الملامح العامة لسبل إحسان الفرد المسلم للوجود من حوله باعتباره كيانًا مستقلًا ج1

السوسنة  - استعرض استاذ الاعلام في جامعة اليرموك، والأمين العام للمجمع الدولي لإعادة بناء الفكر الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمود السماسيري" الملامح العامة لسبل إحسان الفرد المسلم للوجود من حوله باعتباره كيانًا مستقلًا.. أولًا، ثم سبل إحسانه لهذا الوجود عندما يكون لبنة في بنية جماعة أو مؤسسة.. ثانيًا. وذلك في ضمن الجزء الثالث من القسم الرابع لكتابه "اخي المسلم هل انت انسان " والذي جاء تحتت عنوان سمات الانسان المسلم بحق ج1 ج2.

أولًا:سبل إحسان الفرد المسلم باعتباره كيانًا مستقلًا للوجود

لا مراء أن ارتقاء سلوك الإنسان المسلم من درجة العدل- التي هي سمة الإنسانية- إلى درجة الرحمة المفضية به إلى التفضل والإحسان، والتي تمنحه وصفًا يتجاوز كونه فقط إنسانًا، إلى وصفه بكونه إنسانًا ومسلمًا في الوقت نفسه.. لا مراء أن ذلكم ليس بالأمر الهين،  لأنه أمر يتطلب منه إدراكًا معرفيًّا لا يقف عند إدراك سبل ضمان عدالة آثار سلوكه عليه، وعلى الآخرين اليوم، أو غدًا .. وإنما يسمو إلى إدراك  سبل ضمان مساهمة كل سلوك يقوم به في بناء الوجود الرحيم؛  له وللآخرين من حوله، اليوم أو غدًا.. على النحو الذي يجعله يُسهم في النهاية في بناء مجتمع (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: من الآية 110) وعلى نحو يُرضي عنه ربه الرحمن الرحيم في الدنيا، ويؤهله لرضاه عنه في الآخرة .. رضا ليس بعده سخط.

وهكذا؛ إنه إدراك يحمل رؤية كلية ينسجها على هدى نور كتاب الله المقروء (الوحي الإلهي) الذي حدد له الغايات التي عليه أن يتحرك لتحقيقها في هذا الوجود، ورسم له السبل الرئيسة لكيفية تحقيقها، أولًا. وعلى الفهم الواعي لكتاب الله المنظور(الكون)، ثانيًا، وعلى القراءة اليقظة لتجليات الحراك الإنساني في هذا العالم  الذي  يشهد تغيرًا لا يكاد يعرف التوقف، ثالثًا.

ومثل هذا الإدراك السامي لحقيقة دوره في بناء الوجود الرحيم، وسبل الاضطلاع بهذا الدور؛ هو الذي يحتم عليه أن يكد في بناء نفسه ليصبح مؤمنًا قويًّا في علمه، وفي عمله، وفي علاقته بربه؛ حتى يستطيع  أن يمارس الإحسان  للوجود من حوله، في كل حركة من حركاته، أو سكنة من سكناته.

والواقع أن إحسان الفرد المسلم للوجود من حوله– باعتباره كيانًا مستقلًا – لا يقف عند  إحسانه لأفراد أو جماعات أو مؤسسات المجتمع المسلم، وإنما هو إحسان  يمتد ليتخطى تخوم المسلمين؛ حتى يصل إلى كل بقعة من بقاع الدنيا.. وكيف لا وهو مأمور أن يكون رحمة، ومن ثم، محسنًا للعالمين. 

غير أن المتأمل في واقعنا كأمة الإسلام، مقارنة بأمم الدنيا من حولنا، يجد أن جل الأمم التي تنتمي إلى الشرق والغرب، هي الآن أكثر منا علمًا وتقدمًا وقوة... وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن للمسلم منا أن يمارس الرحمة والتفضل والإحسان إلى من هم أقوى منه وأغنى، وأكثر علمًا منه وتقدمًا؟!         

