ما معنى عبادة الله؟

السوسنة - ما معنى (عبادة الله) في الشريعة الإسلامية، وهل كل عمل يقوم به الإنسان يعد عبادة، وهل المسألة بحاجة إلى توضيح، وماذا لو طلب الإنسان من صاحبه شيئاً أو توسل بأحدٍ، فهل يعد مشركا، لأنه عَبَد غير الله تعالى؟

 
أسئلة مترابطة تجيب عليها دائرة الإفتاء الأردنية عبر موقعها الرسمي، وهذا نصها: 
 
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله 
العبادة في لغة العرب هي الخضوع والتذلل، جاء في [تاج العروس 8/ 331]: "{اعبدوا ربكم} أي: أطيعوا ربكم، وقوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} أي: نطيع الطاعة التي يُخضع معها، قال ابن الأثير: ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع".
وأمّا العبادة في الشرع فهي الخضوع للمعبود الذي يعتقده العابد إلهاً ورباً، مع نيته لتلك العبادة وقصده لها، فليست العبادة في الشرع أيّ خضوع وتذلل، بل هي تذلّل وخضوع بشرط اعتقاد ذلك المتذلّل له إلهاً ورباً، أو اعتقاد بعض خواصّ الألوهيّة فيه، وهذا ممّا لا شكّ فيه، فالابن مثلاً يتذلّل بين يدي والديه ويخضع لهما، ولا يكون بذلك عابداً لهما، وأما خضوع عبدة الأصنام مثلاً فهو عبادة لها، لأنهم اعتقدوا فيها خواصّ الألوهية كالرزق والتقدير وغير ذلك.
جاء في [تحفة المحتاج في شرح المنهاج 2/ 12]: "ونقل الفخر الرازي إجماع المتكلمين مع أن أكثرهم من أئمتنا على أنّ من عبد أو صلّى لأجل خوف العقاب أو طلب الثواب لم تصحّ عبادته؛ محمولٌ على من محّض عبادته لذلك وحده"، وقال ابن قاسم في حاشيته عليه: "لعل الوجه أن يقال إن أريد بالتمحيض المذكور أنه لم يفعله إلا لأجل ذلك، بحيث إنه لولاه ما فعل مع اعتقاده استحقاق الله ذلك لذاته، فالوجه صحة عبادته كما قد يصرح بذلك نصوص الترغيب والترهيب، إذ غاية الأمر أنه تعمد الإخلال بحق الخدمة مع اعتقاده ثبوته، ومجرد ذلك لا ينافي الصحة ولا الإيمان"، فالعبادة ليست صورة فقط، بل هي اعتقاد قلبي.
وممّا يدلّ على أن العبادة ليست صورة فقط، بل اعتقاد قلبي أنّ الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لسيدنا آدم عليه السلام، قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِين} [البقرة: 34]، ولم يكن ذلك السجود عبادة منهم، ولا كانوا يعتقدون آدم إلهاً ورباً ومعبوداً، بل كان سجودهم تحية وتكريماً وانقياداً لأمر الله تعالى، وأما الساجد بقصد العبادة فهو يعتقد أنّ المسجود له إلهٌ وربّ، كما قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
وإذا تبيّن معنى العبادة في الشريعة الإسلامية، علمنا أن أفعال الإنسان ليست كلها عبادات، بل منهما ما يكون من قبيل العادات، فطلب الإنسان من صاحبه أن يعينه في أمر صعب، أو يغيثه في موقف عسير ليس من قبيل العبادة، بل هو من قبيل الوسائل والأسباب العادية والأمور التي جرت بها عادة الناس فيما بينهم، فلا يجوز أن نقول عن هذا الإنسان إنه مشرك لمجرد طلبه العون أو الغوث.
وقد أجمع أهل السنة والجماعة أنّ الإنسان المسلم لا يجوز تكفيره بارتكاب المحرمات والكبائر، فكيف بالأمور المشتبهة أو الأمور التي اعتادها الناس فيما بينهم من العادات الإنسانية، أو الأمور المشروعة في الإسلام كالتوسل بالأنبياء والصالحين، وطلب الشفاعة منهم أو الاستغاثة بهم، قال العلامة القضاعي في [فرقان القرآن/ ص115]: "أما الشفاعة التي يعتقدها أهل التوحيد وجاء بها الكتاب والسنة فهي بعيدة من هذا بُعد الإيمان عن الكفر، والنور عن الظلمة، وهي دعاء الشافع للمشفوع فيه فيستجيب بفضله لمن شاء، وهو معنى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، والمراد هنا بالإذن الرضا، كما قال في الآية الأخرى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وكقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]".
وقد يستدلّ أهل الغلوّ والتكفير على تكفير المسلمين لمجرّد توسّلهم بالآخرين وطلب الغوث أو الشفاعة منهم، بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار} [الزمر: 3]، ونسي هؤلاء المغالون أنّ الكفار إنما كانوا يعبدون الأصنام، ويعتقدون فيها خواصّ الألوهية، وأن زعمهم الإيمان بالله إنما هو كذب وفجور، لذلك ختم الله سبحانه الآية بالشهادة عليهم أنهم كاذبون كفار.
وعليه؛ فإن العبادة هي معنى خاصّ في الإسلام يتضمن الخضوع والانقياد مع اعتقاد الألوهية في المعبود، وقصد التقرب إليه بتلك العبادة، ولا ينطبق ذلك على التصرفات المعتادة بين الناس، ولا نرى مسلماً يعتقد مثل هذه الاعتقادات، بل المسلمون كلهم يعبدون الله رباً، ولا يتخذون إلهاً سواه، فلا يجوز بحال من الأحوال التسرع في وصف المسلمين بالكفر لمجرد معصية حصلت منهم، فضلاً عن وقوع ما هو جائز شرعاً عند جمهور العلماء كالتوسل بالأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين. والله تعالى أعلم.
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة