.
3- العمل الفردي يَجعل الشخصَ فريسةً سهلة للشَّيطان، فتكون قراراته طائشَة، وربَّما استزلَّه الشيطانُ إلى منزلقات خطيرة، بينما العمَل مع فريقٍ يجعل الشيطان يَبتعد؛ لأنَّ الفريق يقوِّي ويقوِّم بعضُه بعضًا، يقول رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((فمَن أراد منكم بُحْبُوحةَ الجنَّة، فليلزم الجماعة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد))[6].
4- المراقبة المجانية: فإنَّ من ضروريات العمل النَّاجح وجود المراقَبة الفرديَّة والجماعيَّة، وتسعى المؤسساتُ الرَّصينة بتضمين هيكلياتها الإداريَّة لأقسام المراقبة والمتابعَة؛ لأنَّ الإنسان لا يَكتفي برقِيبه الدَّاخلي مهما ارتفع مستوى الوازِع الدَّاخلي (الضمير) عنده.
إنَّ العمل الجماعي يَضمن وجودَ مَن يراقِب الفرد بالمجَّان، وهذه المراقبة حين تكون من أكثر من فردٍ، ولأكثر من زَاوية، ستجعل الفردَ يحسب ألفَ حسابٍ قبل الإقدام على أيِّ عمل خارج الضَّوابط المتفَق عليها، يقول تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105]، ومن هنا كان توجيه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم للأمَّة بأخذِ دَورها في عمليَّة المراقبة وإعطاء الأهمِّية لذلك الموضوع، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: مرُّوا بجنازة، فأثنَوا عليها خيرًا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وجبَت))، ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنَوا عليها شرًّا، فقال: ((وجبَت))، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبَت؟ قال: ((هذا أثنيتُم عليه خيرًا، فوجبَت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا، فوجبَت له النار، أنتم شهداءُ الله في الأرض))[7]، فيَنبغي عدم التفريط بشهداء الله جلَّ جلاله في الأرض، وهم المؤمنون من هذه الأمَّة، ولم يستثنِ الحديثُ النَّبوي من هؤلاء الشهداء فقيرًا ولا صغيرًا ولا مدفوعًا بالأبواب، بل ربَّما كانت شهادة هؤلاء أعظم درجة وأكثر توثيقًا من غيرهم.
5- تفاوت المكانة للأفراد، والمقصود المكانة الاجتماعيَّة أو الاقتصاديَّة أو الثقافيَّة، كوجود القوي والضَّعيف، والغنيِّ والفقير، والعالِم والجاهِل، هذا الواقع سيفرض على الآخرين أداء حقوق بعضهم على بعض؛ فالعالِم يعلِّم الجاهل، والغني يعطي الفَقير، والقوي يدافِع عن الضَّعيف، كما يحصل الوَعي بطرق معيشة طبقات المجتمعات؛ وذلك عن طريق تبادل الثَّقافة والأفكار والخبرة العمليَّة، وكثير من الأمور الأخرى.
6- وضع أنظمة وقوانين، الأفراد المنضوون تحت أيِّ جماعةٍ في الغالب متفاوتون في العادات والتقاليد والأعراف، وحتى في مستوى الإدراك والفهم، وربَّما جاء كلٌّ منهم من بيئةٍ قد تكون مختلفة تمامًا عن بيئة الآخرين، فاقتضى هنا الاتِّفاق على مبادئ يتَّفقون عليها يعيشون بها، ثمَّ يتوسَّعون في هذه الاتِّفاقات لتكون أنظمة وقوانين، وهذا من أروع الأمور البشريَّة، وهي تفتق في الإنسان حالات الإبداع والتطوير والتَّنمية وتقدم الأمَّة.
7- تبادل الخبرات؛ وبما أنَّ أفراد الجماعة قد عاش كلٌّ منهم في ظروف معيَّنة، ونهل كلٌّ منهم من مَنبع علمٍ مختلف، أو من خلفيَّة فكريَّة مختلفة - فإنَّ هذا التنوُّع الجميل في العلوم سيحقِّق تراكمَ خبراتٍ عمليَّه وفق خلفيَّة تلك العلوم، فحين تتلاقح الأفكارُ ويتبادل الأفرادُ خبراتهم فيما بينهم، ستكون الحصيلة كمًّا هائلًا من الخبرات المتنوعة التي تحقِّق تقدمًا في مسيرة الجماعة.
مواصفات الجماعة المطلوبة
ليس من الصحيح أن يرمي الفردُ نفسَه في أحضان أيِّ جماعة كانت، لمجرَّد أنَّه يؤمن بمبدأ بالعمل الجماعي، ويتعامَل مع الموضوع وكأنَّه إسقاط فَرض، فيباشر الأمرَ كيفما اتَّفق، أو يملي عليه مَن يؤثِّر فيه إملاءً، ولكن يَنبغي على الفرد أن يَبحث جيدًا، ويقرأ بتمعُّنٍ وتدبُّر، ثمَّ يرى مسيرةَ تلك الجماعة وتاريخها، ويحلِّل تحليل الفاهم العاقِل الحاذق، ثمَّ يستشير، ثمَّ يقرِّر.
والجماعة أيًّا كان نوع عملها، وطبيعة توجُّهها، لا بدَّ من أن تتَّصف بمجموعةٍ من الصِّفات الإيجابيَّة التي تؤهِّلها للعمل لتحقيق أهدافها، منها:
1- أنَّها تَخشى اللهَ جلَّ جلاله؛ فالجماعة يَنبغي أن تكون سالِكةً لطريق الله جلَّ جلاله، معتصِمة به جلَّ جلاله، مؤدِّية لأوامره، مجتنبة لنواهيه، سائرة على نَهج نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، وكما ذَكرنا قولَ الله جلَّ جلاله في قرآنه الكريم: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]، فلا يَكفي أن يكون هناك جماعة، ولكن أهم شروطها أن تكون معتصِمةً بالله جلَّ جلاله، ولا تتحقَّق الخشيةُ التي هي مدار بَحثنا إلَّا بالإيمان بأنَّه لا ينفعها إلَّا أن تعيش مع الله جلَّ جلاله وتطبِّق شرعه، وتكون قريبة منه؛ فإن فعلَت ذلك فهي تَستجيب لأمر الله جلَّ جلاله بطاعة دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24]، يقول: (فتضمَّنَت هذه الآيةُ أمورًا؛ أحدها أنَّ الحياة النَّافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمَن لم تَحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيميَّة مشتركة بينه وبين أَرذل الحيوانات؛ فالحياة الحقيقيَّة الطيِّبة هي حياة مَن استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنًا؛ فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل النَّاس حياةً أكملهم استجابةً لدعوة الرسول، فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمَن فاته جزء منه فاتَه جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم)[8].
2- صلاح القيادة وأحقيَّتها، والقيادة المعنيَّة هنا هي القيادة الإداريَّة، ونقصد بالصلاح الالتزام بالمعايير الإستراتيجية المتَّفق عليها للعمل وفقها، وتطبيقها على أرض الواقع، وعدم تخطِّيها ونقضها، وأمَّا أحقيَّتها فهي الكفاءة والمهارة الإداريَّة والفنيَّة والقدرة البدنيَّة، والدهاء في سياسة الناس.
لقد سُئل رجل من أتباع الأحنف بن قيس رحمه الله: "بمَ بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ؟
قال: إن شئتَ حدَّثتُك ألفًا، وإن شئتَ حذفتُ لك الحديث حذفًا.
قال: احذفه لي حذفًا.
قال: فإن شئتَ فثلاثًا، وإن شئتَ فاثنتين، وإن شئتَ فواحدة.
قال: ما الثلاث؟
قال: كان لا يشره، ولا يحسد، ولا يمنع حقًّا.
قال: فما الثنتان؟
قال: كان موفَّقًا للخير، معصومًا من الشرِّ.
قال: فما الواحدة؟
قال: كان أشدَّ الناس على نفسه سلطانًا" [9].