وهل يمكن أن يمارسها معهم وأوليات العدالة، ولا نقول الإحسان ليس لها وجود عملي في سلوكيات كثير من أبناء ومؤسسات وجماعات المجتمع الإسلامي الذي ينتمي إليه.. حيث يستحل بعض أبنائه، وبعض جماعاته أموال ودماء وأعراض البعض الآخر، بحجج وادعاءات تستند إلى فهم قاصر يتنافى مع جوهر الدين الذي ما جاء إلا رحمة للعالمين .. وحيث يرفل بعض أبنائه في نعيم الملذات؛ التي يحوزها كثير منهم  بما اكتسبته يداه من مال حرام- بينما يحصد الموت أرواح بعضهم الآخر من التهجير، والتشرد، والفقر، والجهل، والمرض....وهلم جرا؟! 

 إذا كانت الإجابة في الغالب الأعم هي لا..  فلنا أن نتساءل: متى يمكن أن تتحقق له هذه الصفة؟! 

الواقع أنها لن تتحقق لهذا المسلم ما لم يسع لأن يصبح لبنة صلبة في بناء مؤسسات(علمية وتكنولوجية واقتصادية.. إلخ) متطورة، تسهم في بناء مجتمع مسلم قادر على تجاوز الوضعية المفجعة التي يعيشها الآن، ثم  تسهم -بعدها- في جعله مجتمعًا آخذًا بيد البشرية نحو مزيد من الرقي والتقدم الأخلاقي والحضاري.. مجتمعًا بانيًا للوجود الإنساني الرحيم.

وهذا لن يتحقق له إلا إذا كان أكثر  قدرة على العمل والإنتاج والإبداع من غيره، وهو ما لن يتسنى له إلا إذا كان أكثر اجتهادًا في بناء نفسه علميًّا ومهاريًّا- منذ أن يكون طالبًا على مقاعد الدراسة- من غيره من أبناء المجتمعات المتقدمة، أو على الأقل يضاهيهم. مستغلا أقصى طاقة منحها ربه إياها، عالمًا أنه مكلف من قبل ربه باستغلال وسعه ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾(البقرة: من الآية 286) . وهو أمر لن يتأتى له دون أن يلبى نداء ربه  بأن يصبر  ويصابر في استغلال  ما وهبه من طاقات حتى يُمّكن للدين الذي ارتضاه له ربه الرحمن الرحيم في هذه الأرض﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾(آل عمران: 200) فدون توافر شروط الصبر والمصابرة والرباط والتقوى معًا .. لن يكون لمسلم من الفلاح نصيب.

ولعل خير دليل على مستوى السلوك الذي ينبغي أن يعيشه الإنسان المحسن من الكد الذي لا يتوقف؛ على نحو لا يدانيه فيه صاحب دين آخر؛ هو ربط  القرآن الكريم بين المستوى الرفيع لأداء المسلم لشعيرة قيام الليل بين يدي ربه الرحيم، وبين الإنفاق من ماله على المحتاجين،. فها هي مواضع قرآنية ثلاثة تكرر نفس المعنى تقريبًا:

1- فتصف سورة (الفرقان) عباد الرحمن – من بين ما تصف- أنهم رغم كونهم يبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، إلا إنهم يكدحون نهارًا فلا يكسبون فقط ما يكفي حاجتهم وحاجة من يعولون، وإنما يتوافر لهم مزيد من المال فينفقوه على غيرهم، دون إسراف ولا تقتير ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67 )﴾  

2- ويتكرر المعنى في سورة (السجدة)﴿ تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) ﴾

3- ثم تؤكد سورة (الذاريات) على صفات المتقين المحسنين بنفس المعنى أيضًا﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16 (كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19) ﴾. 

 وهكذا يُشير القرآن في المواضع الثلاثة إلى ذروة جهد المسلم في التقرب لربه العظيم، عبر قيامه جل ليله بين يديه، وإلى ارتباط هذا المستوى الرفيع من الجهد التعبدي- الذي لا يكاد يذوق معه صاحبه  طعم النوم ليلًا إلا قليلًا- بالعمل الدءوب لكسب الرزق نهارًا، على نحو لا يُمكّنه  فقط من كسب ما يكفيه من نفقات نفسه ومن يعول، وإنما يُمكّنه أيضًا من كسب قدر  من المال يتخطى نصاب الزكاة في نهاية كل حول، فينفق منه، ويحسن به إلى كل محتاج، حتى ولو كان غير مسلم.

 إن تلكم الآيات الكريمات تكاد تقول لنا هذا هو الإنسان الجدير بأن يوصف بالإنسان "المسلم بحق". فها هو  المشهد القرآني في سورة السجدة، يقرر – باستخدام إنما التي تفيد الحصر مع القصر مع التوكيد- أن هذا هو حال من يؤمن بآيات الله تعالى... وكما لو كان من لا يصل به الحال إلى ذلكم السلوك لا يؤمن بحق بآيات الله تعالى .

 وفي سورة الفرقان يتحدث المشهد القرآني عن سمات عباد الرحمن، وكأن من لا يتسم بهذه السمات - التي تجعله رحمة للعالمين- لا يليق به أن يدّعي أنه عبد للرحمن، وهو الادعاء الذي يعلنه للعالمين على مدار الليل والنهار في صلواته الخمس عندما يقر -بعدد ركعاتها-  في سورة الفاتحة، أنه لا يعبد إلا  ربه رب العالمين؛ الذي تتصف ربوبيته للعالمين أنها ربوبية صادرة من الرحمن الرحيم. 

 نفس الأمر يتكرر في المشهد الذي حوته سورة الذاريات، والذي  يصف المتقين بـ ﴿إِنَّـهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ﴾، وكيف أنه يعلن لنا أن هؤلاء المحسنين استحقوا الوصف الإلهي بأنهم محسنون؛ لكون أعينهم لا تكاد تذوق النوم ليلًا إلا قليلًا ..أما أجسادهم فهي أيضًا لا تكاد تذوق الراحة نهارًا إلا يسيرًا.. وأنى لها أن تعرف لهذه الراحة مذاقًا وهم يضربون في الأرض ليعولوا بفائض كدهم - أيضًا- كل سائل ومحروم؟!

كذلك ثمة دليل على مستوى السلوك الذي ينبغي أن يعيشه الإنسان المحسن، والذي يتطلب كدًا واجتهادًا لا يكاد يتوقف، على نحو لا يدانيه فيه صاحب دين آخر؛ هو تلك المسؤولية الملقاة على عاتقه، والماثلة في التحرك الدؤوب لحماية رزق المستضعفين في الأرض؛ وهو ما تجلى فيما عرضته سورة الكهف حول عزم النبي موسى- سلام الله عليه -على أن يسير أحقابًا مهما لاقى في مسيرته تلك من نصب، ليتعلم من العبد الصالح مزيدًا من الرشد. ثم يكون ثُلث ما تعلمه من ذلكم الرشد - في هذه الرحلة النبوية الشاقة - هو مسؤولية المسلم في الحفاظ على رزق أي مستضعف من أي بغي يقع عليه﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴾(الكهف:79). 

والمتأمل في هذه الآية الكريمة يجد أنها لم تذكر كون هؤلاء المساكين المستضعفين مؤمنين أو غير مؤمنين؛ وكأنما تقول لنا أن علة إرسال نبي وعبد صالح لهم من قبل رب العالمين، الرحمن الرحيم، المتكفل برزق خلقه؛ حتى ولو كانوا غير مؤمنين-  هو حفظ رزقهم من أن يبغى عليه أحد. 

 وفي ذلكم تذكير لكل مؤمن أنه مسئول عن حماية رزق كل إنسان مستضعف من أي بغي يتهدده، بغض النظر عن كونه مسلمًا أو غير مسلم – إذا ما استطاع إلى ذلكم سبيلًا – وأنه مسئول عن التكفل برزقه، إذا ما فقد مصدر رزقه، أو كان غير قادر على أن يحصل من الرزق ما يسد به رمقه، أو لم يجد لكسب الرزق طريقًا.

وهكذا؛ فوقوف المسلم عند ممارسة العدالة دون الانتقال إلى الإحسان-مع امتلاك القدرة على ذلك-  يعني أننا لن نستطيع وصفه إلا بكونه إنسانًا  يؤدي الشعائر التعبدية التي أمره بها الدين الذي ينتمي إليه(صلاة، صيام، حج) دون أن تكون ثمة فاعلية حقيقية لتلكم الشعائر في حركته في هذه الحياة، مما  يجعل إسلامه يظل  منقوصًا، ولن يرتقي به إلى أن يكون من زمرة ﴿الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾( )