كيف يذكرنا الحج بيوم الحساب؟ - د. راغب السرجاني

 إننا نتذكّر يوم الحساب من أوّل خطوة نخطوها نحو الحج... فيحرص المسلم على جمع المال الذي يريد أن يؤدي به الحج من الحلال، ويدفع هذه المبالغ الكبيرة: عشرة آلاف أو خمسة عشر.. أو عشرين ألفًا! وأكثر من ذلك أحيانًا، ومع هذا كله يدفع المسلم هذه المبالغ وهو في غاية السعادة والسرور!! لماذا؟ لأنه سيؤدي فريضة الله سبحانه وتعالى.. ثم يسترضي كل من يعرفهم ، ويعتذر لمن أساء إليه، ويؤدي ما عليه من ديون، وكأنه بذلك يستعد تمامًا ليوم الحساب.. يجمع أهله.. فيوصيهم، وينصحهم، ويدلهم على ما يفعلونه أثناء غيابه... والناس يودِّعونه قبل سفره.. أفواج كبيرة تودع الحجاج.. تُذكره، وتُذكر الناس جميعًا أن هناك يومًا سيخرج المرء فيه بلا عودة!! "كل نفسٍ ذائقة الموت" ولكن أحدًا لن يرجع بعد موته.

حتى ملابس الحج بالنسبة للرجل تذكِّره.. وتذكِّر الناس جميعًا بيوم القيامة؛ ففوق ما فيها من شَبَهٍ بالكفن، ترى أن بعض جسد الحاج يتعرى؛ ينكشف كتف الحاج لكي يتذكر الناس جميعًا العُرْيَ التام يوم القيامة، وهذا يذكرنا بالصورة التي نكون عليها يوم الحساب... روى البخاري ومسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.. يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟! فَقَالَ: الأمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ».
 
وفي الحج يعيش الناس جوًّا أشبه ما يكون بيوم القيامة، الكلُّ يشعر بهذا المعنى، والأمة كلها تعيش هذه المعاني مع الحجيج، الناس جميعًا يتركون الدنيا وراء ظهورهم، ولا ينشغلون بغير الذكر والدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله عز وجل، والناس جميعًا واقفون في زحام شديد، وفي مكان واحد، وهكذا يُحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد، وينادي عليهم المنادي: هلمُّوا إلى ربكم.. هلُمُّوا إلى ربكم.. فيقوم الناس جميعًا لربّ العالمين: "يومئذٍ يتَّبِعون الداعي لا عوج له، وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا".. كلّ الناس في الحج وقوف، وكل الناس يوم القيامة وقوف أيضًا: "وقِفُوهم.. إنهم مسؤولون"! الناس في الحج في حرٍّ وعرق، وكذلك يوم القيامة يعرق الناس حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، كما في الحديث الصحيح، في البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعً، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ»!!
 
فالأمر إذن ليس ساعة أو ساعتين.. لا.. الأمر شاق وطويل...
 
وإذا كان الحج هو العبادة الوحيدة التي يفرّغ لها المسلم أيامًا متتالية، فكذلك يوم القيامة يوم طويل: "إنا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرًا".. وكما جاء في بعض التفسيرات أن اليوم القمطرير هو اليوم الطويل، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "مائة سنة" أي أن يوم القيامة يساوي مائة سنة، وقال كعب: بل ثلاثمائة سنة، وقال غيرهم: خمسين ألف سنة!! والمؤكد أنه يوم طويل وعسير وصعب؛ فهو يحتاج إلى استعداد واهتمام كبيرين...
ومما يذكّر بيوم القيامة من مناسك الحج أيضًا السعي بين الصفا والمروة، ذهابًا وإيابًا، فيتذكر الناس السعي والحركة يوم القيامة: "يوم يَخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نصب يُوفضون"، ويتذكر الناس عند سعيهم بين الصفا والمروة سعيَهُم يوم القيامة بين الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله عز وجل؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام، فيردهم إلى نوح عليه السلام، فيردهم إلى إبراهيم عليه السلام، فيردهم إلى موسى عليه السلام، فيردهم إلى عيسى عليه السلام، فيردهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم...
 
وزيارة الحجاج لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن لم تكن من مناسك الحج - هي أيضًا تُذكِّرك بأن الله عز وجل سيجمعك يومًا ما مع الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، تسلّم عليه وعلى أصحابه... كما أن صلاتك في الروضة الشريفة (وهي من رياض الجنة) تضعك في هذا الجوّ الرائع الذي يُخْرِجُك من جوّ الدنيا تمامًّا، ويجعلك تعيش في جوّ الآخرة...
 
إن كل من يحج بيت الله الحرام يشعر بكل هذه المعاني.. بل ويقصّها على كل من يلقى من الأهل والأحباب، ومهما بلغ الجهد والتعب وبذل المال في هذه الرحلة العظيمة، إلا أن الجميع يتمنى لو عاد مرة أخرى للحج.. لو عاد مرة أخرى للبيت الحرام.. لو عاد مرة أخرى لعرفات... يتمنى لو عاد مرة أخرى لزيارة الحبيب صلى الله عليه وسلم...
 
تعيش الأمة كلها هذه المعاني العظيمة التي تُذكِّر بيوم القيامة في كل عام مرة، لتتذكر يوم القيامة الذي ستعيشه بحقيقته بعد ذلك...
 
وإذا عاشت الأمة وتذكرت يوم القيامة على هذا النحو.. كيف سيكون حالها؟ وكيف سيكون وضعها بين الأمم؟
 
بعد كل ما رأينا من العلاقة بين الحج ويوم القيامة؛ نستطيع أن نفهم ونتدبر لماذا بدأ الله تعالى سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ"..
 
ليس في القرآن شيءٌ عشوائيٌ على الإطلاق؛ فكل كلمة وكل حرف نزل بحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى: "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً"..
 
ولقد كنت أعجب كثيرًا عندما أقرأ سورة الحج وأتساءل: لماذا بدأ الله عز وجل سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة بدلاً من التذكير بأهمية الحج؟! لكن بعد تدبر هذا المعنى العظيم - وهو أن الله عز وجل جعل الحج تذكيرًا للناس بيوم القيامة - تلاشى هذا العجب..
 
فليس الهدف من الحج -إذن- إرهاق الناس وتكليفهم فوق طاقتهم: "ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ".. ولكن الهدف هو تحقيق المنفعة للناس في الدنيا والآخرة.
لو تذكرنا يوم القيامة ستصبح حياتنا كلها آمنة ومستقرة بل وحياة الأرض كلها، وسوف يتحقق لنا الخير في الآخرة...
نسأل الله عز وجل أن يتقبل من الحجاج حجَّهم.. وأن يكتب الحج لمن لم يحج.. وأن يفقِّهنا جميعًا في سننه.. وأن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.