القدس في عيون المسلمين .. سماحة المفتي العام الشيخ عبد الكريم الخصاونة

العلاقة بين المسلمين والمسجد الأقصى علاقة دينية، فهو مسرى رسول الله صلى الله على وسلم ومكان عروجه إلى السموات العلا، وأولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، ومكان مبارك تضاعف فيه الحسنات، الركعة في المسجد الأقصى بخمسمائة ركعة، وما حوله من الأرض مبارك أيضاً كونه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة الأطهار (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) الإسراء/ 1، وفي القدس الشريف وأكنافه ستبقى أمة على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة.
 
هذه المكانة المقدسة المباركة للمسجد الأقصى هي مكانة دينية استقرت في قلوب المسلمين فأصبحت جزءاً من عقيدتهم، لاسيما وهم يقرؤون في الصباح والمساء قول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) الإسراء/1، فإذا رأيت من زلت قدمه في المعاصي أو تباطأ في الأعمال الصالحة، أو ارتكب شيئاً من الآثام، أو كتب ما يؤلم، ويدمي القلب، وكأنه يعيش بعيداً عن الدين، إضافة إلى الواقع المُرِّ والحزين الذي تعيشه الأمة الإسلامية، فإن الأمل موجود والخير متوقع، ولا نيأس أبداً، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فكم من إنسان أصبح عاصياً وأمسى طائعاً، وما علينا إلا أن ندعو للجميع بالخير والرشاد وسلامة القلب، وأما الدعاء بالويل والثبور فلا يزيد الطين إلا بلة، وشتان ما بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالكلمة الطيبة صدقة.
 
وفي هذه الظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، يوصي الله تعالى عباده بطاعة الله ورسوله في جميع أقوالهم وأفعالهم ونهى عن مخالفة أمرهما في شيء، وحذّر الله عز وجل من الاختلاف والتنازع؛ لأنه يضعف الأمة ويدخل عليها الوهن والخور قال الله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) الأنفال/ 46.
 
ولما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وترك أحب البلاد إلى الله تعالى وأحب البلاد إلى رسول الله، فكان أول خطوة قام بها في سبيل وحدة المسلمين هو بناء المسجد، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، فألف بين قلوبهم رغم ما كان بينهم من العداوة والبغضاء، فأبدلهم بالعداوة حباً، وبالتباعد قرباً، قال الله تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) الأنفال/ 63، قال القرطبي: وكان تأليف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته؛ لأن أحدهم كان يُلطم اللطمة فيقاتل عليها، وكانوا أشد خلقه حمية، فألف الله بينهم بالإيمان.
 
فالاعتداءات البشعة والهمجية المتتالية على الشعب الفلسطيني، والقتل والتشريد ومنعهم من الصلاة في المسجد الأقصى، إرهاصات سيتبعها خير إن شاء الله تعالى؛ لأن الله عز وجل يقول: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم) البقرة/ 114، ففي الآية الكريمة استنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك، أي لا أحد أظلم ممن منع الناس من عبادة الله في بيوت الله، وعمل لخرابها بالهدم.
 
فما يجري في المسجد الأقصى المبارك وأرض المقدس الشريف من قبل العدو الصهيوني إنما هو أظلم عمل تفعله البشرية، يسعى للفساد والدمار والتنكيل والتشريد والقتل، وتحدّ للأمة كلها مسلميها ومسيحييها؛ باعتدائها على المسجد الأقصى الذي هو جزء من عقيدتها، وسيبقى حب ثالث الحرمين الشريفين مستقراً في شغاف قلوب المسلمين، وتبقى القلوب أيضاً تنبض بحب الأرض المقدسة التي لن تنسى أبداً.
 
فالمسجد الأقصى رمز ديني لا يمكن أن ينسى مهما كثرت المحن واشتدت الفتن وكثر الهرج، فالأقصى سيبقى حياً في قلوب المسلمين، وتحريره من أولويات أعمالهم، وما تقدمه القيادة الهاشمية المباركة من دعم مادي ومعنوي لرعاية المسجد الأقصى المبارك وقبة الصخرة، ورعاية المقدسات الدينية في القدس الشريف، وتأمين جميع المتطلبات اللازمة لأبناء الشعب الفلسطيني الصامدين في مدينة القدس الشريف، لتعزيز ثباتهم على أرضهم وصمودهم وتصديهم للتحديات التي تواجههم، إضافة إلى تأمين الحراسة للمسجد الأقصى المبارك.
 
ومواقف جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين يحفظه الله في إبراز القضية الفلسطينية وأهميتها وأولويتها في المحافل والمؤتمرات الدولية والاجتماعات المحلية ظاهرة واضحة لا يخفى منها خافية، فعين جلالته على القدس دائمة لن تنام.
 
بل وهمُّ جلالته الأول وشغله الشاغل هو تحريك الضمير الإنساني، وبيان الحق في القضية الفلسطينية من أجل قبول الحل العادل والشامل.
 
اللهم احفظ المسجد الأقصى من كيد الحاقدين، وحرره من اليهود المغتصبين. آمين.