فمن علامات صلاح القيادة:
• وضوح الهدف: فالقائد من يُعلِن عن أهدافه الإستراتيجية والمرحليَّة؛ فلقد (اجتمع عبدالله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبدالملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: "تمنَّوا"، فقالوا: ابدأ أنتَ، فقال: ولاية العراق، وتزوُّج سكينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيدالله، فنال ذلك.
وتمنَّى عروةُ بن الزبير الفقهَ، وأن يُحمل عنه الحديث، فنال ذلك، وتمنَّى عبدالملك الخلافةَ، فنالها، وتمنى عبدالله بن عمر الجنَّة)[10].
• الزهد في أمور الدنيا: فليس أن تكون الشخص الأول في المجموعة يعني أنَّك ستكون المستفيد الأول في الجوانب الماديَّة والمعنويَّة، بل على العكس يَنبغي أن من يكون في المقام الأول يكون في أمور الدنيا في المقام الأخير، وهذه عقدة مفصليَّة في العمل الجماعي، وتؤثِّر على البوصلة بشكلٍ كبير، فعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا زوَّجه فاطمة بعث معه بخميلةٍ، ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين، وسقاء، وجرتين، فقال علي لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوتُ[11] حتى لقد اشتكيتُ صدري، قال: وقد جاء الله أباك بسَبْيٍ، فاذهبي فاستخدِميه، فقالت: وأنا والله قد طحنتُ حتى مجلت[12] يداي، فأتَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما جاء بك أي بنيَّة؟))، قالت: جئتُ لأسلِّم عليك، واستحيَت أن تسألَه ورجعَت، فقال: ما فعلتِ؟ قالت: استحييتُ أن أسأله، فأتيناه جميعًا، فقال علي: يا رسولَ الله، والله لقد سنوتُ حتى اشتكيتُ صدري، وقالت فاطمة: قد طحنتُ حتى مجلت يداي، وقد جاءك الله بسبيٍ وسَعة، فأخدِمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفَّة تَطْوَى بطونهم، لا أجد ما أُنفق عليهم، ولكنِّي أبيعهم وأنفق عليهم أثمانَهم))، فرجعا[13].
و(ما كاد التابعيُّ الجليل أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز ينفض يديه من تراب قَبر سلفه سليمان بن عبدالملك، حتى سمع للأرض - من حوله - رجَّة.
فقال: ما هذه؟
فقالوا: هذه مراكب الخِلافة - يا أمير المؤمنين - قد أُعدَّت لك لتركبها، فنظر إليها عمر بطرف عينه، وقال بصوته المتهدج الذي نَهكه التعَب، وأذبله السَّهر: ما لي ولها؟
نـَحُّوها عنِّي بارك الله عليكم، وقرِّبوا لي بغلتي؛ فإنَّ لي فيها بلاغًا)[14].
• السماح لأهل العِلم والمعرفة في المجموعة بإبداء آرائهم، ومَنحهم المكانةَ التقديريَّة المناسبة، وإنزالهم المنازلَ التي تليق بهم، وإعطاؤهم المساحةَ المناسبة بين الناس، فلقد (قَدِم هارون الرشيد الرقَّة، فانجفل النَّاس خلف عبدالله بن المبارك، وتقطَّعَت النِّعال، وارتفعَت الغبرةُ، وأشرفَت أمُّ ولد أمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلمَّا رأَت الناس، قالت: ما هذا؟ قالوا: عالِم من أهل خراسان قدم الرقَّة يقال له: عبدالله بن مبارك، فقالت: هذا والله المُلك، لا مُلك هارون الذي لا يَجمع الناسَ إلا بشُرَطٍ وأعوان)[15].
فالقائد النَّاجح من يَمنح الفرصةَ للآخرين بشكلٍ كامِل للتعبير عن آرائهم، والاستماع لهم جيدًا، ولا يتشدَّق بقدراته العقليَّة العالية فيسكتهم بزَعمه أنَّه قد فَهم قصدَهم وتوصَّل إلى ما يرمون إليه، بل من الواجب عليه أن يَستمع إليهم حتى يَنتهوا من كلامهم.
• تقديم مصالِح الرعيَّة: وحيث إنَّ الأصل في العمل الجماعي هو تَحقيق المصالح لعامَّة المجموعة، اقتضى أن تكون مصالِح الجماعة مقدَّمة على المصالح الفرديَّة، لقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: "آللهِ الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنتُ لأشُدُّ الحجرَ على بطني من الجوع، ولقد قعدتُ يومًا على طريقهم الذي يَخرجون منه، فمرَّ أبو بكر، فسألتُه عن آيةٍ من كتاب الله، ما سألتُه إلَّا ليُشبعَني، فمرَّ ولم يَفعل، ثمَّ مرَّ بي عمر، فسألتُه عن آيةٍ من كتاب الله، ما سألتُه إلَّا ليُشبعني، فمرَّ فلم يفعل، ثمَّ مرَّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسَّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: ((يا أبا هِر))، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ الله، قال: ((الحقْ))، ومضى فتبعتُه، فدخل، فاستأذَن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنًا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟))، قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: ((أبا هر))، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: ((الحقْ إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي))، قال: وأهل الصفَّة أضياف الإسلام، لا يَأوون إلى أهلٍ ولا مال ولا على أحد، إذا أتَته صدقَة بَعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتَته هديَّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبن في أهل الصفَّة؟ كنتُ أحق أنا أن أُصيبَ من هذا اللَّبن شربةً أتقوَّى بها، فإذا جاء أَمرني، فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللَّبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسَهم من البيت، قال: ((يا أبا هر))، قلتُ: لبَّيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطِهم))، قال: فأخذتُ القدح، فجعلتُ أعطيه الرجلَ فيشرب حتى يروى، ثمَّ يرد عليَّ القدحَ، فأعطيه الرجلَ فيشرب حتى يروى، ثمَّ يرد عليَّ القدحَ فيشرب حتى يروى، ثمَّ يرد عليَّ القدح، حتى انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَوِيَ القومُ كلهم، فأخذ القدحَ فوضعه على يَده، فنظر إلي فتبسَّم، فقال: ((أبا هر))، قلت: لبَّيك يا رسول الله، قال: ((بقيتُ أنا وأنت))، قلت: صدقتَ يا رسول الله، قال: ((اقعد فاشرب))، فقعدتُ فشربتُ، فقال: ((اشرب))، فشربتُ، فما زال يقول: ((اشرب))، حتى قلتُ: لا والذي بعثك بالحقِّ، ما أجد له مسلكًا، قال: ((فأرني)) فأعطيتُه القدحَ، فحمد الله وسمَّى وشرب الفضلةَ"[16].
فها هو رئيس القوم وسيِّد النَّاس وإمام الأمَّة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وحبيبه وخير ولد آدم، لا يَشرب حتى يَشرب الفقراءُ والمساكين من أمَّته، ثمَّ يشرب الفضلةَ صلى الله عليه وسلم.
• رفع لواء الحق: والحقُّ كلمة شامِلة عامَّة تنضوي تحتها كلُّ مفردات الفضِيلة والخير؛ من الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والعدل بين الناس، وغيرها، فحين يَرفع من يسوس الناس هذه الرايةَ، فهو يتمسَّك بالعمل بكلِّ هذه المفردات، وقد كان لأبي جعفر المنصور صديق كثير الأتباع، فلمَّا ولي المنصور الخلافةَ طلب منه أن يعينَه بأصحابه، فقال له صديقه: "ارفع علَم الحقِّ، يتبعك أهلُه".
ومن أحقية القيادة في السيادة والرياسة:
• الحكمة والدهاء؛ فالقائد النَّاجح من يَقود مَن معه بقوَّة من غير ظلمٍ أو عنف، وبلِينٍ من غير ضعف قد يُستغل من قِبَل الآخرين، وهذه هي رأس الحِكمة في سياسة النَّاس، فهو قويٌّ في الإدارة وفي الثَّقافة وفي التأثير على الآخرين، وليِّن في الجانب الاجتماعي والإنساني، وفي أسلوب الحوار، وبالتعامل البنَّاء مع الآخرين.
لقد جاء رجلٌ إلى الأحنف بن قيس فلطمَه في وجهه، فسأله الأحنفُ: يا أخي، ما دعاك إلى ذلك؟ فقال الرجل:
• لقد أقسمتُ أن ألطم سيِّدَ العرب من بني تميم.
فقال الأحنف:
اذهب فبر بيمينك؛ لأنِّي لستُ سيِّد العرَب، إنَّ سيِّد العرب هو جارية بن قُدامة، فذهب الرجل فلطمَ جاريةَ بن قدامة، فقام إليه جارية بالسَّيف فقطع يمينَه، فبلغ ذلك الأحنف، فقال الأحنف: أنا والله قطعتُها.
ومِن أمثلة الحِكمة في الحُكم ما أوصى به الإسكندر المقدوني أمَّه عند موته، فقد أوصاها بعد أن يُدفن أن تقوم بصُنع طعامٍ تَدعو إليه مَن لم يصبه حزنٌ قطُّ، فلمَّا صنعَت الطعام لم يلبِّ الدعوةَ أحدٌ، ففطنَت أنَّ فلذة كبدها كان يريد أن يوصل لها رسالةً بأنَّه لا يوجد بين الناس من لم يصِبه الهمُّ والحزن، فعليها أن تَصبر كما يفعل الآخرون، فقالت قولتها المشهورة: ما عزَّاني أحدٌ بمثل ما عزَّاني ولدي.
قال الشاعر:
حليمٌ جليلٌ ذو وقارٍ وهيبةٍ
حكيمٌ يَسوسُ الأمرَ لا يصحبُ العُنفَا
فأكرِمْ به ذاتًا ونفسًا كريمةً
وأحمِد به صيتًا وأحسِنْ به وصفَا
• استعداده للتضحِية: ولا نَقصد بالصدارة القيادة المدنيَّة أو الإداريَّة فحسب؛ وإنَّما القيادة المعنويَّة والشرعيَّة، فيضحِّي المقصود بامتيازاته من أجل المجموعة، وبالتفكير في الذين معه قبل أن يفكِّر في نفسِه، فيقدِّم لهم ويكرمهم ويذب عنهم، كلُّ ذلك يَنبغي أن يكون جليًّا في الأوقات كافَّة، في الراحة والدعة وفي الشدَّة على حدٍّ سواء.
لقد كان رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم نموذجًا حقيقيًّا للتضحية في كثير من المواقف، ومنها أنَّه اهتمَّ بأن يغادِر كلُّ مَن معه إلى خارج مكَّة (يهاجر) ويتابِع خروجهم (هجرتهم) بنفسه، وقبل ذلك كان قد أمَّن لهم المكانَ المناسِب الذي سيؤويهم، حتى إذا اطمأنَّ عليهم وشعر صلى الله عليه وسلم أنَّهم بخير وأمان، ورأى صلى الله عليه وسلم أنَّه بإمكانه أن يهاجِر، قرَّر الهجرةَ.
وفي مقامٍ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنِّي مجهود، فأرسَل إلى بعض نسائه، فقالت: والذي بعثك بالحقِّ، ما عندي إلا ماء، ثمَّ أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قُلْنَ كلهنَّ مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحقِّ، ما عندي إلا ماء، فقال: ((من يُضيف هذا الليلةَ رحمه الله؟))، فقام رجلٌ من الأنصار، فقال: أنا يا رسولَ الله، فانطلَق به إلى رَحلِه، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلَّا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيءٍ، فإذا دخل ضَيفنا فأطفئي السِّراجَ، وأريه أنَّا نَأكل، فإذا أهوى ليَأكل، فقومي إلى السِّراج حتى تُطفئيه، قال: فقعدوا وأكل الضَّيف، فلمَّا أصبح غدا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((قد عجب اللهُ من صنيعكما بضَيفِكما الليلة))[17].
تراه إذا ما جئتَه متهلِّلًا
كأنَّك تُعطيه الذي أنتَ سائلُهْ
ولو لم يكُن في كفِّه غيرُ روحه
لجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سائلُهْ
ولقد كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله نموذجًا رائعًا للقدوة الحسَنة للقيادة، وفي التضحية من أجل قضيَّته وعلى ما يؤمِن به والثَّبات على ذلك، فحين سُجن ثمَّ عذِّب حيث جُلد جلدًا رهيبًا، بقي ثابتًا، فقد (بال أحمد بن حنبل في مرضه دمًا، فرآه عبدالرحمن المتطبِّب، فقال: هذا رجل قد فتَّت الغمُّ والحزنُ كبدَه)[18]، بهذا النَّوع من التضحية والهمِّ من أجل الآخرين ومن أجل المبادئ والقضيَّة، ساد الإمامُ أحمد بن حنبل رحمه الله الناسَ، وكان إمامهم بحقٍّ.
3- غير مختلفة فيما بينها: الاختلاف والتضاد آفَة من الآفات التي تفتك بالعمل الجماعِي، وتفتِّت أعضاءَه، وتمزِّق أوصالَه، وليس المقصود اختلاف التنوُّع الذي قد تَنبثق عنه أفكار ورؤًى جديدة، تَنطلق منه أعمال مفيدة للأمَّة، وتحفِّز أبناءها على العطاء، ولكن الاختلاف المذموم هو اختلاف التضادِّ الذي قد يتطوَّر مع الزَّمن فيصل إلى مرحلة الجدَل العَقيم، الذي يولد العداوةَ والبغضاء والشَّحناء، ثمَّ الاقتتال.
ولقد شاعَت اليوم آفَةُ الجدَل والاختلاف بين الناس، على الرغم من أنَّ رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بيَّن خطورتَه ونتائجَه السلبيَّة الكبيرة وعواقبَه الوخيمة؛ لأنَّه في النهاية قد يؤدِّي إلى عمى البصيرة ثمَّ الضلالة، فعن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليه إلَّا أوتوا الجدَل))، ثمَّ تلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58][19].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (واعلم أنَّ أكثر الاختلاف بين الأمَّة الذي يورث الأهواء، تَجده من هذا الضَّرب؛ وهو أن يكون كلُّ واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته أو في بعضه، مخطئًا في نَفي ما عليه الآخر، كما أنَّ القارِئَينِ كلٌّ منهما كان مصيبًا في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نَفي حرف غيره؛ فإنَّ أكثر الجهل إنَّما يقَع في النَّفي الذي هو الجحود والتَّكذيب، لا في الإثبات؛ لأنَّ إحاطة الإنسان بما يُثبته أيسر)[20]، يقول الشاعر:
يا قومُ لا ترِدوا الخلافَ فإنَّه
وِردُ الطَّغام ومنهلُ الأرذالِ
من يشتري السُّمَّ الزُّعاف بسائغٍ
عذبِ النِّطاف مُصفَّقٍ سَلسالِ
هذه هي النتائج السلبيَّة للاختلاف المذموم، التي مِنها الوصول إلى حالَة الشَّحناء والبغضاء والاقتتال، في حين أنَّ التوجيه القرآني والنَّبوي خلاف ذلك، يقول تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29]، فهذه صِفة المجموعة المَرحومة الموفَّقة؛ أن يكون أفرادها رحماء فيما بَينهم، أشدَّاء على مَن عاداهم وحاربَهم، ولكن الذي يَحصل أنَّنا غادرنا هذا الفهم الربَّاني الرَّاقي، وتحوَّلنا إلى فهم شيطاني عَقيم، فصرنا أشدَّاء غُلظَاء قُساة على أنفسنا، رحماء على غَيرنا.
4- غير مترفة: لقد أثبتَت تجارب التاريخ قديمها وحديثها أنَّ من يتصدَّى للعمل من أجل التغيير نحو القِيَم والأخلاق والفضيلة ونصرة قضايا مبدئيَّة ذات أهداف أخلاقيَّة كبيرة للإنسانيَّة - لا ينتصر حتى يتجرَّد من كلِّ أمور البَهرجة الدنيويَّة والعيش المترف، يقول أحمد شوقي:
فيا فتية الصُّحْف صبرًا إذا
نبا الرزقُ فيها بكُم واختلَفْ
فإنَّ السعادة غيرُ الظُّهورِ
وغيرُ الثراء وغيرُ الترَفْ
ولكنَّها في نواحي الضمير
إذا هو باللوم لم يُكتنَفْ
خُذوا القصدَ واقتنعوا بالكفاف
وخلُّوا الفُضول يغلْها السرَفْ
فواحد من أهم أسباب خذلان الأمَّة وضعفها هو الترَف المادِّي؛ وذلك لسببين:
السبب الأول: أنَّ الترَف يؤدِّي بالفرد إلى البعد عن الله جلَّ جلاله؛ لأنَّ الفرد سينشغل بتوفير مستلزمات الحياة النَّاعمة والثَّمينة والدَّافئة، فإذا وفَّرها انشغل بالاستمتاع والتلذُّذ بها، ومن اشتغل بهذه الترَّهات ابتعد عن أداء ما يحبُّه الله جلَّ جلاله.
السبب الثاني: أنَّ الفرد المترَف سيكون في منأًى عن الأعمال الشاقَّة ويصعب عليه اقتحامها، فيبتعد عن أعمال العزَّة في الدنيا؛ كالجهاد والأعمال الشَّريفة الأخرى التي تحتاج إلى قوَّة روحيَّة وبدنيَّة عالية، وهو قد فقَدها بسبب إيغاله في الترَف.
وخطورة ترَف قادة الأمَّة أشد من خطورة أفرادها، فربَّما كان تقصير الفرد من جرَّاء ترَفِه على نفسه، أو في أسوأ الأحوال على مَن معه، ولكن تقصير كبار القوم وتعلُّقهم بالدنيا سيضطرهم للظُّلم، وذلك سينعكس سلبيًّا على بقية أفراد الأمَّة شاؤوا أم أبَوا.
لقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثلًا واضحًا في نَبذ الترف حين زار الشام وجاء بعضُ الصَّحابة يستقبلونه وعليهم حلَل شاميَّة، فلقد ضربهم عمر رضي الله عنه بالحصى ونهاهم، واعتبر ذلك ترفًا.
والترف يؤدِّي إلى سلوكيَّات مشينة، منها:
• جحود الحقِّ وعدم قبوله؛ لأنَّ مكتسبات الترَف الماديَّة والمعنويَّة تقود الفردَ إلى جحود أي مبادئ تنافي ما ترغبه نفسُه؛ والسبب في ذلك الجحود أنَّ الفرد يَعتقد أنَّ أفكار التجديد أو التغيير ستطيح بكلِّ أمانيه، يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [سبأ: 34].
• اللجوء لإيجاد تبريرات باطلَة من أجل البقاء على حال الترَف وعدم التنازل عنها، يقول تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 23]، فهؤلاء الذين يتذرعون بما وجدوا عليه آباءهم هم أَكثر الناس علمًا أنَّهم ليسوا بمقتنعين بما يتذرَّعون به؛ لأنَّهم لو لم يتذرَّعوا بذلك لبحثوا عن غيره ليتذرعوا به.
• اتباع ما تمليه عليهم مترتبات الترَف، وصولًا إلى درجة الإجرام، ومنها قَتل النَّفس التي حرَّم الله، وتقديم الولاء للأعداء، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
وأخيرًا: فإنَّ وجود المترَفين في أمَّة سيكون سببَ هلاك تلك الأمَّة، يقول تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16].
