النقد الحديثي بين الفقهاء والمحدِّثين - عبدالرزاق الصادقي

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد إمام النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن نقدَ الحديث ليس وليد فترة معينة لفتت الأنظار، ونُشرت حولها كثير من الأخبار، خاصة في عصر بعض الأئمة الأعلام؛ كالإمام ابن الصلاح، حتى قيل: في عهد ابن الصلاح، استقرَّ الاصطلاح، وهي مقولة تداولتها الألسن، منذ عهد ابن الصلاح إلى يومنا هذا، وهي وإن كانت تعبِّر عن المصطلح عمومًا، فإنها في طياتها تحمل اتجاهًا علميًّا يجعل المتأخر يغضُّ الطرف عن كل المراحل التي سبقت ابن الصلاح بأكثر من مائتي سنة، علمًا أن مرحلة ابن الصلاح لا تعبر عن الصورة الحقيقية لهذا العلم، فكم سبق ذلك الإمام من أئمة عظام! رفَعوا لهذا العلم دعائمه، وشيدوا معالمه، وبينوا الثقات والضابطين، كما بينوا الضعفاء والمجاهيل، فضلًا عن الكَذبة والوضَّاعين، ثم انفصل هذا العلم عند المتأخرين عن باقي العلوم، وصار مَن يتكلم في الفقه بمعزلٍ عن علم الحديث، ومن يتكلم في الحديث بمعزل عن الفقه، وصار للفقهاء طريقتهم الخاصة، وللمحدِّثين طريقتهم الخاصة كذلك، وأمسى لكل من المحدِّثين والفقهاء معايير وضوابط معينة في قبول الأحاديث أو ردها، فاقتضى هذا الأمرُ بيانَ معالمِ كلٍّ من الطريقتين، وذلك عن طريق بيان معايير كل منهما.
 
وقد دفَع بي إلى اختيار هذا الموضوع أهميتُه البالغة؛ فمحاولة الكلام فيه من النعم السابغة، طالما أن كثيرًا ممن تسلقوا أشجار هذا العلم لم يستظلوا بظلاله الوارفة، تلك التي استظل بها السابقون الأولون في هذا العلم؛ إذ الذين تكلَّموا في هذا العلم ثلةٌ من الأولين، وثلة من الآخرين.
 
وقد قسمت هذا الموضوع إلى مقدمة، وثلاثة مباحث.
 
المبحث الأول: معايير قَبول الحديث وردِّه عند علماء الحديث، وضمنتُه: مطلبين؛ الأول: معايير التصحيح والتحسين عند علماء الحديث، والثاني: معايير التضعيف عند علماء الحديث.
 
وأما المبحث الثاني فهو: معايير نقد الحديث عند الفقهاء، وقسمته أيضًا إلى مطلبين؛ الأول: شروط الأحناف، والثاني: شروط الجمهور.
 
وأما المبحث الثالث فهو نماذجُ تطبيقيةٌ من نقد المحدِّثين والفقهاء، وقد قسمته إلى مطلبين؛ الأول: نماذج تطبيقية من نقد المحدِّثين، والثاني: نماذج تطبيقية من نقد الفقهاء.
 
ثم ختمتُ بخاتمة ضمنتها بعض الخلاصات والاستنتاجات.
 
المبحث الأول: معايير قبول الحديث ورده عند علماء الحديث:
تميزت طريقةُ المحدِّثين عمَّن سواهم من الفقهاء والأصوليين في نقدِهم للأحاديث، وكلامهم عليها قبولًا أو ردًّا؛ إذ هم العمدةُ في هذا المجال، وعليهم المعوَّل فيه؛ نظرًا لكون علم الحديث أصلَ العلوم، بل مِن مَعِينه انبثقت وانفجرت كل العلوم؛ ولذلك كان علماءُ الحديث أشدَّ دقة وضبطًا مِن غيرهم في الكلام على الأحاديث، وأما غيرهم فإنهم يرجعون إلى أهل الحديث، وإن لم يرجعوا فإنهم يأتون بالعجائبِ، وقديمًا قيل: مَن تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب؛ لذلك اخترتُ أن أبدأ بطريقتهم في عرض الشروط التي يشترطونها في قبول الحديث، والعمل به.
 
المطلب الأول: معايير التصحيح والتحسين عند علماء الحديث:
تميَّزت أمةُ الإسلام بالأسانيد؛ إذ هي المرقاةُ إلى المتون، لكنهم لم يقفوا عند الأسانيد فحسب، بل تجاوزوها إلى المتون فنقدوها، وأوضحوا عِللها، وبينوا أوهامَ الثقات؛ لأن الثقة قد يهِمُ فيُدخل حديثًا في حديث، وقد يركِّبُ إسنادَ متنٍ لمتن آخر، إلى غير ذلك من الأوهام التي بينها صيارفةُ الحديث، ولم يكونوا يركنون إلى فضلِ الراوي وتقواه، وزهده وصلاحه؛ فقد جاء في سؤالات الحاكم للدارقطني:
عبدُالملك بن محمد بن عبدالله بن مسلم، أبو قلابة: قيل لنا: إنه كان مجابَ الدعوة، صدوقٌ، كثيرُ الخطأ في الأسانيد والمتون، لا يُحتجُّ بما ينفرد به، بلغني عن شيخنا أبي القاسم بن منيع أنه قال: عندي عن أبي قلابة عشَرة أجزاء، ما منها حديث سلِم منه، إما في الإسناد أو في المتن، كأنه يحدِّث من حفظه؛ فكثُرَتِ الأوهامُ منه[1].
 
وهنا سأذكر أهمَّ الشروط التي يقررها علماءُ الحديث في الحكم على الحديث بالصحة أو الحُسن.
 
شروط الصحيح:
اشترط المحدِّثون في اعتبار الحديث صحيحًا شروطًا خمسة، ومتى خالَف شرطًا منها عُدَّ مجانِبًا للصحة، وهذه الشروطُ يذكرها المتقدمون متناثرة هنا وهناك، لكنَّ المتأخِّرين منذ ابن الصلاح إلى يوم الناس هذا - يذكرونَها مجموعةً في مكان واحد بمعزلٍ عن الأحاديث، وهذه الشروط كالآتي:
 
1) اتصال السند:
يقول الإمام أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: (فأما الحديثُ المشهور المتصل الصحيحُ، فليس يقدِر أن يردَّه عليك أحد)[2].
 
وفي كلام الإمام أبي داود ما يدلُّ على اعتبار الاتصال شرطًا ضروريًّا في تصحيح الحديث، ولم يسِرْ أبو داود على طريقةِ ابن الصلاح ومَن نحا نحوه، في ذِكر هذا الشرط مستقلًّا عن غيره، بل بيَّن اشتراطه بقوله: فليس يقدِر أن يردَّه عليك أحد، وقد احترزوا باتصال السند عما فقده؛ كالانقطاع، والإعضال، والإرسال، يقول أبو عمرو بن الصلاح: (وفي هذه الأوصافِ: احترازٌ عن المرسَل، والمنقطِع، والمعضَل)[3]؛ فالمرسَل فقد شرط الاتصال؛ لأنه: ما رفعه التابعيُّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحذف الصحابي، وبذلك فُقد الاتصال، والمنقطع فقَدَ شرط الاتصال؛ لأنه ما سقط منه راوٍ فأكثَرَ، لا على التوالي، وبذلك عُدَّ غيرَ متصل، والمعضَل: ما سقَط منه اثنانِ فأكثر على التوالي، وهو أيضًا غيرُ متصل، فكلها إذًا لا تدخلُ في دائرة الصحيح.
 
 
2) عدالة الرواة:
والمقصود بذلك أن يكون كلُّ راوٍ مِن الرواة عدلًا، والعدالة - كما عرفها الجعبري -: (هيئة قارَّةٌ، تحملُ على اجتنابِ الكبائرِ، ولزوم الصغائر، وخوارم المروءة)[4]، فمتى اجتنب الراوي الكبائرَ، واتقى في الغالبِ الصغائرَ، واحترز عن خوارم المروءة، عُدَّ عدلًا، وقُبِل حديثُه، وقد ذكر العلماء هذا الشرط للاحتراز عن كل راوٍ لم يتَّسِم بالعدالة؛ كالفاسق، والمبتدع، وغيرهما.
 
3) ضبط الرواة:
والمقصود بذلك نوعانِ من الضبط، وهما: ضبطُ الصدر، وضبط الكتاب، فأما ضبطُ الصدر فهو أن يستطيع استحضارَ ما حفِظه صحيحًا متى شاء، وأما ضبط الكتاب فهو أن يصونَ كتابه عنده حتى يؤديَ منه كذلك، من غير تغيير ولا تبديل، "ويعرف الضبطُ بموافقة الثقاتِ غالبًا، واتساق نقلِه"[5]، فإن كان الراوي العدلُ ضعيفَ الضبط فلا بد حينئذ مِن متابِع أو شاهد، يقول الزركشي: (والعدل الضعيفُ الضبطِ تُقبَل روايته، لكن يحتاج إلى مُقوٍّ، فيُقبَل الحديث لعدالة راويه، لكن يتوقَّف فيه - لعدم ضبطه - على شاهدٍ متصل، يجبُرُ ما فات مِن صفة الضبط)[6].
 
4) عدم الشذوذ:
اشترط العلماءُ في قَبول الحديث ألا يكون شاذًّا، واختلفوا في المقصود بالشذوذ، هل هو انفراد الراوي بالحديث، أم هو مخالفة الثقةِ لغيره من الحفاظ، أم هو انفراد ثقة برواية الحديث؟
وقد فصل القولَ في ذلك الحافظُ أبو عمرو بن الصلاح، فقال ناسبًا القول الأول إلى الخليلي نقلًا عن الإمام الشافعي: (وحكى الحافظُ أبو يعلى الخليلي القزويني نحوَ هذا عن الشافعي وجماعةٍ من أهل الحجاز، ثم قال: الذي عليه حفَّاظ الحديث أن الشاذَّ ما ليس له إلا إسنادٌ واحدٌ، يشِذُّ بذلك شيخٌ، ثقةً كان أو غير ثقةٍ، فما كان عن غير ثقةٍ فمتروكٌ لا يُقبَل، وما كان عن ثقةٍ يتوقَّف فيه، ولا يحتج به)[7].
 
وقال في القول الثاني: (رُوِّينا عن يونس بن عبدالأعلى قال: قال الشافعي رضي الله عنه: "ليس الشاذُّ مِن الحديث أن يروي الثقةُ ما لا يروي غيره، إنما الشاذُّ أن يروي الثقة حديثًا يخالف ما روى الناس")[8].
 
وقال في القول الثالث: (وذكر الحاكمُ أبو عبدالله الحافظُ أن الشاذَّ هو الحديث الذي يتفرَّد به ثقةٌ من الثقات، وليس له أصلٌ بمتابعٍ لذلك الثقة، وذكر أنه يغاير المُعلَّل من حيث إن المُعلَّل وُقِف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذُّ لم يوقف فيه على علته كذلك)[9].
 
وقد رد ابنُ الصلاح ما نقله الخليليُّ وما رواه الحاكم، وقبِل ما ذكره الإمام الشافعي، فقال: (قلت: أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ، فلا إشكال في أنه شاذٌّ غير مقبولٍ، وأما ما حكيناه عن غيره فيشكِل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط؛ كحديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فإنه حديثٌ فردٌ، تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرد به عن عمرَ علقمةُ بن وقاصٍ، ثم عن علقمة محمدُ بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بنُ سعيدٍ على ما هو الصحيح عند أهل الحديث، وقد قال مسلم بن الحجَّاج: للزهريِّ نحوُ تسعين حرفًا يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها أحدٌ، بأسانيدَ جيادٍ)[10].
 
5) عدم العلة:
يُشترط في الحديث ألا يكونَ معلَّلًا، بألا تكون فيه علة قادحة، وهذا المجال هو مسرح الجهابذة مِن المحدِّثين، وأما الانقطاع والإعضال فيعرِفه كلُّ العلماء، وأما العِلل فلا يتفطن لها إلا أمثالُ ابن مهدي، وأبي زرعة، وغيرهما من صيارفة علم الحديث.
 
قال الحافظ ابن كثير: (وهو فنٌّ خَفِيَ على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفَّاظهم: معرفتُنا بهذا كهانةٌ عند الجاهل)[11].
 
والمقصود بالعلة: ما ذكره الحافظ زين الدين العراقي؛ حيث عرَّف العلة بقوله: "العلة عبارة عن أسباب خفية غامضة، طرأَتْ على الحديث فأثَّرت فيه؛ أي: قدحَتْ في صحتِه"[12].
 
وبهذا يتضح أن الحديثَ المعلَّل ليس صحيحًا؛ وذلك أن المعلَّل قد فقد شرطًا أساسيًّا مِن شروط الصحة، وبهذا الشرط نختم الشروطَ المتعلِّقة بتصحيح الحديث.
 
شروط الحسَن:
شروط الحديث الحسَن هي نفس شروط الصحيح، إلا في شرط واحد، وهو ضبط الرواة؛ فالحسَن لا يُشترط فيه تمام الضبط، بل يكفي في رواته أن يكونوا خفيفي الضبطِ، وقد عرَّف الحافظ ابن حجر الحسَن بأنه: ما اتصل سندُه، بنقل عدلٍ خفَّ ضبطُه، ولم يكُنْ شاذًّا، ولا معلَّلًا[13].
وبما ذُكر مِن شروط للصحيح والحسن تنجلي ضوابطُ التصحيح والتحسين عند علماء الحديث، كما يتبيَّن اختلاف المحدِّثين عن غيرهم من الفقهاء والأصوليين في معايير القبول للأحاديث.
 
المطلب الثاني: معايير التضعيف عند علماء الحديث:
وضَع علماء الحديث لتضعيف الحديث ضوابطَ متعددة، بها يُعرف سقيم الحديث، وهذه الضوابط هي التنصيصُ على ما يقدَح في رواة الحديث، ومتى وُجد قادحٌ من تلك القوادح عُدَّ الحديثُ ضعيفًا، وهذه القوادح تتنوع إلى ما يرتبط بالسَّقط في الإسناد، وما يرتبط بالطَّعن في الرواة، وقد بين المحدِّثون كلَّ ذلك.
القوادح المرتبطة بالسَّقط في الإسناد:
السَّقط في الإسناد على نوعين: إما أن يكون ظاهرًا، وإما أن يكون خفيًّا، ويدخل في الظاهر أنواعٌ هي مِن قَبيل الضعيف، وهي المرسَل والمنقطع، والمعضَل والمعلَّق، والفرق بين هذه الأنواع الأربعةِ أن المرسَل يكون السَّقط فيه من آخرِ السند، وأما المنقطع فهو ما سقَط منه راوٍ فأكثرَ، لا على التوالي، وأما المعضَل فهو ما سقَط منه راويانِ فأكثر على التوالي؛ يقول العراقي:
والمعضَل الساقطُ منه اثنانِ *** فصاعدًا ومنه قِسمٌ ثانِ
وأما المُعلَّق فهو ما كان السَّقط فيه مِن أصل السند.
وأما السَّقط الخفي "ولا يدركُه إلا الأئمةُ الحذَّاق المطَّلِعون على طرق الحديث، وعِلَل الأسانيد"[14] فيدخل فيه نوعانِ مِن أنواع الضعيف، وهما المُدلَّس، والمُرسَل الخفيُّ.
وكلُّ هذه الأنواع المذكورةِ لا يقبَلُها المُحدِّثون، بل هي عندهم مِن قَبيل المردود، وأما الفقهاءُ فإنهم يحتجُّون ببعضها؛ كالمرسَل.
 
القوادح المرتبطة بالطَّعن في الراوي:
الطَّعن في الراوي: إما أن يرجعَ إلى عدالته، وإما أن يرجعَ إلى ضبطه وحِفظه، والطعونُ التي يمكن أن توجَّه إلى الراوي مِن جهة عدالته خمسة، وهي:
• الكذب، فمتى وقَع الراوي في الكذبِ، فلا يُقبَل منه شيء، ولو صدر منه الكذب مرة واحدة، ويسمى حديثُه بالموضوع.
• التهمة بالكذب؛ فالمتَّهم بالكذب لا يُقبَل حديثه عند أهل الحديث، وحديثه يسمى عندهم بالمتروك، يقول ابن حجر في النزهة: (والقسم الثاني مِن أقسام المردود - وهو ما يكون بسبب تُهمة الراوي بالكذب -: هو المتروكُ)[15].
• فِسْق الراوي: فإذا كان الراوي فاسقًا، رُدَّ حديثُه عند المحدِّثين؛ لأن الفسقَ ينافي العدالة، ويسمى حديثُ الفاسق بالمنكَر؛ يقول ابن حجَر: "من ظهَر فِسقُه، فحديثه منكَر"[16].
 
جهالة الرواة:
إذا كان الراوي مجهولَ العين، فلا يُقبَل عند المحدِّثين؛ لأنه إذا لم تُعرَف عينُه، فكيف تُعرَف عدالته؟ ولذلك عدَّ العلماءُ هذا النوع من قَبيل الضعيف، وأما مجهول الحال ففيه خلاف بينهم، وهو الذي يسمُّونه بالمستور.
 
بدعة الرواة:
إذا كان الراوي مبتدعًا في عقيدته، فإن علماءَ الحديث لا يقبَلون حديثه، وهذه قاعدة عامة، لكن قد يقبَل بعضُ علماء الحديث كثيرًا مِن روايات المبتدعة، متى ظهر له - بثاقب نظره - أن أولئك الرواةَ صادقون فيما نقلوا؛ فقد قبِل الإمام البخاريُّ رواية عِمرانَ بنِ حطان وهو مِن الخوارج، وكان جاهرًا ببدعته، داعيًا إليها.
 
هذه هي الطعونُ التي يمكن أن تُوجَّهَ إلى الراوي مِن جهة عدالته، وأما الطعون التي يمكن أن توجَّه إلى الراوي من جهة حفظه، فهي أيضًا خمسة:
• فُحش الغلط:
إذا كثُر من الراوي الغلطُ، وفحُش، عُدَّ حديثُه مِن قبيل الضعيف، يقول علي القاري في شرح نخبة الفكر مبيِّنًا لهذا النوع: (أو فحُش غلطه؛ أي: كثرته) بأن يكون خطؤه أكثرَ مِن صوابه، أو يتساويان؛ إذ لا يخلو الإنسانُ من الغلط والنسيان)[17].
 
• الغفلة عند السَّماع أو الإسماعِ:
إذا عُرِف الراوي بالغفلةِ عند سماعه أو إسماعه، صار حديثُه ضعيفًا عند المحدِّثين، والمقصود بالغفلة ذهولُه عن الحفظِ والإتقان، "الظاهر أن مجردَ الغفلة ليس سببًا للطعن؛ لقلةِ مَن يعافيه اللهُ منها"[18].
 
• الوَهم:
إذا اتصف الراوي بالوَهم صار حديثُه ضعيفًا غيرَ مقبول، والمقصود بالوهم - كما يقول ابن حجر -: أن يرويَ على سبيل التوهُّم، فمتى عُرف الراوي بالتوهُّم[19]، أثَّر ذلك في مرويَّاته، فرُدَّتْ لذلك.
 
• سوء الحِفظ:
ومِن الأسباب الراجعة إلى الطعن في الراوي: سوءُ الحِفظ، فمتى كان الراوي سيِّئَ الحفظ، عُدَّ حديثُه ضعيفًا عند المحدِّثين، وسوء الحفظ - كما يقول ابن حجر -: (عبارةٌ عمَّن يكون غلطُه أقلَّ مِن إصابته)[20].
 
مخالفة الثقات:
مخالفة الراوي لغيره مِن الثقات يدلُّ على وهمه وعدمِ ضبطه لما روى، ويُسمَّى حديثُه بالشاذِّ عند بعض العلماء، وقد سبَق تعريفُ الشذوذ، وأقوالُ العلماء فيه، والخلاصة أن الشاذَّ مِن قَبيل الضعيف.
وبهذه الشروط التي ذُكرت، تتَّضِح معالمُ طريقة المحدِّثين في نقدهم للحديث، كما يتبيَّن الفرقُ بين منهجِهم ومنهج الفقهاء في الكلام على الأحاديث، قبولًا أو ردًّا.
 
المبحث الثاني: معايير نقد الحديث عند الفقهاء:
تميَّزت نظرةُ الفقهاء النقدية إلى الأحاديث عن المحدِّثين كثيرًا، حتى صارت طريقةً مستقلة بذاتها، ونتج عن ذلك أنِ اشتَرَط الفقهاء شروطًا لا تتفق في غالب الأحيان مع ما سطَّره علماء الحديث، علمًا أن الفقهاءَ لم يتفقوا في الشروط التي وضعوها، بل اختلفوا في شروط الأخذِ بالخبَر إلى رأيين، رأي الجمهور، ورأي الحنفية، وسأعرض لشروط كلٍّ منهما.
 
المطلب الأول: شروط الأحناف:
اشتَرَط الأحناف لقَبول الحديث شروطًا متعددة تختلف عما اشترطه جمهور الفقهاء؛ نظرًا للبيئة التي نشأ بها مذهبُ الأحناف، وهي البيئة العراقية، تلك البيئة التي أثَّر فيها الرأيُ أكثرَ من غيرها، وسأبين هذه الشروط حتى تنجليَ طريقة علماء الحنفية في الأخذ بالحديث.
شروط الأحناف:
للحنفية في قبول خبر الآحاد شروط ثلاثة، وهي:
1) شهرة الحديث:
يقول محمد بن الحسن الحجوي متحدثًا عن شروطِ أبي حنيفة في الأخذ بخبر الواحد: (وشدَّد في شروط العمل بخبر الواحد؛ حيث اشتَرَط فيه الشهرة، وإن تساهَل في حمل مجهول الحال، لا مجهول العين، على الدالةِ)[21]؛ فالشهرة عند علماء المذهب الحنفي شرطٌ أكيد في قَبول الأسانيد.
 
والحُكم إذا لم يشتهر الخبَرُ أنهم يحكمون بعدم صحته، يقول نظام الدين الشاشي: (فإذا لم يشتهِرِ الخبرُ مع شدة الحاجة وعموم البلوى، كان ذلك علامةَ عدم صحته، ومثاله في الحُكميات إذا أخبر واحدٌ أن امرأته حرمت عليه بالرضاع الطارئ، جاز أن يعتمد على خبره، ويتزوج أختها، ولو أخبر أن العقد كان باطلًا بحُكم الرضاع، لا يُقبَل خبرُه)[22].
والشرطُ المذكور هنا هو المعبَّر عنه بقولهم: ألا يكونَ فيما تعمُّ به البلوى؛ أي: ما يعرِضُ للناس كثيرًا.
 
2) ألا يخالِفَ قياسًا جليًّا.
مما اشترطه الحنفيةُ في الأخذ بالخبر ألا يكون مخالفًا لحُكم ثبَت بقياس جلي، والقياس الجليُّ هو القياسُ على الأصول، وهذا فيما لا يمكنُ فيه الجمع بينهما، فإذا أمكن الجمعُ فهو أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر، يقول أبو الحسين البصري: (اعلم أن القياسَ على أصل من الأصول إذا عارَض خبرَ واحدٍ، فإنما يعارضه إذا اقتضى الخبرُ إيجابَ أشياءَ، واقتضى القياس حظرَ جميعها، على الحد الذي اقتضى الخبر إيجابها، أو بأن يكون الخبر مخصصًا لعلة القياس، فإن اقتضى تخصيصَها فيمن يُجيز تخصيص العلة يجمع بينهما، ومَن لا يرى تخصيص العلة يجري هذا القسم مجرى القسم الأول، وليس تخلو علةُ القياس الذي هذه حاله إما أن تكون منصوصًا عليها، أو مستنبطة، فإن كانت منصوصةً لم يخلُ النصُّ عليها إما أن يكون مقطوعًا به، أو غير مقطوع به، فإن كان مقطوعًا به، وكان خبر الواحد ينفي موجبها، ولم يكن إضمار زيادة فيها تخرج معه العلة من أن يعارضها خبر الواحد، فإنه يجب العدولُ إليها عن خبر الواحد؛ لأن النصَّ على العلةِ كالنص على حُكمها، فكما لا يجوزُ قَبول خبر الواحد إذا رفع موجب النص المقطوع به، فكذلك في هذا الموضع)[23].
 
وفي هذا النقل عن هذا الإمام يتبين أن فقهاءَ الأحناف لا يُقحمون أنفسهم في الحديث عن الرواة، وإنما يلجَؤون إلى المتون، وهذا الشرط الذي اشترطوه محلُّه فيما لم يكن الراوي فقيهًا، فإن كان فقيهًا فلا يشترط هذا الشرط، فمتى عارض المتنُ القياسَ، حتى وإن كان المتن صحيحًا، وكان راويه غيرَ فقيه، فإنهم يقدِّمون القياس، متى كانت علتُه منصوصة؛ لأنهم يرَوْن النصَّ على العلة كالنصِّ على حُكمها.
 
3) ألا يخالفَ الراوي ما روى:
إذا خالف الراوي ما روى، فإن الحنفيةَ يتركون العملَ بذلك المرويِّ؛ لأنهم يرَوْن أن تركه للخبرِ دليلٌ على نسخه؛ إذ لو ترَكه وهو غيرُ منسوخ قدَح ذلك في عدالته، يقول عياض بن نامي السلمي مبيِّنًا هذا الشرط وشارحًا له: (فإن عمِل بخلاف ما رواه، لم يُقبَل حديثه، ومثَّلوه بخبر أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا ولَغ الكلبُ في إناء أحدِكم، فليغسِلْه سبعًا))، مع أن أبا هريرةَ كان يغسل الإناءَ مِن ولوغ الكلب ثلاثًا، وعلَّلوا هذا بأن الراويَ عَدْلٌ، فإذا خالف ما روى دلَّ على نسخه؛ إذ لو ترَكه مع عدم نسخه، لكان ذلك قادحًا في عدالته)[24].
 
وهذه أهمُّ الشروط التي يشترطها الأحنافُ في الأخذ بالحديث، وهي بعد التأمُّل منصبَّة على المتن، لا على الإسناد، وهذه خَصِيصةٌ تميَّز بها جميع الفقهاء أثناء تناولهم للأحاديث صحةً أو ضعفًا، فهي شروط سطحية، وأما علماء الحديث وجهابذتُه فإنهم يغُوصون في أعماق الإسناد، متناولين الحديثَ عن كلِّ راوٍ بعينِه، ومبيِّنين للعلل والأوهام التي يمكن أن تعرضَ للمتنِ أو الإسناد.
 
المطلب الثاني: شروط جمهور الفقهاء في الأخذ بالحديث:
اشتَرَط الجمهورُ للأخذ بالحديث، والعملِ به في الأحكام؛ كالعبادات، والمعاملات، وغير ذلك - شروطًا لا بد مِن بيانها، وهي تتنوَّع إلى ثلاثة أنواع: "منها ما هو في المُخبِر، وهو الراوي، ومنها ما هو في المُخبَر عنه، وهو مدلول الخبر، ومنها ما هو في الخبَر نفسِه، وهو اللفظ الدال"[25]، وسأبين كلَّ نوع من هذه الأنواع حسَب ما بيَّنه الفقهاءُ والأصوليُّون.
الشروط المتعلِّقة بالراوي:
1) التكليف:
اشتَرَط جمهور الفقهاء - تبَعًا لما سطَّره علماءُ الحديث في الراوي - أن يكون مكلَّفًا؛ بأن يكون عاقلًا بالغًا؛ يقول الشوكاني في الإرشاد: (فلا تُقبَل روايةُ الصبي والمجنون، ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي)[26].
 
وهذا الشرطُ إنما هو عند الأداء، لا عند التحمُّل، وأما التحمُّل فيمكن للصبي أن يتحمَّل ثم يؤدي بعد البلوغ، قال الشوكاني: (وهذا الاشتراطُ إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية، أما لو تحمَّلها صبيًّا وأداها مكلَّفًا، فقد أجمع السلفُ على قبولها؛ كما في رواية ابنِ عباسٍ، والحسَنَيْنِ، ومَن كان مماثلًا لهم)[27].
 
2) الإسلام:
اشتَرَط الجمهورُ لقَبول الخبر أن يكون راويه مسلِمًا، فلا تُقبَل رواية الكافر؛ قال الرازي في "المحصول": (أجمعت الأمَّةُ على أنه لا تُقبَل روايتُه، سواءٌ علم مِن دِينه الاحتراز عن الكذب، أو لم يعلم)، فلا تقبل رواية كلِّ كافر، سواءٌ كان يهوديَّا، أو نصرانيَّا، أو غير ذلك؛ احترازًا لدِين ربِّ العالَمين مِن أن يدخلَ فيه ما ليس منه.
 
3) العدالة:
اشترط الفقهاء في الراوي للحديثِ أن يكونَ عدلًا، وقد عرَّف الرازي العدالةَ مبيِّنًا أركانها التي تنبني عليها بقوله: (هيئةٌ راسخةٌ في النفس، تحمِل على ملازمة التقوى والمروءةِ جميعًا، حتى يحصل ثقةُ النفس بصدقِه، ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر، وعن بعض الصغائر؛ كالتطفيفِ بالحبة، وسرقة باقةٍ مِن البقل، وعن المباحات القادحة في المروءةِ؛ كالأكلِ في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح، والضابط فيه أن كلَّ ما لا يؤمَنُ "معه" جراءتُه على الكذب يرُدُّ الروايةَ، وما لا فلا)[28].
 
وهذا الشرط مُخرِج لمجموعة مِن الرواة ممن لم يتوفر فيهم هذا الشرط؛ كالفاسق والمبتدِع، وأما المجهولُ فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهب الإمام الجويني إلى التوقُّف في خبره إذا روى التحريم، هذا في مجهول الحال، وأما مجهول العين "وهو مَن لم يشتهر، ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ - فذهب جمهورُ أهل العلم أنه لا يُقبَل، ولم يخالف في ذلك إلا مَن لم يشترط في الراوي إلا مجردَ الإسلام".
وهذا الشرطُ كذلك هو شرط عام، لا يرتبط براوٍ معيَّن، مما يبيِّن أن الفقهاءَ لهم طريقة خاصة في التعامل مع الرواةِ ومرويَّاتهم.
 
4) أن يكونَ الراوي ضابطًا لِما يرويه:
أكَّد الفقهاءُ تبَعًا للمحدِّثين على ضرورة الضبط في الراوي، وهذا القيدُ مُخرِجٌ لكل وصفٍ ينافي الضبط، قال الرازي: (وذلك يستدعي حصولَ أمرين؛ أحدهما: أن يكونَ ضابطًا، والآخر: ألا يكونَ سهوُه أكثرَ من ذِكره، ولا مساويًا له، أما ضبطُه فلأنه إذا عُرف بقلة الضبط لم تؤمَنِ الزيادةُ والنقصان في حديثه، ثم هذا على قسمين؛ أحدهما: أن يكون مختَلَّ الطبع جدًّا، غيرَ قادر على الحفظ أصلًا، ومثل هذا الإنسان لا يُقبَل خبرُه البتة، والثاني: أن يقدِرَ على ضبط قِصار الأحاديث دون طِوالها، وهذا الإنسان يُقبَل منه ما عُرف كونه قادرًا على ضبطه دون ما لا يكون قادرًا عليه، أما إذا كان السهو غالبًا عليه لم يُقبَل حديثُه؛ لأنه يترجح أنه سها في حديثه، وأما إذا استوى الذِّكر والسَّهو لم يترجَّح أنه ما سها، والفرق بين ألا يكونَ ضابطًا وبين أن يعرض له السهوُ: أن مَن لا يضبِط لا يحصِّل الحديثَ حال سماعه، ومَن يعرض له السهو قد يضبط الحديثَ حال سماعِه وتحصيلِه، إلا أنه قد يشِذُّ عنه بعارض السهو).
 
وما ذكره الرازيُّ هنا غيرُ مشابه لِما يذكر المحدِّثون عادة في حديثهم عن ضبط الرواة؛ فقد أشار ها هنا إلى اختلال الطبع، بينما لم يتناوله المحدِّثون أصلًا، ومَن تأمل كلام هذا الإمام هنا تبين له مدى استقلالية الفقهاء في طريقتهم ومنهجيتهم الخاصة في التعامل مع شروط الرواة.
 
الشروط المتعلقة بالمَرْويِّ:
اشتَرط جمهورُ العلماء شروطًا في الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1) أن يرويَ الحديث بلفظِه؛ لأن ذلك أمانة؛ يقول الشوكاني: (إذا روى الراوي الحديث بلفظه، فقد أدى الأمانةَ كما سمعها، ولكنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله جوابًا عن سؤال سائلٍ، فإن كان الجواب مستغنيًا عن ذكر السؤال، فالراوي مخيَّرٌ بين أن يذكر السؤال أو يتركه، وإن كان الجواب غيرَ مستغنٍ عن ذكر السؤال، فلا بد من ذكر السؤال، وهكذا لو كان الجوابُ يحتمل أمرين، فإذا نقل الراوي السؤالَ لم يحتمِلْ إلا أمرًا واحدًا، فلا بد مِن ذكر السؤال، وعلى كل حالٍ فذِكر السؤال والسبب مع ذكر الجواب وما ورد على سببٍ أَوْلى مِن الإهمال)[29].
فإن روى الراوي الحديثَ بالمعنى، فإن الجمهور اشترطوا لقبول ذلك شروطًا، ومنها:
• "أن يكون عارفًا بمعاني الألفاظ؛ حتى لا يغير المعنى إلى غيرِ المراد.
• منهم من شرط أن يأتي بلفظٍ مرادف.
• ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويًا للأصل في الجلاء والخفاء.
• وشرط بعضهم ألا يكونَ الخبرُ مما تُعُبِّدْنا بلفظه.
• وشرط بعضهم ألا يكونَ الخبرُ مِن باب المتشابِه؛ كأحاديث الصفات"[30].
وهناك شروط أخرى لم يتفق عليها جمهورُ العلماء في الرواية بالمعنى.
 
2) أن يعملَ بالظاهر منه، ولا يرجع إلى رأي الصحابي، خلافًا للحنفية كما سبق؛ فإنهم يأخذون بما رأى الصحابيُّ، لا بما روى.
شروط مدلول الخبَر:
اشتَرط الفقهاءُ في مدلول الخبر شروطًا تدلُّ على اهتمامهم بالدلالة أكثرَ مِن اهتمامهم بالثبوت، ومنها:
1) ألا يستحيلَ وجودُه في العقل[31] أو الحس، فمتى خالف الحديثُ ما يقتضيه العقلُ أو الحس رُدَّ الحديث لذلك، والمقصود بالعقل هنا العقلُ الصريح، وقد وضع ابن القيم الفقيه بعض الضوابط يُعرَف بها ثبوت الحديث من عدمه، ومنها: (تكذيب الحس له؛ كحديث: "الباذنجان لما أُكل له"، "والباذنجان شفاءٌ من كل داءٍ"، فإن هذا لو قاله أمهر الأطباء لسخِر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة وكثيرٍ من الأمراض لم يزِدْها إلا شدةً، ولو أكله فقيرٌ ليستغني لم يُفِدْه الغنى، أو جاهلٌ ليتعلم لم يُفِدْه العلم، وكذلك حديث: "إذا عطس الرجل عند الحديث، فهو دليل صدقه"، وهذا وإن صحح بعض الناس سنده، فالحسُّ يشهد بوضعه؛ لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله)[32].
وابن القيم هنا وإن تعرض للحس فإنه يقصد العقلَ أيضًا، فما خالف الحسَّ فأولى به أن يخالفَ مقتضياتِ العقول.
وهذا يبين مدى اهتمام الفقهاء في الغالب بالمدلولِ، لا بالأسانيد؛ إذ ذلك شأنُ أهلِ الحديث.
 
2) ألا يكونَ مخالفًا لنص مقطوعٍ به، على وجهٍ لا يمكن الجمعُ بينهما بحال[33].
إذا خالَف الحديث نصًّا مقطوعًا به، كنصٍّ قرآنيٍّ ثبت حُكمه بدلالة قطعية، أو كان ثبوته قطعيًّا، فإن الفقهاء لا يأخذون به، حتى ولو كان في الصحيحين؛ قال الأمين الشنقيطي: (ومِن أمثلته ما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الله خلَق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة))[34]، قال الشنقيطي: فإن هذا الحديثَ يظهَر عدم صحته من مخالفة نص القرآن في قوله: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ [الفرقان: 59]؛ ولذا قال البخاريُّ وعليُّ بن المديني - وغير واحد من الحفاظ -: إنه مِن كلام كعبِ الأحبار)[35][36].
 
وهذا المثال وحده كافٍ في أن الفقهاء لا يقتصرون على الأسانيد، بل ينظرون إلى جوانبَ أخرى خارج ذلك؛ ولذا حكَم العلماء على هذا الحديث بالرد، وإن كان في صحيح مسلم.
 
3) ألا يكونَ مخالفًا لإجماع الأمة عند مَن يقول بأنه حجةٌ قطعيةٌ[37].
مما اشترطه الفقهاءُ في مدلول الخبر ألا يخالفَ ما أجمعت عليه الأمةُ؛ لأن الإجماعَ قطعيٌّ في بعض أنواعه.
وهذه أهمُّ الشروط التي اشترطها الفقهاء في الأخبار، وهي كافيةٌ في بيان الفَرْق بين أهل الحديث والفقه في التعرض للضوابط التي لا بد منها في قبول الخبر والعمل به بعد ذلك.
 
المبحث الثالث: نماذجُ تطبيقيةٌ في نقد الحديث بين أهل الفقه وأهل الحديث:
بعد أن أنهيتُ مرحلة التنظير، أنتقل إلى مرحلة التنزيل والتقرير، وهي مرحلة لا بد منها في توضيح حقيقة الفرق بين طريقة كلٍّ من المحدِّثين والفقهاء؛ ولذلك أحببتُ أن أعرض نماذجَ وأمثلة من كلام المحدِّثين على بعض الأحاديث، وأخرى من كلام الفقهاء على بعض الأحاديث؛ حتى ندركَ وجه التفاوت الكبير بين أهل الحديث وأهل الفقه، ونقتنع بأن طريقة المحدِّثين أجدى وأنفعُ، وأدلُّ على المقصود من طريقة الفقهاء.
المطلب الأول: نماذج مِن الأحاديث التي نقدها أهل الحديث:
ها هنا سأعرض بعضَ الأمثلة مِن الأحاديث التي تناولها أهل الحديث بالنقد، وسأكتفي بقليل منها مما يدل على المراد، ويتضح به مِن ذلك ما يستفاد.
أولًا:
• عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولودٍ رهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه يوم سابعه ويُحلَق رأسه، ويسمَّى))؛ أخرجه أبو داود.
هذا الحديثُ ساقه الإمام عليُّ بن المَديني، وقبل أن يذكره مهَّد له بالحديث عن الحسَن البَصري، وعرَض كثيرًا من أقوال الأئمة الدالة على أن الحسَن قد سمع من سمُرة، وهي مسألة اختلف فيها علماءُ الحديث على ثلاثة أقوال، بيَّنها الصنعاني في سبل السلام أثناء كلامه عن قوله عليه الصلاة والسلام: ((على اليدِ ما أخذَتْ حتى تؤدِّيَه)) - نقلًا عن ابن حجر - فقال: (لأن الحديثَ مِن رواية الحسن عن سمُرة، وللحافظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب: الأول أنه سمع منه مطلقًا، وهو مذهب عليِّ بن المديني، والبخاري، والترمذي، والثاني: لا مطلقًا، وهو مذهبُ يحيى بن سعيدٍ القطان، ويحيى بن معينٍ، وابن حِبان، والثالث: لم يسمَعْ منه إلا حديثَ العقيقة، وهو مذهب النسائي، واختاره ابن عساكر، وادَّعى عبدُالحق أنه الصحيحُ)[38].
ولأجلِ ما يمكن أن يشكَّ فيه الناطرُ في سماع الحسن من سمُرة، شرع الإمام علي بن المديني في إثبات سماع الحسَن من سمُرة، ثم بعد ذلك يأتي بالحديث المَسُوق أثناء ذلك، يقول الإمام علي بن المديني: (قال عليٌّ: سمع الحسَن مِن عثمان بن عفانٍ - وهو غلامٌ - يخطب، ومن عثمان بن أبي العاص، ومن أبي بكرة.
ولم يسمع مِن عمرانَ بن حُصينٍ شيئًا، وليس بصحيحٍ، لم يصحَّ عن الحسن عن عمرانَ سماعٌ من وجه صحيح ثابت.
قلتُ: سمع الحسن من جابرٍ؟ قال: لا.
قلت: سمِع الحسنُ مِن أبي سعيدٍ الخدري؟ قال: لا.
كان بالمدينة أيام كان ابنُ عباسٍ على البصرة، استعمله عليها عليٌّ وخرج إلى صِفِّين، وقال في حديث الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة - الحديث أخرجه أبو داود - إنما هو كقول ثابتٍ: قدم علينا عمران بن الحصين، ومثل قول مجاهدٍ: خرج علينا عليٌّ، وكقول الحسن: إن سراقةَ بن مالك بن جعشمٍ حدَّثهم، وكقوله: غزا بنا مجاشع بن مسعودٍ.
الحسن لم يسمع من ابن عباسٍ، وما رآه قط، كان ابن عباسٍ بالبصرة.
 
ومِن عبدالله بن مغفَّلٍ، ومن معقِل بن يسارٍ، ومِن أنس بن مالكٍ، ومِن سمُرة بن جندبٍ، قال: وقال حبيب بن الشهيد: أمرني ابن سِيرين أن أسأل الحسَن ممَّن سمع حديثه في العقيقة؟ قال: فسألتُه، فقال: سمعته من سمُرة، قال: قال سمرة: كل مولودٍ رهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه يوم سابعه) [39] أخرجه البخاري في العقيقة.
 
وفي هذا النموذجِ الذي سقتُه عن هذا الإمام يمكن أن نستشفَّ الفرقَ الواضح بين علماء الحديث والفقهاء، فلو عُرض هذا الحديث على فقيهٍ لمَا تناوله بطريقة هذا الإمام، بل سيقول فيه: إنه مقبول أو مردود، وقد يزيد فيقول: الحسن سمع من سمرة، لكن علي بن المديني أتى بأمثلة ونماذجَ متعددة، بيَّن من خلالها أرجحية القول بأن الحسن سمع من سمُرة بن جندب رضي الله عنه.
 
ثانيًا:
قال الإمام الترمذي في كتابه السنن: (حدثنا محمد بن بشارٍ، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا وهب بن جريرٍ، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابر بن عبدالله، قال: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القِبلة ببولٍ، فرأيتُه قبل أن يقبض بعامٍ يستقبلها.
وفي الباب عن أبي قتادة، وعائشة، وعمارٍ.
حديث جابرٍ في هذا الباب حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقد روى هذا الحديث ابنُ لَهيعة، عن أبي الزبير، عن جابرٍ، عن أبي قتادة: أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يبول مستقبِلَ القِبلة، أخبرنا بذلك قتيبة، قال: أخبرنا ابن لَهيعة.
وحديث جابرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحُّ مِن حديث ابن لَهيعة.
وابن لَهيعة ضعيفٌ عند أهل الحديث؛ ضعَّفه يحيى بن سعيدٍ القطانُ، وغيره).
 
