تطبيقات قاعـدة حكم الحاكم يرفع الخلاف

المفتي علي القادري

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين وبعد:

فإن الإنسان مدني بالطبع، ذلك أن مصالحه لا تستقيم إلا من خلال اجتماعه بالناس وإقامة علاقات مختلفة معهم، فالاجتماع ضرورة بشرية، وحاجة إنسانية، من خلالها تعمر الأرض، ولهذا أمر الله تعالى بالاجتماع ونهى عن الاختلاف، فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103]، وأساس العمران قائم على اختلاف البشر وعدم مطابقة بعضهم لبعض، لتكون العلاقة فيما بينهم علاقة تكاملية، كل يكمل ما نقص عنده من خلال الآخرين، وصور الاختلاف متعددة، فمنها اختلاف في اللسان والألوان، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) [الروم: 22]، ومنها اختلاف في الشرائع وطرق الحياة: فقال سبحانه: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة: 48]، ومنها اختلاف في الهوية: قال جل جلاله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]، وقد نص القرآن الكريم على أن الاختلاف بهذه الصورة إرادة إلهية، فقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود:118-119]، وقد اختلف المفسرون إلى أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فمنهم من قال: إنه يعود إلى الاختلاف، أي: خلقهم ليختلفوا، وذهب إلى هذا الحسن البصري، وذهب آخرون ومنهم عطاء، إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة أي خلقهم ليرحمهم، وقال بعضهم: إن اسم الإشارة يعود إلى الاثنين معًا، أي خلقهم ليختلفوا، وليرحم من سلك الصراط المستقيم، وممن ذهب إلى هذا القول ابن جرير الطبري، وابن كثير وغيرهم([1]).

فلا يستغني الإنسان عن المعاونة في جميع حاجاته أبدا بطبعه، وتلك المعاونةُ لا بدّ فيها من المفاوضة، والمشاركة وغيرها من المعاملات، وربّما تفضي المعاملة عند اتحاد الأغْراض واختلاف الآراء والأفكار والمعتقدات إلى المنازعة والمشاجرة، فتنشأ المنافرة والمؤَالفة، والصداقة والعداوة، وتؤول إلى الحرب والسلم بين الأمم والقبائل، ولذلك لا بد للناس من حاكم يفصل بينهم، وينصر المظلومين، ورأس يُرجع إليه عند المنازعات، فكان نصب الحاكم ضرورة اجتماعية، تضبط حياة الناس، وتحفظ عليهم دينهم وحقوقهم، ولذلك عرفها الجويني بقوله: "فالإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخَيف([2]) والحَيف([3])، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين"([4])، وعرف الجرجاني الحاكم فقال: "الذي له الرياسة العامة في الدين والدنيا جميعا"([5])، وإن من أهم القواعد التي يترتب عليها تيسير أمور الناس، وتسيير شؤون الدولة وتحقيق الغاية التي لأجلها تم نصب الحاكم، ما أصّله فقهاء المسلمين، وقعّده علماء الأصول منهم بقولهم: "إن حكم الحاكم يرفع الخلاف"([6])، والمراد بحكم الحاكم أي: فصله وقضاؤه وما حكم به، والمقصود برفع الخلاف: أي إزالته وجمع الناس على رأي واحد ([7])، قال القرافي في الفروق: "حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم وتتغير فتياه بعد الحكم عما كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء"([8]).

الفرق بين الخلاف والاختلاف

الخلاف: "منازعة تجري بين المتعارضين لتحقيق حقٍّ أو لإبطال باطل"([9])، ويحمِل في مضمونه النزاعَ والشقاق والتباينَ الحقيقيَّ، وأما الاختلاف فهو: "أن يأخذ كلّ واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله"([10])، فالاختلاف ما كان في الوسائل مع الاتحاد بين المختلفِين في الغاية، أما الخلاف: فهو خلافٌ بينهم في الوسائل والغايات، وفرق صاحب [الدر المختار] بينهما بأن الاختلاف ما يَستند إلى دليل، والخلاف ما لا يستند إلى دليل([11])، وكأنه يشير إلى أن الاختلاف أمر طبيعي سببه اختلاف الأفهام وطرق الاستدلال الصحيحة، غايته الوصول إلى الحق، وأما الخلاف فإنه لا يتعدى اتباع للهوى وغايته الانتصار للرأي أو للفكرة أو لقائلها، ولا يختلف المعنى الشرعي للخلاف والاختلاف عن المعنى اللغوي، إلا أنه مقصور على المسائل الشرعية، ذلك أن علماء الشريعة يطلقون الخلاف على المسائل الشرعية التي لم يجمع عليها، فالاختلاف في الأصل لا يحمل معنى المنازعة والمشاقَّة، إنما واقعُ الناس ونفوسُهم التي لا تحتمل ذلك، وصدورُهم التي تَضِيق عن مخالفة غيرهم لهم، يجعل هذا الاختلاف سبباً إلى المنازعة، ولهذا يجري على لسان أهل العلم أثناء تقرير المسائل الخلافية هذا اختلاف لا خلاف، إذا كان الاختلافُ لفظياً والجمعُ بين القولين ممكناً، وقد يقولون عنه: هذا اختلاف تَنَوُّعٍ، لا تَضَادٍّ، ويقولون في حال الخلاف الشديد: خلاف حقيقي أو جوهري.

أنواع الخلاف

ينقسم الخلاف الواقع بين أقوال أهل العلم إلى قسمين رئيسين:

الأول: الخلاف السائغ (المحمود):

وهو الاختلاف في المسائل الظنية، وهذا كثير جدًّا، يظهر ذلك جليًّا لمن تتبع خلاف الفقهاء في مسائل الفقه من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الإقرار، ومن أمثلته: الاختلاف في أقسام المياه، ونجاسة الكلب، ومدة المسح على الخفين، وأمد الحيض، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وصلاة ذوات الأسباب في أوقات النهي، وما يجب تغطيته من المرأة، ووقوع طلاق الثلاث واحدة... إلخ. لا يصادم نصا ولا إجماعا سابقا، صادر عمن هو أهل للنظر في الدليل، سببه الاختلاف في فهم النص، أو الاختلاف في ثبوته، أو في نسخه، أو في الجمع بينه وبين غيره من الأدلة، ومن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر، ومثل هذا الخلاف حصل في عصر النبو؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر ‌إلا ‌في ‌بني ‌قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم"([12]).

الثاني: الخلاف غير السائغ (المذموم):

وهو الخلاف في المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، مثل: وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، وتحريم الخمر...إلخ. فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ، لأنه لو قبل الخلاف فيها لما بقِي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد.

وذكر الشافعي هذان النوعان للخلاف في رسالته من خلال هذا الحوار البديع:" قال: فإني أجد أهل العلم قديماً وحديثاً مختلفين في بعض أمورهم فهل يسعهم ذلك، قال: فقلت له الاختلاف من وجهين أحدهما محرم ولا أقول ذلك في الآخر، قال: فما الاختلاف المحرم، قلت كل ما أقام الله به ‌الحجة ‌في ‌كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويُدرك قياسا،ً فذهب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره لم أقل أنه يضيق الخلاق في المنصوص، قال فهل في هذا حجة تُبَين فرقك بين الاختلافين، قلت قال الله في ذم التفرق: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)} البينة:4{، وقال جل ثناؤه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) }آل عمران:105{، فَذَمَّ الاختلاف فيما جاءتهم به البينات، فأما ما كُلِّفوا فيه الاجتهاد فقد مَثَّلته لك بالقبلة والشهادة وغيرها"([13])، وقال الزركشي: "إن هذه المسائل منها ما لا يسوغ فيه الاجتهاد، ومنها ما ليس كذلك، والتي لا يسوغ فيها الاجتهاد وهي التي أدلتها قاطعة فيها، فإنا نعلم بالضرورة أنها من دين النبي عليه الصلاة والسلام، كوجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وتحريم الزنى والخمر، والمخطئ في هذا كافر لتكذيبه الله تعالى ورسوله، ومنها ما ليس كذلك، كجواز بيع الحصا، وتحريم الخنزير والمخطئ في هذه آثم غير كافر، وأما التي يسوغ فيها الاجتهاد فهي المختلف فيها، كوجوب الزكاة في مال الصبي، ونفي وجوب الوتر وغيره مما عدمت فيها النصوص في الفروع، وغمضت فيها الأدلة ويرجع فيها إلى الاجتهاد، فليس بآثم"([14]).

تطبيقات قاعدة حكم الحاكم يرفع الخلاف

إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية، ولزومه عليهم متوقف على وجود الثمرة والمنفعة المترتبة على تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، ولذلك فقد قعَّد أهل العلم قاعدة: "تصرّف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة"([15])، وهذه القاعدة ترسم حدود الإدارات العامة، والسياسة الشرعية في سلطان الولاة وتصرفاتهم على الرعية، فتفيد أن أعمال الولاة النافذة على الرعية يجب أن تبنى على المصلحة للجماعة، باعتبارهم وكلاء عن الأمة في القيام بأصلح التدابير لإقامة العدل، ودفع الظلم، وصيانة الحقوق والأخلاق، وضبط الأمن، ونشر العلم، وتطهير المجتمع من الفساد، وتحقيق كل خير للأمة بأفضل الوسائل، وأكد هذا المعنى العز بن عبدالسلام بقوله: "يتصرف الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد"([16])، وما كان من أمر الحاكم مما لا مصلحة فيه عامة، فالأصل أنه غير ملزم إلا إن غلب على الظن أن مخالفته قد تؤدي إلى فتنة وضرر، وأورد الغزالي الإجماع على حرمة مخالفة اجتهاد الحاكم فقال: "دل –أي الإجماع- على تحريم مخالفة اجتهاد الامام الأعظم والحاكم؛ لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم"([17]).

ويكون رفع الخلاف من الناحية العملية فقط، أما من الجهة العلمية، فحكم الحاكم وإلزامه ليس مغيرًا للأحكام الشرعية، ولا مرجحًا لقولٍ على آخر، ويبقى الخلاف علميا على ما هو عليه، يقول الخرشي المالكي: "ورفع الخلاف لا أحل حرامًا، يعني أن حكم الحاكم إذا وقع على وجه الصواب يرفع العمل بمقتضى الخلاف، بمعنى أنه إذا رفع لمن لا يراه ليس له نقضه، وإلا فالخلاف بين العلماء موجود على حاله، فمن لا يرى وقف المشاع، إذا حكم حاكم بصحته ثم رفع لمن كان يفتي ببطلانه نفذه وأمضاه، ولا يحل له نقضه، وكذلك إن قال شخص لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها، وحكم حاكم بصحة هذا النكاح، فالذي يرى لزوم الطلاق عليه أن ينفذ هذا النكاح ولا يحل له نقضه"([18]).

وعلى هذا فلرئيس الدولة أن يتخير من بين الآراء الاجتهادية ما يناسب العصر ويحقق المصلحة العامة ويلزم بها رعيته، تحقيقا لمقاصد نصب ولي الامر، وقطعا للنزاع إن كان من أهل الاجتهاد، وإلا فإنه يعين من هو أهل لذلك، وأقرب ما يمثل ذلك في هذا الزمان المجامع الفقهية ودوائر الإفتاء والقضاء والأوقاف، التي تضم كوكبة معتبرة من أهل العلم والفقه، فيكون حكم هؤلاء رافعا للخلاف كوكلاء عن ولي الأمر الذي نصبهم، يقول العز بن عبدالسلام: "لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإيجارات على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له"([19]).

