إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
اما بعد: فقد علمنا النبي : ان الأوطان لا تقدر بأثمان – وانها قد جبلت على حبها النفوس كما جبلت على حب الآباء والابناء , وان الوطن الذي يهاجر المرء اليه ويأمن به على نفسه واهله وماله يصبح وطنه ايظا كوطنه الذي هجر منه تماما – بل واشد .
فقد اخرج البخاري في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها - قالت : أن النبي لما نزل عليه الوحي في الغار رجع إلى خديجة - رضي الله عنها- ترجف بوادره , فقال : زملوني زملوني , فزملوه حتى ذهب عنه الروع , فانطلقت به إلى قريبها ورقة بن نوفل وقد تنصر في الجاهلية وعنده شيء من العلم , فقالت له خديجة : أي عم - اسمع من ابن أخيك , فقال ورقة بن نوفل : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله خبر ما رآه فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى - عليه السلام - يا ليتني فيها جذعا , يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك , فقال رسول : أو مخرجي هم ؟! قال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ) – والشاهد من الحديث قوله : (أو مخرجي هم )؟ - استنكر أن يخرجوه من وطنه - مسقط رأسه , ومهد الصبا ومدرج الخطا ، موطن اباءه واجداده , لذلك قال مستنكرا ومتعجبا : ( أو مخرجي هم )؟, لسان حاله يقول : كيف يخرجوني من وطني الذي ملأ قلبي ووجداني عشقه , وهل للمرء عيش في غير وطنه وقرة عينه ؟! , وحق له ذلك .
فقد اقترن الله – جلا في علاه - في كتابه حب الأوطان بحب النفس، قال جلا جلاله : { وَلو أَنَّا كَتَبنَا عَليهم أَن اقْتلوا أَنفسَكُم أَو اخرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلوهُ إِلا قَلِيلٌ مِّنهُم } , لذلك استنكر الأمر وحزن ان قومه سيخرجونه , فليس للمرء هناءا ولا سعادة الا في وطنه .
يقول ابن عباس : لما أخرج النبي من وطنه مكة وقف ينظر اليها وهو يقول : (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك) - وفي رواية قال : ( لولا أن اهلك أخرجوني منك ما خرجت ) – فكانت مكة شرفها الله موطنه الذي عشقه , وظل شوقه وحنينه اليها بعد ان هجر عنها - حنين وشوق الأوطان التي جبِلت عليه النفوس .
وقد جاء في حديث أصيْل الْغفاري أَنه قَدم من مكة ، فَسألته عائشة كيف تركت مكة يا أصيل ؟ فقال تركتها حين ابيضّت أَباطحها ، وأحجن ثمامها ، وأَغدق إذخرها ، وأَمشر سلمها ، فَاغرورقَت عينا رسول اللهِ وقال :(لا تشوقنا يَا أصيل دع القلوب تقر ) , ولما استوطن في المدينة المنورة وعاش فيها وقتا طويلا واكل من ثمارها وشرب من مائها وتنفس من هوائها , واحب اهلها واحبوه قال عنها - كما روت عائشة – رضي الله عنها - :( اللهم حبب الينا المدينة كما حببت مكة او اشد , وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها ), فاصبحت المدينة موطنه الثاني وعشقها كعشق مكة واشد , لما وجد فيها الأمن والطمأنينة , وأصبح يحب أرضها وجبالها وشجرها .
يقول أَنسِ بنِ مالك أَن رسول الله نظر الى جبل أحد – وجبل احد كما هو معلوم في المدينة - فَقال:(هذا جبل يحبنا ونحبه , اللهم إِن إِبراهيم حرم مكة وإِني حرمت ما بين لابتيها ) – أي حرمت ما بين جبليها , وفي هذه اشارة نبوية واضحة بينة عظيمة بأن الانسان اذا هاجر الى وطن ليس بوطنه – بلد ليس ببلده – بعدما افتقد الأمن والأمان في وطنه – مسقط رأسه , فان هذا الوطن الجديد الذي هاجر اليه وأمتن الله عليه فيه وأمن واطمأن على نفسه وأهله وعرضه وماله , يصبح وطنه ايظا ويعشقه ويحبه كحبه لوطنه واشد – بل ويدافع عنه بنفسه وماله , فقد حباه الله وانعم عليه بهذه النعمة التي تستحق الشكر , والواجب عليه ان يشكر ربه حينما من عليه ببلد آمن و مستقر خاصة في تلك الأزمان التي أصبح الأمن فيها مفقودا في كثير من الاوطان , واخوتنا الذين هجروا ونزحوا الينا من بلادهم – منذ بدء فتنة ما يسمى بالربيع العربي – المشؤوم !! عليهم ان يستشعروا هذا التوجيه النبوي وان يحفظوا العهد والميثاق بان لا يندس بينهم مغرض ومفتن ومخرب , فأمنهم من امننا واستقرارهم من استقرارنا , وقد اقتسمنا معهم لقمة العيش وشربة الماء وحبة الدواء ونسمة الهواء – لا لشيء الا لان الله – سبحانه قال : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ )), فعلى إخوتنا أن يدرؤون عنا وعنهم كل عداء وداء وهذا اقل الجزاء , اللهم امنا في أوطاننا , وادم علينا نعمتك , ووفق ملك البلاد لما فيه خير البلاد والعباد .