وفي هذا النموذج الذي عرضتُه، تظهر طريقةُ الإمام الترمذي في بيان ضعف الحديث؛ فقد أتى بجميع طرق الحديث، وتحدَّث عن سياقاتها كلها؛ ففي السند الأول ساقه من حديث جابر مرفوعًا، ثم ذكر أن الحديث لم يروِه فقط جابر، بل رواه صحابة آخرون، حتى يعلم أنه ليس من الأفراد، ثم ذكر حُكم حديث جابر معبِّرًا عن ذلك بقوله: (حسن غريب)، ثم ذكر واسطةً بين جابر والنبي صلى الله عليه وسلم، لكنها من رواية عبدالله بن لَهيعة، وبيَّن الترمذي أن ابن لَهيعة ضعيف.
 
وهذه طريقةُ أهل الحديث في حكمهم على الأحاديث صحةً وضعفًا، وسأكتفي بهذينِ المثالين في بيان طريقة المحدِّثين وشروطهم في تصحيح الأحاديث أو تحسينها.
 
المطلب الثاني: نماذج مِن الأحاديث التي نقَدها الفقهاءُ:
في هذا المطلَب سأعرض بعضَ النماذج من كلام الفقهاء أثناء استدلالهم ببعض الأحاديث؛ حتى يمكنَ التفريقُ بين شروطهم وشروط المحدِّثين.
• قال ابن رُشد الحفيد في بداية المجتهد - مستدلًّا على مسألة فقهية متعلِّقة بقراءة القرآنِ أثناء الركوع والسجود -: (حديث عليٍّ في ذلك قال: ((نهاني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآنَ راكعًا وساجدًا))، قال الطبري: وهو حديثٌ صحيحٌ، وبه أخَذ فقهاء الأمصار، وصار قومٌ من التابعين إلى جواز ذلك، وهو مذهب البخاريِّ؛ لأنه لم يصحَّ الحديث عنده، والله أعلم)[40].
 
لم يتصدَّ ابنُ رشد هنا للحديث عن الرواة، أو للحديث عن هل هم مِن الثقات أو الضعفاء؟ وعن المتن هل سلِم مِن العلل أم لا؟ ولذلك لجأ إلى أقوال أهل الحديث، وفي هذا ما يبين أن عامةَ الفقهاء عالةٌ على المحدِّثين في نقدهم للأحاديث.
 
• قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك - رحمه الله - للرجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمِنَ أن يمرَّ به أحد هو أن الشرعَ إنما قرَّر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدمَ دون مَن سواهم من الملائكة؛ إذ لا تفارقه الحفَظة الموكَّلون عليه منهم في حالٍ من الأحوال؛ قال الله عز وجل: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]؛ ولهذا قال مالكٌ تعجُّبًا: ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرقَ في حق الملائكة بين الفضاء وغيره، وأنكر الحديث لمَّا كان مخالفًا للأصول؛ لأن الحديث إذا كان مخالفًا للأصول فإنكاره واجب، إلا أن يرِدَ مِن وجه صحيح لا مطعنَ فيه، فيرد إليها بالتأويل الصحيح)[41].
 
مَن تأمَّل كلام ابن رشد على هذا الحديث، ظهر له شروطُ الفقهاء في قبول الحديث، ومنها: ألا يكون مخالفًا للأصول؛ فابن رشد هنا فهِم من إنكار مالك للحديث أنه لأجل مخالفته للأصول؛ أي: للقياس.
 
ولعل هذه النماذج - على قلَّتِها - كافيةٌ في بيان شروط المحدِّثين والفقهاء بطريقة عملية تُبرز مدى الفرق بين المحدِّثين والفقهاء في نقدهم للأحاديث، وسأكتفي من ذلك بما ذكرت؛ إذ يكفي مِن القلادة ما أحاط بالعُنق، وبالله التوفيق.
 
الخاتمة
وبعد هذه الرحلة القصيرة في مجال البحث عن شروط المحدِّثين والفقهاء أحُطُّ الرحالَ هنا لأختم المقال بتلخيص ما سبق بيانه، واستنتاج الفوائد التي يمكن أن تُعِين في إنجاز بحث أطول عن هذه القضية التي لا تكفي فيها هذه الصفحات القليلة، فأقول - ومِن ربي أستمد المعونة والتسديد -:
خلاصات:
• اشتَرط المحدِّثون في كلٍّ مِن الصحيح والحسن شروطًا دقيقة ومضبوطة، تدلُّ على تمكُّنهم من هذا العلم، وبلوغهم فيه الغاية القصوى.
• حدَّد علماء الحديث ضوابطَ متعددة يُعرَف بها ضعيف الأسانيد والمتون، وبها يمكن الوقوفُ على علل الأحاديث، ومن ثم يحكم عليها.
• الفقهاء غيرُ متفقين على طريقة واحدة في نقد الأحاديث؛ ولذلك وجدنا الأحناف يختلفون عن الجمهور في نقدهم للأحاديث، مما يبعث على عدم الاطمئنان إلى طريقتِهم في التعامل مع الأحاديث.
 
استنتاجات:
• طريقة المحدِّثين أدقُّ من طريقة الفقهاء؛ نظرًا لاهتمامهم البالغ بأحوال الرواة، وهذا ما جعَلهم لا يكتفون بالإشارة في هذا المجال، طالما أن الإشارة لا تغني عن العبارةِ في هذا المقام.
• طريقة الفقهاء تعتمد الأحكامَ العامة التي هي - في غالبها - مجانِبَةٌ للدقَّة والضبط.
• الفقهاءُ أثناء استدلالهم إنما ينطلقون مِن الحُكم الفقهي، لا مِن النص الشرعي، على عكس علماء الحديث، فإنهم ينطلقون مِن النص، لا مِن الحُكم.
• الفقهاء ينقُلون كلامَ السابقين مِن المحدِّثين على الأحاديث؛ أي إنهم لا علاقةَ لهم بهذا المجال، فإذا ما تناولوا الكلامَ عن حديث ما، فإنهم قد يذكرون حُكمًا مخالفًا لِما توصَّل إليه علماء الحديث.
وبعد هذه الخلاصات والاستنتاجات، أسأل اللهَ تعالى أن يجعلَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وخاليًا مِن كل قصد ذميم، والحمد لله رب العالمين!