تفسير الربع الثالث من سورة الكهف - رامي حنفي محمود

 سلسلة كيف نفهم القرآن؟ *

الربع الثالث من سورة الكهف
 
الآية 60، والآية 61، والآية 62: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾ أي اذكر أيها الرسول حينَ قال موسى لخادمه "يُوشَع بن نون": ﴿ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾: أي لا أزال أتابع السير حتى أصل إلى مكان التقاء البحرين ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾: يعني أو أسير زمنًا طويلاً حتى أصل إلى العبد الصالح - الذي أخبرني اللهُ تعالى به - لأتعلم منه ما ليس عندي من العلم.
 
♦ واعلم أنَّ سبب هذه القصة - كما ثَبَتَ في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنَّ موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فسُئِلَ: (أيّ الناس أعلم؟)، فقال: (أنا)، فعاتبه اللهُ على ذلك (لأنه أجابهم دونَ وَحْيٍ منه سبحانه)، فأوحى اللهُ إليه: (إنّ لي عبداً بمَجمع البحرين هو أعلم منك)، فقال موسى: (يا رب وكيف لي به)؟ - يعني كيف أصل إليه؟ - فقيل له: (احمل حوتا في مكتل - يعني احمل سمكة كبيرة في وعاء، (وفي رواية: أنه يُمَلِّحها، لتكون غذاءً له) - فإذا فَقَدته - (يعني في المكان الذي ستفقد فيه هذا الحوت) - فستجد هذا العبد هناك)، فانطلَقَ هو وفتاه "يُوشَع بن نون" حتى وجدا هذا العبد الصالح واسمه "الخَضِر"، (وسوف يَتِمّ شرح باقي الحديث في مَوْضعه مع التفسير).
 
♦ قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾: أي فلما اجتهدا في السَّيْر، ووصلا إلى مُلتَقى البحرين، جلسا عند صخرةٍ وناما عندها، و ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ عند هذه الصخرة ﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾: يعني فإذا بالحوت يُصبِحُ حيًّا - بعد أن كانَ مَيّتاً - ويَنزل في البحر، ويَتخذ له فيه طريقًا (كالنفق في الجبل).
 
♦ واعلم أنّ موسى عليه السلام عندما نام، كانَ يُوشَع (شِبه نائم)، فرأى الحوت وهو يَخرج مِن وعاءه ويَشُق طريقه إلى البحر، ولكنّ يوشع غلبه النوم، فنام ونسي خروج الحوت من المِكتل ودخوله في البحر.
 
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ : يعني فلمّا تَجاوزا المكان الذي نسيا فيه الحوت، وشعر موسى بالجوع: ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا ﴾ يعني أحضِر إلينا غداءنا، فـ ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ أي تعبًا وإرهاقاً.
 
الآية 63: ﴿ قَالَ ﴾ له خادمه: ﴿ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ﴾: يعني أتذكر حين لجأنا إلى الصخرة التي استرحنا عندها؟ ﴿ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ﴾ : يعني فإني نسيت أن أخبرك ما كانَ مِن أمْر الحوت، ﴿ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ : يعني وما أنساني أن أذكُر لك ذلك إلا الشيطان، فإنّ الحوت الميت قد دَبَّتْ فيه الحياة ﴿ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ : أي وقفز في البحر، واتخذ له فيه طريقًا، وكان أمْرُه عجيباً.
 
من الآية 64 إلى الآية 70: ﴿ قَالَ ﴾ موسى: ﴿ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ يعني: ما حصل هو ما كنا نطلبه، فإنه علامة لي على مكان العبد الصالح، ﴿ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ﴾: أي فرجعا يَتتبعان آثار مَشْيهما حتى انتهيا إلى الصخرة، ﴿ فَوَجَدَا ﴾ هناك ﴿ عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ وهو "الخَضِر" عليه السلام (وهو نبي من أنبياء الله تعالى، وذلك على الراجح من أقوال العلماء)، والدليل على ذلك أنّ اللهَ علَّمه أشياءً مِن عِلم الغيب - كما سيأتي في القصة - وقد قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ ، والدليل على أنه ليس مَلَكاً أنه - كما سيأتي أيضاً في القصة - أراد أن يُضِّيفه أهل القرية بالطعام، ومعلومٌ أن الملائكة لا تأكل.
 
♦ وقد ﴿ آَتَيْنَاهُ ﴾ يعني أعطينا الخَضِر ﴿ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾ - وهي النُبُوَّة -﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ﴾ أي مِن عندنا ﴿ عِلْمًا ﴾ عظيمًا (وهو بعض الأشياء مِن علم الغيب عن طريق الوحي)، فـ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى ﴾: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ﴾ : يعني هل تأذن لي أن أتَّبعك لتُعَلِّمني شيئاً - أسترشد به وأنتفع - من العلم الذي علَّمك اللهُ إياه؟، فـ﴿ قَالَ ﴾ له الخَضِر: ﴿ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ أي لن تطيق أن تصبر على اتِّباعي ومُلازمتي، (وقد أراد بذلك أنه سيَرى منه أموراً لا يُقِرّها موسى في شَريعته، والخَضِر لابد أن يَفعلها، فيَتضايق موسى بسببها ولا يطيق الصبر).
 
♦ وقال الخَضِر لموسى: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ : يعني وكيف لك الصبر على ما سأفعله من أمورٍ يَخفى عليك عِلمها والحِكمة منها؟، فـ﴿ قَالَ ﴾ له موسى - وقد أصَرَّ على طلب العلم -: ﴿ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ﴾ على ما أراه منك ﴿ وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾، فوافق الخَضِر، و ﴿ قَالَ ﴾ له: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ﴾ : يعني فإنْ صاحَبْتَني ﴿ فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ ﴾ تُنكِرُه مِنِّي ﴿ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ أي حتى أكون أنا الذي يُبَيِّن لك حقيقته، دونَ سؤالٍ منك.
 
الآية 71: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يَمشيان على الساحل، فمَرَّتْ بهما سفينة، فطلبا من أهلها أن يَركبا معهم، فعرفوا الخَضِر، فحملوهما بغير أجر ﴿ حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ﴾: يعني فلمّا ركبا: قَلَعَ الخَضِر لوحًا من السفينة فخرقها، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ﴾ وقد حملونا بغير أجر؟! ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ : يعني لقد فعلتَ أمرًا مُنكَرًا.
 
الآية 72: ﴿ قَالَ ﴾ له الخَضِر: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ على صُحبتي.
 
الآية 73: ﴿ قَالَ ﴾ موسى مُعتذِرًا: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ﴾: أي لا تؤاخذني بنسياني لشرطك عليَّ (فإنّ الناسي لا حرج عليه)، ﴿ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾: أي ولا تشُقّ عليّ في تعلُّمي منك، وعامِلني برفقٍ ويُسر (فقبل الخَضِر عُذره).
 
الآية 74: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يمشيان بعد أن نزلا من السفينة ﴿ حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ ﴾ : يعني فبينما هما يمشيان على الساحل: لقيا غلامًا يلعب مع الغلمان، فقتله الخَضِر، فأنكر موسى ذلك عليه، و ﴿ قَالَ ﴾ له: ﴿ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ﴾: يعني كيف قتلتَ نفسًا طاهرة لم تبلغ حدَّ التكليف ولم تتلوث بالذنوب، ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾: يعني وكيف قتلته وهو لم يَقتل نفسًا يَستحق بسببها هذا القتل (قِصاصاً)؟ ﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾: أي لقد فَعَلْتَ أمرًا تُنكِره الشرائع والعقول، (ولم تكن هذه نِسياناً من موسى كالتي قبلها، بل كان هذه المرة متعمداً، لأنه لم يُطِق فِعلاً مُنكَراً كهذا).
 
الآية 75: ﴿ قَالَ ﴾ الخَضِر لموسى مُعاتِبًا ومُذكِّرًا: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ على ما ترى من أفعالي؟
الآية 76: ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ﴾ أي بعد هذه المرة ﴿ فَلَا تُصَاحِبْنِي ﴾ فـ ﴿ قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾: أي قد بلغتَ العُذر في شأني ولم تقصِّر؛ حيثُ أخبرتَني أنني لن أستطيع معك صبرًا.
 
♦ واعلم أنّ العلماء قد اختلفوا في الفرق بين (شيئاً إمراً و شيئاً نُكراً)، ورجّح بعضهم أنّ الاثنان بمعنى واحد، وهو: (الأمر الفظيع المُنكَر)، ولكنّ النُكر أعظم من الإمر، لأنّ قتل النفس البريئة بغير ذنب هو أكبر مِن خَلْع لوح من السفينة (فاللوح يُمكِن أن يَتِمّ إصلاحه أو يُؤتَى بغيره، لكنّ المقتول لا يُمكِن إعادته).
 
الآية 77: ﴿ فَانْطَلَقَا ﴾ يَمشيان ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾ أي طلبا من بعض أهلها طعامًا على سبيل الضيافة، ﴿ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ﴾: أي فامتنع أهل القرية عن ضيافتهما، ﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا ﴾ مائلاً ﴿ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ﴾ أي يُوشِك أن يَسقط ﴿ فَأَقَامَهُ ﴾: أي فعدَّله الخَضِر وأصلحه حتى لا يَسقط، فـ ﴿ قَالَ ﴾ له موسى: ﴿ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾: يعني لو شئتَ لأخذتَ أجرًا على هذا العمل - مِن صاحب الجدار - لتُحضِر لنا به طعامنا (إذ كيف تَبنيه لهم (مجاناً)، وقد كانوا بخلاء معنا ولم يُضيِّفونا؟).
 
الآية 78، والآية 79: ﴿ قَالَ ﴾ الخَضِر لموسى: ﴿ هَذَا فِرَاقُ ﴾ : أي هذا هو وقت الفراق ﴿ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ﴾، و﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ : أي سأخبرك الآن بتفسير الأفعال التي أنكرتَها عليَّ ولم تستطع صبرًا على ترْك السؤال عنها، فـ ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ ﴾ التي خرقتُها ﴿ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ ﴾ عليها ﴿ فِي الْبَحْرِ ﴾ أي يؤجِّرونها للركاب طلباً للرزق، ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ بذلك الخرق، والسبب في ذلك: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾: يعني لأنه كان أمامهم مَلِكٌ يأخذ كل سفينة من أصحابها قهراً (فأردتُ أن أجعل بها عيباً حتى لا يَرغب فيها).
♦ واعلم أنّ لفظ "وراء" يُطلق على ما كان خلفاً وما كان أماماً، لأنّ كل ما وُورِيَ - أي: استُتِر - فهو وراء، كما قال تعالى: ﴿ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ﴾ أي مِن بعد موته.
 
الآية 80، والآية 81: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ ﴾ الذي قتلتُه ﴿ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ﴾: يعني كان أبوه وأمه مؤمِنَيْن، وقد عَلِمَ اللهُ تعالى أنّ ذلك الولد إذا بَلَغَ وكَبَر سوف يَعُقُّهما ﴿ فَخَشِينَا ﴾ أي فخِفتُ إن بَقِيَ حَيّاً وكَبُرَ ﴿ أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ يعني أن يُوصل والديه إلى الكفر والطغيان؛ وذلك بسبب مَحبتهما له أو شدة حاجتهما إليه، فيُطيعا أمره، ويَميلا إلى ما هو عليه، ويُقِرَّاه على ما يَفعله (حتى ولو كان طغياناً وكفراً)، فيكونا بذلك مِثله، ﴿ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾: أي فأردتُ أن يكون قتلي له سبباً أرجو به من اللهِ تعالى أن يُبْدِلَ أبويه غلاماً خيراً منه صلاحًا وبِرًا بهما.
 
♦ واعلم أنّ الخضر عليه السلام قد قال اللفظين: ﴿فَخَشِينَا﴾، و ﴿ فَأَرَدْنَا﴾ بضمير الْمُتكَلِّم الْجَمْعِي (تواضعاً لا تعاظماً)، لأنه هنا قد أخبر أنّ اللهَ تعالى هو الذي علَّمه ذلك، فناسَبَ ذلك التواضع، فقال اللفظين: ﴿ فَخَشِينَا ﴾، و ﴿ فَأَرَدْنَا ﴾ بإظهار أنه قد عاوَنَهُ أحد في هذا الفعل، وذلك مِثل قوله تعالى - حكايةً عن يوسف عليه السلام -:  ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ ﴾ ، وهذا أيضاً مِثل قول القائل: (لقد وفقنا اللهُ تعالى إلى فِعل كذا).
 
الآية 82: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ ﴾ الذي عدَّلتُ مَيْلَه حتى اعتدل: ﴿ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ (أي في القرية التي فيها الجدار) ﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا ﴾ ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا ﴾ رجلاً ﴿ صَالِحًا ﴾ ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ أي يَكبَرا ويَبلغا قوتهما، ﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ﴾ بأيديهما، وقد كانَ ذلك ﴿ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾ بهما، ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾: يعني وما كانت أفعالي هذه ناتجة عن إرادتي واختياري، وإنما فعلتها بأمْر اللهِ تعالى وتعليمه، ﴿ ذَلِكَ ﴾ الذي وَضَّحتُهُ لك هو ﴿ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾: أي هو تفسير الأمور التي لم تستطع صبرًا على ترك السؤال عنها والإنكار عليَّ فيها.
 
♦ واعلم أنّ الفعل (تَسْطِعْ) هو بمعنى (تَسْتَطِعْ)، ولكنْ حُذِفَتْ التاء هنا تخفيفاً لقربها مِن مَخرج الطاء، وذلك تجنُّباً لإعادة نفس اللفظ المذكور في قوله:  ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ حتى لا يَحدث ثِقَلٌ للسامع مِن تكراره، وهو ما يسمى في اللغة بـ (أسلوب التفنُّن)، كما سيأتي في قوله تعالى - حكايةً عن ذي القرنين -: ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ .
 
♦ واعلم أيضاً أنه يُستفاد من هذه القصة أنّ الإنسان ينبغي ألاَّ يَحكم على الأمور بالظاهر، لأنّ هناك أشياء لا يَعلمها ولا يَعلم الحكمة منها، ولذلك ينبغي أن يقول دائماً: (قدَّرَ اللهُ وما شاءَ فعل)، ويُفَوِّض الأمر لربه العليم الحكيم، ويَتذكر هذه القصة.
 
* وهي سلسلة تفسير لآيات القرآن الكريم بأسلوب بسيط جدًّا، وهي مُختصَرة من (كتاب: "التفسير المُيَسَّر" (بإشراف التركي)، وأيضًا من "تفسير السّعدي" ، وكذلك من كتاب: " أيسر التفاسير" لأبي بكر الجزائري) (بتصرف)، عِلمًا بأنّ ما تحته خط هو نص الآية الكريمة، وأما الكلام الذي ليس تحته خط فهو التفسير.
- واعلم أن القرآن قد نزلَ مُتحدياً لقومٍ يَعشقون الحَذفَ في كلامهم، ولا يُحبون كثرة الكلام، فجاءهم القرآن بهذا الأسلوب، فكانت الجُملة الواحدة في القرآن تتضمن أكثر مِن مَعنى: (مَعنى واضح، ومعنى يُفهَم من سِيَاق الآية)، وإننا أحياناً نوضح بعض الكلمات التي لم يذكرها الله في كتابه (بَلاغةً)، حتى نفهم لغة القرآن.