درهم وقاية خير من قنطار علاج - احمد المحمدي

 مقولة نرددها كثيرا في واقعنا وربما نؤمن بها كذلك، ونطبقها في مجال الصحة والطب، بيد أن الاقتصار في مفهومها على الطب وحصرها تلك الفائدة فيه أمر يحتاج إلى توقف، ذلك أن الوقاية ليست مختصة بالأجساد والأبدان فقط، بل يتعدى ذلك ليشمل جوانب الحياة كاملة.

 
الوقاية تشتمل على معنى الصيانة والحماية، فهي حفظ ورعاية، وستر وحماية، مأخوذة من: وقاه من الشيء إذا صانه، ووقيت الشيء إذا حفظته وسلمته من الأذى، كما قال الله جل وعلا: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وعليه فإن مفهوم الوقاية يتسع ليشمل الأبدان والقلوب والعقول، لأنه ما الفائدة إذا صحت الأبدان وضلت العقول؟ وما الفائدة إذا سلمت الأجساد وزاغت القلوب؟ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان، ومرض القلوب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما مذكور في القرآن.
 
وينبغي أن نعلم أن الوقاية تقوم على أمرين اثنين مهمين: أولهما التقوية، وهي التي تماثل في الطب التغذية، والثاني: الحماية، وهي عند أهل الطب الحمية. فإنه لابد أولاً من أسباب قوة توفر لهذه الذات قوة في الجوانب المختلفة، ثم نحافظ على هذه القوة التي أنشأناها بذلك الغذاء بأن نحميها من العوارض والأسباب التي تنقص تلك القوة أو التي تضعفها، وهذا بنية الإسلام في التعامل مع النفس البشرية، فهو منهج يقوي الإنسان بإيمانه وإسلامه ويقينه بالله عز وجل، وفيه زكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورشد عقله، وحسن قوله، وصلاح عمله، فإذا كان هذا النموذج الإيماني القرآني النبوي قد حرصنا على حفظه، فبعد ذلك إذا بقيت له هذه القوة في إيمانه وخلقه وقوله وعمله، فنقول له: احذر كذا وكذا، وانتبه من كذا وكذا، ولا تفعل كذا لأنه يؤدي إلى كذا، فتجيء الشرائع كأنما هي سياج أمني حافظ لتلك القوة أن يصيبها ضرر، وكأنما هي خطوط أولية للدفاع عن التي تليها؛ حتى يبقى المؤمن في حصن من إيمانه، وفي سياج من إسلامه، وفي قوة من يقينه بإذن الله سبحانه وتعالى.
 
والمتأمل في القرآن يجد من النماذج الدالة على ذلك في كافة المجالات ولنضرب على ذلك عدة أمثلة في المجال العقدي والأخلاقي والاجتماعي ليتضح المفهوم ويتجلى:
 
أولا: المنهج الوقائي في العقيدة:
 
يقوم المنهج الوقائي في العقيدة على التقوية وإقامة للحجة وإظهار للبرهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وعلى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وعلى قضايا الإيمان كلها: من الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب والصحف وما يكون في اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. وكل ذلك مبسوط في آيات القرآن، كقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19]، وقوله: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء:22]، وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]. وآيات كثيرة في إثبات البعث الذي ينكره المنكرون، ويعترضون عليه لضعف عقولهم، فيأتينا القرآن بأمثلة وقصص وإثباتات كثيرة، كقوله سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78 — 79]، وأمثلة يضربها الله عز وجل في الحياة التي تبعث في البذرة الصماء حتى تكون نباتاً يزهر ويثمر.. إلى غير ذلك. ثم يأتي جانب الحماية والتحذير والوقاية بعد هذا البناء الذي قام على أسس راسخة من الأدلة الظاهرة والحجج القاطعة؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، ويأتي التحذير أيضاً في آيات أخرى كقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [الإسراء:22]،
 
ثانيا: المنهج الوقائي في الأخلاق:
 
وبمثل ما اتسم به المنهج الوقائي في العقيدة نجده بارزا في الأخلاق، فتأتي الوقاية الأخلاقية من الأمراض والعلل الأخلاقية والتي منها وتأتينا الوقاية النفسية من أمراض كثيرة وعلل عديدة من أهمها: شح النفس وأمراض القلب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. وتأتي التحذر المرء من الفواحش والفتن، قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، وقال جل في علاه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، والتعبير القرآني بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا) يعني: لا تفعلوه ولا تقربوا منه، أي: لا تفعلوا ما يؤدي إليه أو يقرب منه، فالنهي أعظم وأشمل، والوقاية أتم وأكمل. ولعلنا نكمل إن شاء الله في المقال القادم.




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة