معادلة الولاء والرعاية لدى الحركات الصوفية في فلسطين

السوسنة - استفادت الصوفية في فلسطين من عملية المراجعة، عند توجه السلطة صوب دعم “الدين الشعبي”، عملاً بنفس الهدف، مما ساعد في تعزيز نطاق نشاطها، عبر السماح بنشر الزوايا وبعمل الطرق الصوفية وبنشاط مشايخها وبفتح المراكز والمؤسسات التعليمية والخدمية التابعة لهم، وبإدخال المتصوفة في هياكلها ومؤسساتها، وبدعم المجلس الإسلامي الصوفي الأعلى مادياً، وبإتاحة المجال لنشاطه الممتد عبر الضفة الغربية وقطاع غزة وبحضوره الفاعل كمؤسسة معترف بها وبإصدار مجلة “الإسراء”.

 
لقد صحبت ذلك تحولات أصابت أفق الصوفية، في سياق تطور مسارها التاريخي، تزامناً مع صيرورة متغيرات طالت بنية النظام العالمي نفسه، وأنساقه المتداخلة، تعززت انعكاساتها في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بينما برزت مظاهرها في العودة إلى المقدس الديني فردياً وجماعياً، حتى في أكثر البيئات والمجتمعات عقلانية وتلبساً بالحداثة والعلمنة، دون أن تفلح عملية التحديث في تقليص أهمية الدين، كما تصورت الإسهامات الأكاديمية الأولى، إذ نما حضور الحركات الإسلامية في السياسة والمجتمع، امتداداً لمسار زمني سابق، مستخدمة منجزات الحداثة العلمية والتكنولوجية والاتصالية في نشر أجندتها.
 
فرغم عدائها للعلمنة، لم تغب معادلة “الولاء/ الرعاية” عن محددات العلاقة بين الصوفية والسلطة، حتى بعد وقوع الانقسام بين حركتي فتح وحماس، إبان اشتباكات دامية انتهت بسيطرة الأخيرة على قطاع غزة منذ منتصف يونيو 2007، ولكنها تلبست عند الجماعات الصوفية بغطاء ديني يأخذ بـ”المناصحة” و”عدم الخروج على الحكام وإن جاروا”، بينما تغطت عند فتح والسلطة برداء “التوظيف السياسي” في مواجهة حماس والحركات الإسلامية الأخرى، بعدما اختبرت ذات النهج سابقاً مع السلفية قبل أن تدرك خطأه وتتراجع.
 
إلا أن تجليات الانقسام حضرت سلباً عند الجماعات الصوفية في تعدد المواقف وصعوبة التواصل بين جانبي الوطن المحتل في الضفة وغزة؛ ولكنها استدعت حراكاً تجاوز نطاق “الزوايا” الديني، دون مبارحته، صوب الاشتباك مع “العمل العلني العام”، وطرح خطاب محدد من الوضع السياسي الفلسطيني، والصراع العربي – الإسرائيلي، والثورات العربية، لم يخل من جدلية المواءمة بين التقليد والتحديث.
 
بينما تصرّ البعض من الطرق الصوفية على التمسك بتقاليدها الطقسية المتوارثة، تبنت أخرى نهجاً أكثر تجديداً وانفتاحاً بإنشاء المؤسسات العلمية والتعليمية والإعلامية والمراكز البحثية، ولكنها لم تبلغ حدّ المشاركة في الحياة السياسية بتأسيس أحزاب خاصة بها، باعتبارها مرحلة لاحقة.
 
وفي المقابل، سعت حركتا فتح وحماس للزجّ بالصوفية في دائرة التجاذب المتبادل، وسط موقف ضبابي احتمل أوجهاً متباينة، وحالة استقطاب حادة اعترت المشهد الفلسطيني نتيجة الانقسام الذي أسّس لحالة “فقدان الاتجاه” في قيادة المسار الوطني، أمام تعثر خطوات المصالحة، وانسداد الأفق السياسي، وإمعان الاحتلال في استلاب الأرض والتاريخ معاً.
 
اختبرت الأراضي الفلسطينية المحتلة أنماط التحولات العميقة التي طالت مسار التصوف الإسلامي؛ في تطوره التاريخي، منذ تجاوز نطاق النشأة التعبدية الزهدية الأخلاقية التي طبعت سلوكه في مرحلة الإسلام المبكر خياراً فردياً لإصلاح الذات تمهيداً لإصلاح المجتمع المثقل بالمظاهر السلبية وتعبيراً عن العودة إلى القيم الإسلامية الأصيلة، دون مبارحتها، حتى عند تبلوره تاريخياً كظاهرة اجتماعية واسعة الانتشار، ومن ثم تطوره طرقاً صوفية.
 
وتبلور مدارس ومذاهب ونظريات فلسفية وفقهية وكلامية عديدة وتعدد الطرق الصوفية المنتشرة داخل ساحة الضفة الغربية وقطاع غزة، بزوايا تابعة لها، ولكنها تلتقي عند قاعدة الاحتكام إلى محددات الشريعة الإسلامية، وهيكلية الشيخ والمريدين التراتبية، مقابل التمايز في الوسائل التربوية والطقوس التعبدية، تبعاً لشيخ الطريقة، والنشاط والوزن الجماهيري، وسبل التعاطي مع الأحداث الدائرة.
 
أبرز هذه الطرق الطريقة القادرية التي انتشرت على يد الشيخ محمد البغدادي القادري الكيلاني (1909 – 1995)، الذي عدّ شيخ الطريقة القادرية في القدس وشيخ المريدين في فلسطين.
 
ولم يخلف بعد وفاته أحداً في الطريق، وإنما أقام الشيخ أحمد النتشة مقدماً يرجع إليه أبناء الطريقة في فلسطين.
 
وهناك الطريقة الشاذلية، التي من أبرز تفرعاتها الشاذلية الدرقاوية العلوية الفيلالية المنسوبة إلى الشيخ مصطفى عبدالسلام الفيلالي. وتتفرع عنها الطريقة المحمدية وغيرها من الطرق المشهورة في فلسطين.العرب