مميزات المنهج النبوي -د. سمير الأبارة

حينما نتكلم عن المنهاج النبوي فإننا نتكلم عن مصطلح قرآني بامتياز ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48] [1]أي: طريقاً واضحاً في الدين، تجرون عليه[2]، ولو أنه اقتحم بقوة مجال التداول في العصر الحاضر باعتباره الناظم والمحدد لمجالات وطرق التفكير العقلاني، والمنهاج النبوي الذي رسم معالمه الوحي الرباني، وحدد وظائفه ومقاصده محمد صلى الله عليه وسلم باعتباره المبلِّغ عن الله ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4] [3]أي: وحي من الله يوحى إليه[4].
 
ويتميز عن غيره من المناهج بسمات ثلاث هي:
أولاً: مرجعيته الربانية التي هي سر شموليته وتكامله وانسجامه ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82] يقول تعالى آمراً عباده بتدبر القرآن، وناهيا لهم عن الإعراض عنه، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، ومخبرا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب، ولا تضاد ولا تعارض؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق؛ لو كان مفتعلاً مختلقاً، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ﴿ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ أي: اضطراباً وتضاداً كثيراً. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله[5].
 
ثانياً: تحقيقه لمصالح العباد الآجلة والعاجلة فالله هو ولي المؤمنين ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [فصلت: 31] [6]أي تقول لهم الملائكة الذين تتنزل عليهم بالبشارة" نحن أولياؤكم" قال مجاهد: أي نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا لا نفارقكم حتى ندخلكم الجنة. وقال السدي: أي نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. ويجوز أن يكون هذا من قول الله تعالى، والله ولي المؤمنين ومولاهم.
 
ثالثاً: صلاحيته لكل زمان ومكان لمرونة قواعده، وشمولية مقاصده، وشرف ونبل وسائله، ويعني المنهاج النبوي ما يطلق عليه في المصطلح القرآني "الصراط المستقيم" وفي المصطلح النبوي "المحجة البيضاء"، ونظرا لما تتميز به ملامح العبقرية في هذا المنهاج، وصلاحيته لتنقية السلوك الإنساني من شوائب التعصب والتحجر، وغوائل الانفلات والتحلل، ولما تتميز به من طرافة وجدة ورصانة وتأصيل.
 
وبما أن معرفة حقيقة المنهاج النبوي لا تتم إلا من خلال استيعاب وظائفه ومقاصده، ونظرا لتشعب الموضوع وعمق واتساع مجالاته فسأشير إلى بعض النقاط الدالة من وظائف ومقاصد المنهاج النبوي فما هي هذه الوظائف؟ إن من أهم هذه الوظائف:
أولاً: تهيئة المسلم لاقتحام العقبة قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ [البلد: 11] [7]أي فهلا أنفق ماله الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن! والاقتحام: الرمي بالنفس في شي من غير روية[8]، وأفلح وفاز من اجتازها متحديا سلطان الجسد، وما تميل إليه النفس من ملذات ومتع غالبا ما تغوي من أخلد إلى الأرض واتبع هواه، واقتحمها الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم.
 
ثانياً: تجسيد القيم الخلقية في سلوك عملي، فقد بعدت الشقة، ما بين الدين والتدين، وقد تنبه لهذا الواقع عبد الله بن عمر حين لاحظ أن البعض يقرأ القرآن "ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه فينثره نثر الدقل".[9]
 
ثالثاً: التخلق بخلق الصبر والتواصي به وبالحق فعباد الرحمن نالوا الجزاء السني والمقام العلي بالصبر ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الفرقان: 75] [10] وتحية الملائكة لهم كانت بسبب الصبر يعنى أن الملائكة يحيونهم ويسلمون عليهم. أو يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه أو يعطون التبقية والتخليد مع السلامة عن كل آفة[11]. كما جاء في آية أخرى: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24] [12] وهذا يتضمن معنى الإيناس بإقراء السلام، فإقراء السلام في ذاته إيناس، وفيه مع ذلك بث الاطمئنان وطيب الإقامة، وذلك بسبب الصبر، أي بسبب صبركم في الجهاد، وصبركم على الطاعات وتجنب الشهوات، وصبركم على تحمل المكاره، وصبركم على البعد عن الأحبة[13].
 
رابعا: تحرير المسلم من عجمة اللسان والعقل والقلب لأن هذه العجمة تمنعه من استيعاب الخطاب الشرعي واستجلاء مكامن عبقريته، ومظاهره الجمالية الفريدة فلا مجال لاستيعاب النص القرآني إلا من خلال معرفة اللغة العربية، وقد استحضر قول أبي عمر بن العلاء لعمر بن عبيد[14]: "ويحك يا عمرو من العجمة أتيت".
 
خامسا: تحقيق معاني الإيمان في القلوب وشعب الإيمان في السلوك من خلال بناء المؤمن فالشاهد بالقسط القائم لله، هو المؤمن القوي الأمين الثابت في رباطه لا يتزعزع عن خط سيره مهما كانت العقبات، هو المجاهد الذي لا ينكشف عن الصف إن هرب الناس، ولا يقعقع له بالشنان"[15]، هو الذي يتولى المؤمنين، ولا تكون الموالاة إلا عن حب، كما لا تكون المعاداة إلا عن بغض، قال تعالى ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 81] [16] أي: لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه ﴿ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ أي: خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله[17].
 
تتعدد المقاصد الشرعية في نظرية المنهاج النبوي،، وجلي أن أي مقاصد شرعية لا بد أن تتصدرها الكليات التي اتفقت عليها الشرائع وهي: حفظ "الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، المبني حفظها وجودًا في جلب المصالح وتكثيرها؛ فكل طاعة ترجع إليها، وعدمًا في درء المفاسد وتقليلها؛ فكل مخالفة خارجة عنها، وذاك في أصنافها الثلاثة: "الضروريات"، و"الحاجيات"، و"التحسينيات....وأجمع آية لها في كتاب الله تعالى قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90] [18] ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ﴾ أي فيما نزله تبيانا لكل شيء بِالْعَدْلِ وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم. وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه ﴿ وَالْإِحْسانِ ﴾ أي التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه، والشر بأن يعفو عنه ﴿ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ﴾ أي إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه ﴿ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ ﴾ أي عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها كالزنى ﴿ وَالْمُنْكَرِ ﴾ أي كل ما أنكره الشرع ﴿ وَالْبَغْيِ ﴾ أي العدوان على الناس ﴿ يَعِظُكُمْ ﴾ أي بما يأمركم وينهاكم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ أي تتّعظون بمواعظ الله، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى[19].
 
ويقول الشاطبي[20] إن الكليات "هي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات، وما هو مكمل لها ومتمم لأطرافها، وهي أصول الشريعة، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها، وسائر الفروع مستندة إليها"[21] والمقاصد الجزئية المندرجة تحت هذه الكليات وجدت ما تستحق من دراسة وتمحيص في كتب الشيخ ورسائله ومن هذه المقاصد:
• تعبيد الإنسان لله رب العالمين وتحريره من سيطرة النزعة المادية التي فشلت في تحقيق الأمن والطمأنينة فالمجتمع المادي يعانى الفراغ القاتل والخواء الروحي، والمقصد الأسمى للمسلم أن تكون حياته ومماته لله رب العالمين ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162] [22] أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها وهو الله تعالى[23].
 
• تحرير العقل والإرادة فما لم يتحرر العقل من إساره لا سبيل إلى تحقيق القومة، وبناء الجماعة المسلمة المتماسكة، وتحرير العقل المسلم من آثار الغزو المترسبة فينا " ضروري لنعلم أن تخلفنا في العلوم والصناعات والقوة وضروريات الحياة ناتج عن تخلفنا عن الإسلام وتخلينا عن القرآن. لا العكس.."[24] لنعود إلي فضاء الوحدة الجامعة في دولة عتيدة لا شرقية ولا غربية، تعيش بالإسلام وللإسلام.
 
• عمران العدل والإحسان: فدوحة العدل في الإسلام وارفة الظلال يعيش في مرحمتها المسلم وغيره بكرامة وعدل، وهي المرحمة التي جعلت عمر رضي الله يقول لما مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد: "ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك، ثم ضيعناك في كبرك" ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه[25] وجعله يقول حين أوتي بمال كثير من الجزية،: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس، قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا، قال: بلا سوط ولا نوط؟[26] قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي، ولا في سلطاني[27].
 
• التحرر من وصمة الجاهلية الحديثة والجاهلية وردت في القرآن الكريم مرتبطة بالعصبية والحمية، وهي مشتقة من الجهل، ولها دلالتان مختلفتان ذكرهما الشيخ هما: أولا الجهل الذي هو ضد المعرفة، فهذه الجاهلية لا تعرف الله تعالى، والجهل ضد الحلم وهو العنف و"من سمات الجاهلية تفضيل الرأي البشري على الوحي، والزيغ عن الشرعة الإسلامية والمنهاج، إلى شرعة المصالح ومنهاج الشهوة، وابتغاء الفتنة"[28] والمنهاج النبوي هو الذي يحرر الإنسان ويعصمه من أن يظن بالله غير الحق ظن الجاهلية، ويعصمه من حكم الجاهلية ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50] [29] أيريد هؤلاء اليهود أن تحكم بينهم بما تعارف عليه المشركون عبدةُ الأوثان من الضلالات والجهالات؟! لا يكون ذلك ولا يليق أبدًا ومَن أعدل مِن الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به، وأيقن أن حكم الله هو الحق؟[30].
 
• إخضاع واقع المجتمع المسلم لمقتضيات النص الشرعي، مع التفريق بين التحريف والانحراف: فقد أخطا كثير من الدارسين الذين قاموا بإسقاط واقع المسيحيين ومنهج الكنيسة في التعامل مع المستجدات على واقع المسلمين، وفاتهم أن ما يعاني منه المسيحيون هو التحريف الذي أصاب النص المقدس لديهم، أما المسلمون فإنهم يعانون من الانحراف الناشئ عن الهزات العنيفة التي عركتهم بكلكلها، فعاشوا قرونا عديدة تحت رحمة ملك عضوض صادر حقوقهم وحرياتهم ولم يراع فيهم إلا ولا ذمة، وأمام تغول الملك العاض وتخاذل النخب المسلمة ضاع حاضر ومستقبل أمة الإسلام في أتون صراع غير متكافئ، أهدرت فيه الحقوق وعطلت القدرات بل شلت ملكات الأمة في الخلق والإبداع.