السوسنة
كتب المفتي على القادري عبر موقع دائرة الافتاء العام مقالات بعنوان فلسفة الإجماع عند الأصوليين.
المفتي علي القادري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإن الله تعالى قد منَّ علينا بنعمة الإسلام، أفضل الشرائع وأكملها، فقال سبحانه وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، وأرسل إلينا أكرم رسله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكبها إلا ضال، وهذه البيضاء النقية ما أخذه الصحابة الكرام رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من منهجية في فهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتواترت نقلاً جيلاً بعد جيل الى أن يرث الله الأرض وما عليها، فإن اتفقت أفهام المجتهدين على حكم شرعي كان قطعياً يقينياً، وهو ما عرف بالإجماع.
تعريف الإجماع في اللغة
الإجماع هو: الاتفاق ([1])، يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا، ويأتي بمعنى العزم على الشيء، يقال: أجمعت الأمر، وأجمعت على الأمر إجماعاً، إذا عزمت عليه([2]).
تعريف الإجماع في الاصطلاح
ذكر العلماء عبارات في تعريفه، تختلف بحسب القيود والشروط التـي يراها المعرّف، فعرفه الرازي في محصوله بقوله: "هو عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمـد صلى االله عليه وسلم على أمر من الأمور"([3])، وقال الآمدي: "الإجماع، عبارة عن اتفاق جملة أهـل الحل والعقد من أمة محمد في عصر من الأعصار علـى حكـم واقعـة مـن الوقائع"([4])، وعرفه تاج الدين السبكي أنه: "اتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان"([5]). ونجد أن هذه العبارات تختلف في قيودها، فالرازي أطلق تعريفه ولم يشر إلى أن الإجماع ينعقد في عـصر من الأعصار، ولم يقيد الآمدي ذلك ببعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن السبكي جعل الإجماع على أي أمر كان، وهذا يشمل الشرعي وغيره، وجمعا بين كل هذه التعريفات يكون الإجماع: "اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في عصر من الأعصار على حكم شرعي"([6]).
أقسام الإجماع
ينقسم الإجماع من جهة تصريح المجتهدين بالحكم إلى قسمين:
١ -الإجماع الصريح: وهو ما صرح فيه أهل الإجماع بالحكم قولاً أو فعلاً.
٢ -الإجماع السكوتي: وهو أن يصرح بعض المجتهدين بالحكم ويشتهر قوله، ويسكت الباقون عن إنكاره([7]).
حجية الإجماع
الإجماع أحد مصادر التشريع، وهو الدليل الثالث من أدلـة الـشرع، حيث يأتي بعد الكتاب والسنة، وعلى هذا مشى سلف الأمة وعلماؤها، وقد ذكر كثير من العلماء أن الإجماع الصريح دليـل قطعـي، ومـن هـؤلاء القاضي أبو يعلى([8])، وابن قدامة([9])، وإمام الحرمين الجويني([10])، والبزدوي([11])، وعبد العزيز البخاري في كشف الأسرار فقال: "والحاصل أن الإجماع الصريح حجة مقطوع بها عند عامـة المسلمين"([12]).
فلسفة الإجماع
الإجماع مسلكٌ متين راسخ من مسالك معرفة الوحي، أي معرفة المعاني والقيم والأحكام المتضمنة في نصوص كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو أقوى في رسوخه من ثبوت سند الحديث الواحد، ولذلك يقول الغزالي: "ففي بيان ترتيب الأدلة، فنقول: يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث عن الأدلة السمعية المُغيٍّرة، فينظر أول شيء في الإجماع، فإن وجد في المسألة إجماعاً ترك النظر في الكتاب والسنة، فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع يقبله، فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ؛ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ"([13]).
فمعنى الإجماع هو اتفاق المجتهدين على فهم معنى واحد لمسألة من المسائل الشرعية، التي تستند إلى كتاب وسنة، وهذا درع حصينة للشريعة تحميها من عبث العابثين، فالاستدلال بالإجماع ليس عند عدم وجود دليل من الكتاب والسنة، لأنه لا يمكن حصول إجماع إلا ويكون مستنداً على نص من الكتاب والسنة، قال الآمدي رحمه الله: "اتفق الكل على أن الأمة لا تجتمع على الحكم إلا عن مأخذ ومستنَدٍ يوجب اجتماعها"([14])، وقد يخفى مستند الإجماع، فيعتمد عليه في تقرير المسألة، لا لأن الإجماع بنفسه منشئ لحكم شرعي، لكن لأنه كاشف عن حكم الشرع في ذلك، فقد تخفى دلالة النص، أو يختلف فيها، فيستدل بالإجماع لبيان القطع في فهم نصوص الكتاب والسنة، فلا يتطرق خلاف في ثبوت النص، أو في فهمه ودلالته، لأنّ الإجماع يدل على أنّ النص ثابت، وأنّ فهم العلماء للنص بهذه الصورة لا يقبل صورة أخرى، فهو استدلال متمم ومعزز للاستدلال بالأصلين.
والإجماع تعبير عن التواصل الإنساني الذي تتميّز به حضارتنا الإسلامية، فهي ليست حضارة نصّ أو أفكار منقطعة، وإنما بناء فكري حضاري يعتمد على السند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة، وعلى تواصل العلماء في كل زمان من جهة أخرى، والأئمة الكبار لم يجدوا كتاب الله وكتب الحديث فجأة فبنوا عليها فقههم، بل نجد أنّ نشأة الفقه كانت قبل ومع كتابة الحديث وتدوين السنّة، فهو صيرورة متواصلة من جيل إلى جيل.
حكم خرق الإجماع
في حال اختلف العلماء في مسألة على قولين، فهو إجماع منهم على أن هذه المسألة لا تخرج عن هذين القولين، فما حكم إحداث قول ثالث؟ فذهب الجمهور إلى منعه بخلاف بعض الحنفية([15])، يقول الرازي: "والحق أن إحداث القول الثالث إما أن يلزم منه الخروج عما أجمعوا عليه، أو لا يلزم، فإن كان الأول لم يجز إحداث القول الثالث، مثاله: الأمة اختلفت في الجد مع الأخ على قولين، منهم من جعل المال كله للجد، ومنهم من قال: إنه يقاسم الأخ، فالقول الثالث وهو: صرف المال كله إلى الأخ، غير جائز؛ لأن أهل العصر الأول القائلين بالقولين الأولين اتفقوا على أن للجد قسطاً، وأما الثاني فإن إحداث القول الثالث فيه جائز؛ لأن المحذور مخالفة الإجماع أو القول بما يلزم منه مخالفته، فأما إذا لم يكن إحداث القول كذلك وجب جوازه"([16]).
وقد بين الزركشي رأي الشافعي في هذا الفرع بقوله: "وإنما منعه؛ لأن في إحداث قول ثالث رفعاً للإجماع، وأما حيث لا رفع فتصرفه يقتضي جوازه"([17]).
فالحاصل إن إحداث قول ثالث يرفع الإجماع أمر غير جائز، وهو خرق للإجماع، وأما إذا كان هذا القول لا يرفع الإجماع، ففيه خلاف عند العلماء([18]). ولذلك فإنه لا يجوز خرق ما أجمع عليه العلماء والتشكيك بفهمهم، لأن ذلك فتح لباب التشكيك بالثوابت وإنزال القناعات الشخصية منزلة الفهم الصحيح للنصوص، من ذلك قول القائل بأن حجاب المرأة المسلمة ليس بواجب وإنما هو من قبيل العادات، وأن عورة الرجل والمرأة متغيرة حسب الزمان والمكان، وهي خاضعة لقانون العرف لا الشرع، وجواز ظهور المرأة عارية تماما بقصد وبغير قصد أمام محارمها المذكورين في قوله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون) [النور:31]([19])، دون الالتفات إلى إجماع الأمة على خلاف ذلك، وأنه معلوم من الدين بالضرورة، والقول بحرمة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، دون النظر إلى إجماع العلماء على وجوب محبته صلى الله عليه وسلم، ووجوب التعريف بسيرته وشمائله وفضائله وخصائصه ودلائل نبوته، بكل وسيلة لا تخالف الشرع الحنيف، وحيث إن طرائق التعبير عن المحبة وأساليب التعريف به صلى الله عليه وسلم غير متناهية، وتختلف باختلاف الزمان والمكان، فإن كانت الوسيلة غير مخالفة للشرع، وإن لم تُفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لا يجوز القول بحرمتها وخرق إجماع العلماء.
فيتضح لنا أن إجماع العلماء على فهم النص الشرعي مظهر من مظاهر حفظ الله تعالى لهذا الدين، فهو الحصن الحصين والدرع المتين الذي يحفظ الشرع الحنيف من عبث العابثين، وتحريف الغالينَ وانتحال المبطلينَ وتأويل الجاهلينَ، ليبقى الدين على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكبها إلا ضال. والحمد لله رب العالمين