5- تؤمن وتَعمل بمبدأ تكافؤ الفرَص في الحياة: فليس هناك كبار وصغار إلَّا بالعمل الصالح، وبمقدار ما يقدِّم الفرد من إنجازاتٍ للصَّالح العام، وليس هناك أسياد وعبيد إلَّا بموجب حاجات اجتماعيَّة طبيعيَّة وحقيقية؛ فالكلُّ بشَر خلقهم الله جلَّ جلاله، وأمَّا الأسماء والوظائف والمهام، فهي وسائل لتأدِية الأدوار في الحياة وصولًا للهدف المشترك، ولقد صحَّح رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم هذا الفهمَ ووضع البوصلةَ في مسارها الصَّحيح حين رأى سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه أنَّ له فضلًا على من دونه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((هل تُنصرون وتُرزقون إلَّا بضعفائكم؟))[21].
من هنا وجب على الجماعة تقديم فائق العِناية وكثير الرِّعاية للضعفاء وصغار القوم وفقرائهم؛ لأنَّ هؤلاء يمثِّلون الفئة التي تُستجلب بها رَحمةُ الله جلَّ جلاله.
وإيمان المجموعة بمَبدأ تكافؤ الفرَص يعني إيمانها بالعدالَة؛ لأنَّ جزءًا من العدالة الاجتماعيَّة هي أن يستطيع أفرادُها عمومًا - وصغارها خصوصًا - أن يَنتقدوا كبارها، أو ينصحوهم، فعن عبدالله بن عمرو قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا رأيتم أمَّتي تهاب الظالمَ أن تقول له: إنَّك أنت ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم))[22].
6- تعمل من أجل الجميع؛ فإن كان عمَل الجماعة من أجل الفرد تحوَّل العمل إلى استغلالٍ، واتَّجهَت المجموعةُ بمجملها إلى هاوية السقوط، وأشارَت بوصلتها إلى الاتجاه الخطأ، وتُفهم القضيَّة حين يحاول رئيس المجموعة أن يَسحب المجموعةَ لهذا التوجُّه، فهو بشَر وتنازعه رغبات النَّفس وأهواؤها وعمل الشيطان وغروره، فينبغي على أفراد المجموعة أن يَحولوا دون السَّماح له بالتفرُّد بمصيرهم، وإعادته إلى جادَّة الحق، ليكرس جهدَه من أجلهم، ولكن ما لا يُفهم أن تسعى المجموعة لأن تَجعل ممَّن يرأسها متفردًا بأمورها، مستحوذًا على كافَّة الصلاحيات في العمل، يقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((وذمَّة المسلمين واحدة، يَسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا، فعليه لَعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبل منه صَرفٌ ولا عَدل))[23].
وهذا هو مِحور كلامنا الذي أصَّلَته الشريعةُ الإسلاميَّة، فحين يقرِّر أدنى فرد في الأمَّة الإسلاميَّة - مهما كان صغيرًا؛ اجتماعيًّا، ماديًّا، وظيفيًّا - أن يَمنح الأمانَ لشخص غريب، فإنَّ الأمَّة تلتزم بهذا الأمان ويباشر الجميع تنفيذه، وبالمقابل فإنَّ مَن ظُلمَ أو اعتُدي عليه من أبناء المجتمع الإسلامي تقوم الأمَّةُ برمَّتها للدِّفاع عنه.
لقد لبَّت جيوشُ الأمَّة الإسلاميَّة بقيادة الخليفة المعتصم نداءَ امرأةٍ مسلِمة في عموريَّة حين صرخَت: (وامعتصماه!)، فسارَت جيوشها لرَفع الحيف عنها، هذا لمَّا كان الفهم صحيحًا، وإرادة التغيير قائمةً، والوعي راشدًا، ولكننا اليوم يُصاح علينا من قِبل ناسنا ومن قِبَل المظلومين والمحرومين والتائهين منهم، ولا من سامع، فصار حالنا كما قال الشاعر:
رُبَّ وامعتصماهُ انطلقَتْ
ملءَ أفواهِ الصَّبايا اليُتَّمِ
لامسَتْ أسماعَهُم لكنَّها
لم تُلامِسْ نخوةَ المعتصمِ
"الالوكة"