أولا: تطبيق القاعدة على مسألة الوصية الواجبة

ذهب الفقهاء الأربعة إلى أن الابن يَحجب ابن الابن فلا يرث بوجوده([20])، فإذا توفي أحد وله أولاد ابن، وقد مات ذلك الابن قبله أو معه، فإن ابن الابن الذي مات أبوه في حياة أبيه – أي: جد ابن الابن هذا- فإنه يرث ميراث الابن إذا لم يكن للجد أولاد ذكور موجودون على قيد الحياة، أما إذا كان للجد أولاد ذكور موجودون على قيد الحياة فإن ابن الابن يُحجب بوجود الابن هذا، وذهب بعض العلماء إلى القول بوجوب الوصية للأقربين غير الوارثين، وهو قول مروي عن ابن عباس ومسروق والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد وسعيد بن المسيب، والحسن البصري، وطاووس، وابن حزم وغيرهم ([21]). مستدلين بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 180] وقالوا إنها آية منسوخة بحق من يرث ثابتة فيمن لا يرث.

فإذا رأى ولي الأمر الأخذ بقول من قال بوجوب الوصية للأقربين كان قوله رافعا للخلاف، ولهذا أخذ قانون الأحوال الشخصية الأردني رقم (15) لسنة 2019 بهذا القول وحصر وجوب الوصية بحق الأحفاد الذين توفي والدهم قبل جدهم أو معه؛ لأن ذلك يتماشى مع روح التشريع الإسلامي، "ولعل من أبرز هذه الحِكَم أن هؤلاء الحفدة ربما يكونون من أهل الفقر والحاجة، خاصة وأنهم في الغالب صغار في السن، وحيث إن نظام الإرث لا يوقع لهم شيئا من ميراث جدهم أو جدتهم بسبب وجود أعمامهم أو عماتهم، لجأ القانون إلى الأخذ برأي الفقهاء القائلين بوجوب الوصية لمعالجة هذه المشكلة، وتماشيا مع روح التشريع الإسلامي"([22])، فجاء في قانون الأحوال الشخصية الأردني، المادة (279)([23]): "إذا توفي شخص وله أولاد ابن وقد مات ذلك الابن قبله أو معه وجب لأحفاده هؤلاء في ثلث تركته وصية بالمقدار والشروط التالية:

أ. تكون الوصية الواجبة بمقدار حصتهم مما يرثه أبوهم عن أصله المتوفى على فرض موت أبيهم إثر وفاة أصله المذكور على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة.

ب. لا يستحق الأحفاد وصية إن كانوا وارثين لأصل أبيهم جداً كان أو جدة إلا إذا استغرق أصحاب الفروض التركة.

ج. لا يستحق الأحفاد وصية إن كان جدهم قد أوصى لهم أو أعطاهم في حياته بلا عوض مقدار ما يستحقونه بهذه الوصية الواجبة، فإذا أوصى لهم أو أعطاهم أقل من ذلـك وجبت تكملته، وإن أوصى لهم بأكثر كان الزائـد وصيـة اختياريـة، وإن أوصى لبعضهم فقد وجب للآخر بقدر نصيبـه.

د. تكون الوصية لأولاد الابن ولأولاد ابن الابن وإن نزل واحداً أو أكثر للذكر مثل حظ الأنثيين يحجب كل أصل فرعه دون فرع غيره، ويأخذ كل فـرع ما يستحقه من نصيب أصله فقط.

هـ. الوصية الواجبة مقدمة على الوصايا الاختيارية في الاستيفاء من ثلث التركة".

فكان هذا القانون رافعا للخلاف عمليا، ولا يجوز أن يُفتى بخلافه، عملا بقاعدة:" حكم الحاكم يرفع الخلاف".

ثانيا: تطبيق القاعدة على مسألة تكرار الصلاة على الميت

اختلف الفقهاء في تكرار الصلاة على الميت لمن لم يصل عليها أولا:

فذهب الحنفية إلى عدم جواز تكرار الصلاة على الميت مطلقا، سواء ممن صلى عليه أو ممن لم يصل عليه، واستثنوا من ذلك ولي الميت، فله أن يصليها إذا لم يحضر الصلاة الأولى؛ لأنها حقه، أما غير الولي فليس له أن يصلي على الميت بعد الصلاة عليه، قال الإمام الكاساني في [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع]: "ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة لا جماعة ولا وحدانا عندنا، إلا أن يكون الذين صلوا عليها أجانب بغير أمر الأولياء، ثم حضر الوليّ فحينئذٍ له أن يعيدها"([24]).

وذهب المالكيَّة إلى كراهة إعادة الصلاة على الميت، سواء ممَّن صلى عليه وممَّن لم يصل، وذلك إذا صلي عليه في جمَاعَة وأعيدت في جماعة، أو صُلِّي عليه في جماعة وأعيدت فرادى، أو صُلِّي عليه فرادى وأعيدت فرادى. أمَّا إذا صُلِّي عليه فرادى وأعيدت في جماعة فيستحب إعادتها ما لم يُدفَن؛ لتحصيل أجر الجماعة، قال الشيخ عليش في [منح الجليل]: "(ولا تُكرر).. أي: الصلاة على الميت، أي: يكره تكرارها إذا صليت جماعة مطلقًا، أو أفذاذًا أعيدت كذلك، فإن أعيدتْ جماعة فلا يكره، فالصور أربع: تكره الإعادة في ثلاث، وتندب في واحدة"([25]).

وذهب الشافعية إلى جواز تكرار الصلاة على الميت إذا صُلي عليه، قال الجويني: "إذا صلى على الميت طائفة، وسقط فرضُ الكفاية بهم، فيجوز أن يصلّي عليه جيل آخر عندنا"([26])، وقال الرملي في [النهاية]: "(وإذا صلي عليه) أي: الميت (فحضر من) أي: شخص (لم يصل) عليه، (صلى) عليه استحبابًا؛ سواء كانت قبل دفنه أم بعده، وينوي لها كما في "المجموع" الفرضَ"([27]).

وذهب الحنابلة إلى كراهة إعادة الصلاة لمن صلى عليها إلا لسبب، كأن يكون الأحق بالإمامة في الصلاة على الميت، وأجازوها بحق من لم يصل على الجنازة أولا، جاء في [الإنصاف]: "فائدة: يُكره لمَن صلى عليها أن يعيدَ الصلاة مرة ثانية على الصحيح من المذهب -إلى قوله-: ومن فاتته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر"([28]).

كما اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على الميت الغائب، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن صلاة الغائب مشروعة وجائزة مطلقا في حق المسلم الذي يموت في بلد آخر، جاء في [مغني المحتاج] للشربيني: "يُصلى على الغائب عن البلد، وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة، خلافاً لأبي حنيفة ومالك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر الناس وهو بالمدينة بموت النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة، وخرج بهم إلى المصلى، فصف بهم، وكبر عليه أربع تكبيرات([29])"([30])، وجاء في [المغني] لابن قدامة: "وتجوز الصلاة على ‌الغائب في بلد آخر بالنية، فيستقبل القبلة، ويصلى عليه كصلاته على حاضر، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن... ولنا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه"([31]).

وذهب الحنفية والمالكية إلى أن صلاة الغائب غير مشروعة، جاء في [الدر المختار]: "فلا تصح –أي صلاة الجنازة- على غائب ومحمول على نحو دابة وموضوع خلفه، لأنه كالإمام من وجه دون وجه لصحتها على الصبي، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لغوية أو خصوصية"([32])، وجاء في [شرح الخرشي]: "ولا غائب يعني أنه يكره الصلاة على شخص غائب ... وصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي من خصوصياته"

"دائرة الافتاء العام"