مراعاة مقاصد التشريع سياج يحمي المصرفية الإسلامية

د. صفوان عضيبات
المصرفية الإسلامية جزء لا يتجزّأ من النظام الاقتصادي الإسلامي المعاصر، وتشمل كل ما يتعلّق بمعاملات البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية بما تحويه من تمويل واستثمار وخدمات.
 
وتعتبر المؤسسات المالية الإسلامية المختلفة محاولة لمأسسة جزء كبير من النظام المالي الإسلامي وتقنينه في أحكام وفتاوى تنعكس على الواقع العملي الذي يربط بين هذه المؤسسات ومؤسسات أخرى، أو بين هذه المؤسسات وأفراد المجتمع، عبر وسائل التمويل والاستثمار، مع عدم إغفال الجوانب الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بطبيعة عملها.
 
وقد ارتبطت نشأة هذه المؤسسات المالية الإسلامية بأهداف نبيلة في مقدمتها إيجاد البديل الشرعي الصحيح للنظام التقليدي السائد (النظام الربوي).
 
وتجربة المصرفية الإسلامية جهد بشري، كونها محاولة لتطبيق عمليات التمويل والاستثمار والخدمات من منظور شرعي، وهذا ما يجعلها عرضة للنقد والتقويم، ومجال للابتكار والتغيير، ولأجل ذلك تقام المؤتمرات السنوية، وتعقد الندوات الدورية؛ لدراسة هذه الحالة، ومعرفة نقاط الضعف والقوة، والارتقاء بالمستوى، والتغيير بالمنحنى.
 
ومعلوم أن توجيه النقد للتطبيق أو وصفه بالضعف لا يعني نقد الأصول، ولا النيل من القواعد الكلية الجامعة للحالة محل البحث، فإن تطبيق الأصول والقواعد الكلية أمر ظني، واجتهاد بشري يحتمل الخطأ والصواب، ويختلف من مجتهد لآخر بحسب اختلاف الأفهام، أما الأصول والقواعد الكلية نفسها فهي أمور قطعية متفق عليها، ومسائل انعقد الإجماع على اعتبارها.
 
وهذه الأصول والقواعد الكلية والتي اعتبرناها مناط التطبيق لعمليات وخدمات المصرفية الإسلامية؛ أقصد بها كل ما له علاقة بمقاصد التشريع وسدّ الذرائع ومراعاة مآلات الأحكام.
 
فمراعاة مقاصد التشريع سياج يحمي المصرفية الإسلامية من زلل الفتاوى، ومن خطأ التسويغ والتبرير، ومن الغلوّ والتسرّع في الحيل، ومن تحويل الفقه من فقه الابتكار والتجديد إلى فقه الترقيع.
 
كما أن مراعاة مقاصد التشريع تساهم في ضبط الأدلة "بمعنى أنها تراقب عملية التفسير والاستنباط والقياس والاجتهاد بقنواته المختلفة" [مقاصد الشريعة والمعاملات الاقتصادية والمالية، د. عبد اللطيف الصباغ، قدمه لحوار الأربعاء في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي بتاريخ 16-2-1420ه ص 13].
 
فإذا أردنا تصحيح مسار المصرفية الإسلامية، وتطوير إدارتها، وتسويغ وجودها كبديل حقيقي عن المؤسسات الربوية يساهم في إشباع حاجات الأفراد، ويشارك في حفظ نظام الأمة وقوتها، فذلك لن يكون بالوسائل القائمة على مجرّد ردّة الفعل والتي تقتضي مراقبة المصرفية الربوية ومحاولة تقليدها بلَبوس إسلامي وغطاء شرعي، إنما يكون بجهد جمعي لتطوير نظام اقتصادي إسلامي ينطلق من جوهر الإسلام القائم على مراعاة مقاصد التشريع.
 
وقد أشار إلى ذلك العلّامة الأصولي محمد الطاهر بن عاشور (ت 1973م) في مقاصده: "هذا وقد تقرّر عند علمائنا أن حفظ الأموال من قواعد كليات الشريعة الراجعة إلى قسم الضروري، ويؤخذ من كلامهم أن نظام نماء الأموال وطرق دورانها هو معظم مسائل الحاجيات كالبيع والإجارة والسلم ... وقد أشرت في المبحث المتقدّم إلى أن المقصد الأهم هو حفظ مال الأمة وتوفيره لها، وأن مال الأمة لما كان كلا مجموعيا، فحصول حفظه يكون بضبط أساليب إدارة عمومه، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد، وأساليب إدارتها، فإن حفظ المجموع يتوقف على حفظ جزئياته، وإن معظم قواعد التشريع المالي متعلقة بحفظ أموال الأفراد، وآيلة إلى حفظ مال الأمة، لأن منفعة المال الخاص عائدة إلى المنفعة العامة لثروة الأمة" [مقاصد الشريعة الإسلامية، محمد الطاهر بن عاشور، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، تقديم حاتم بو سمة، ط1، 2011م، ص297-298].
 
نلاحظ في عبارات هذا الإمام المقاصدي الهمام الربط الرائع بين الكلّي والجزئي، وبين المقاصد والوسائل، وبين الضروري والحاجي، فحفظ أموال الأمّة مقصد ضروري كلّي، شرعت له وسائل حاجيّة جزئيّة: منها نظام نماء الأموال وهذا يشمل جميع عمليات استثمارها الشرعية، وطرق دورانها، وأساليب تداولها الشرعية.
 
كما أن من الوسائل الحاجيّة للمحافظة على مقصد حفظ مال الأمّة: ضبط أساليب إدارة عمومه، وهذا يشمل الإدارة الحكومية الرسمية للأموال، وبضبط أساليب حفظ أموال الأفراد وأساليب إدارتها، ويشمل الإدارة الخاصة للأموال والمصارف.
 
ولعلّ من المهم الإشارة أيضا إلى أهميّة اعتماد فتاوى المصرفية الإسلامية على المقاصد العامة للتشريع، ومراعاة المآلات عند إصدار الفتاوى المالية، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي ـــ رحمه الله ـــ : "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل" [الموافقات في أصول الشريعة للإمام أبو إسحق الشاطبي، وعليه شرح بقلم الشيخ عبد الله دراز، دار الحديث، القاهرة، 2006م، ج4،ص431-432].
 
وفي مقام آخر يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل" [الموافقات في أصول الشريعة للإمام الشاطبي، ج2، ص495].
 
إذا هو مشروع إصلاحي شامل يهدف إلى تصويب مسار المصرفية الإسلامية، والسعي لتطويرها وتمكينها من المنافسة في ظل سوق يفتقر إلى معاني مقاصد التشريع السامية، والمبنية على التحقيق لأجل جلب المصالح ودفع المفاسد، ويعتمد هذا المشروع على أربع قواعد:
 
أولا: تحريم الظلم.
 
ثانيا: تحريم الربا.
 
ثالثا: تحريم الغرر.
 
رابعا: اعتبار المقاصد والمصالح. [أشار إلى هذه القواعد الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ) في تفسيره أحكام القرآن، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، ج1، ص110].
 
فعندما تخضع جميع الجوانب المتعلقة بالمصرفية الإسلامية ـــالإدارية والفنية والقانونية والشرعيةـــ للقواعد الأربع سالفة الذكر، فلا ظلم ولا ربا ولا غرر، ولا مخالفة لمقتضى مقاصد التشريع، فعندئذ نكون قد وضعنا قدمنا على أول طريق الإصلاح الحقيقي المؤدي إلى التغيير والابتكار والتطوير في جوانب المصرفية الإسلامية، ولا شك أن هذا المشروع يحتاج إلى علماء متخصصين ومتمكنين، ونوايا صادقة، وهمم عالية.
 
والله ولي التوفيق
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة