سمات الانسان المسلم بحق ج1

السوسنة  - وضح أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك، والأمين العام للمجمع الدولي لإعادة بناء الفكر الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمود السماسيري، في القسم الرابع من كتابه" اخي المسلم هل انت انسان" سمات الانسان المسلم بحق، وذلك بعد عرض 3 عناوين رئيسية حول" الخروج عن الفطرة الحيوانة والدخول في الفطرة الشيطانية" والخروج عن حدود العدالة كسمة للفطرة الحيوانيةما السمات التي تمنح سلوك الفرد ككيان مستقل صفة الإنسانية ؟ ج1  وج2

 
وقال السماسيري في هذا الجزء ، انه إذا كان هم الأقسام الثلاثة التي ضمتها الصفحات السالفة قد انصب على الإجابة على التساؤلات الثلاثة الأولى من التساؤلات الستة التي طرحناها في مقدمة الكتاب،  فإن هم هذا القسم ينصب حول تقديم إجابة على التساؤلات الثلاثة الباقية منها. ويمكن صياغة هذه التساؤلات هنا بصورة أخرى؛  ألا وهي:

ماذا لو ارتقى كل إنسان يعتنق دين الإسلام إلى مستوى العدالة في قوله، وفعله، وشعوره، أو أخذه أو عطائه، مع كل من يتعامل معه، هل يعني هذا أنه أصبح مسلمًا حقا؟!

إذا كانت الإجابة نعم؛ سوف يصفعنا تساؤل هو: وما الذي سوف يميزه – حينئذ- عن شخص ينتمي لدين آخر، ويطبق معايير العدالة بحذافيرها عند التعامل مع الآخرين؟! أو بمعنى آخر، ما الذي يجعل وصفنا لهذا الإنسان- بأنه إنسان مسلم- وصفًا يحمل دلالة وقيمة مضافة وفارقة، عن وصفنا لشخص آخر بأنه  بوذي، أو سيخي، أو غيرها من الأديان الوضعية، يتعامل مع غيره بذات الدرجة من العدالة؟!
 
هل يمكن أن نُجيب: نعم إن هذا الفارق هو الشعائر التعبدية من صلاة، وصوم، وزكاة، وحج وخلافه؟!..  لو كانت تلك هي إجابتنا.. سوف يُرد علينا بالقول: إن كل الأديان أيضًا بها شعائر تعبدية، وإذا كان تمايز الإسلام عن غيره من الأديان لا يتخطى حدود أداء تلكم الشعائر، فلا مراء أن أي دين له شعائر أقل كلفة وإرهاقًا، وربما أكثر متعة لمعتنقيه، هو دين جدير بأن يصبح أكثر إغراءً للناس باتباعه، لاسيما إذا  لم يكن ثمة تكاليف أخرى تترتب على اعتناقهم إياه.. إذًا: ما هي تلكم الإجابة؟! 
 
حتى نجيب على ذلكم التساؤل نضرب في هذا الصدد مثالًا.. هب أن ثمة شخصين؛ أحدهما مسلم هو زيد بطل مثلنا السابق، والثاني بوذي اسمه" يونج" يتشاركان مصنعًا صغيرًا مع شخص ثالث لا دين له اسمه "مارك"... يتعامل زيد مع شريكيه "يونج" و"مارك" بصورة تتنافي مع العدالة التي تفرضها عليه فطرته الإنسانية السوية؛ فهو يسعى للحصول على منافع من شراكته تلك، أكثر مما يتحمل من أعباء، ولا يتفانى مثل شريكيه في العمل، ناهيك عن عدم التزامه بمواعيد عمله، وعدم حرصه على الارتقاء به، وغير ذلك من سلوكيات تناقض حرصه -عند اقتسام الأرباح نهاية كل شهر- على أخذ نصيبه كاملًا غير منقوص.
 
على الجانب الآخر نجد "يونج" يتعامل مع شريكيه زيد و"مارك"  بالعدالة التي تمليها عليه فطرته الإنسانية السوية؛ فهو ملتزم بمواعيد العمل، متفانٍ مثله مثل "مارك" في العمل، حريص على الارتقاء به.
 
في موعد الصلاة يستأذن زيد شريكيه "مارك" و "يونج" للذهاب إلى المسجد المجاور، كما يستأذن "يونج" في موعد صلاته شريكيه زيد و"مارك" للذهاب إلى المعبد القريب، هذا بالإضافة إلى قيام كل منهما بشعائر دينية أخرى يرى أنها تجعل معبوده راضيًا عنه. لكن شريكهم "مارك" لا يعرف عنها شيئًا.. بل لا يبالي أن يعرف عنها شيئًا.
 
هب أن "مارك"- الذي لا دين له - أراد أن يفاضل بين الإسلام والبوذية. وهو ليس لديه أية معرفة أو خبرة سابقة بالدينين، اللهم إلا ذهاب كل من شريكيه للتقرب للإله الذي يعبده، ولم يخطر مطلقًا  بباله أن يسأل أي منهما عن حقيقة دينه.. هل يمكن لـ"مارك" حينها أن يقرر أن شريكه زيد ينتمي إلى دين أفضل من الدين الذي ينتمي إليه شريكه "يونج"؟ 
 
الإجابة: محال!  فما طبيعة ذلكم الدين الذي يسمح الخالق المعبود فيه أن تتنافى علاقة معبوديه بغيرهم من الناس مع العدالة التي فطر جميع الناس عليها، ثم يقبل تضرعهم إليه وزلفاهم، ويتولون وهو راضٍ عنهم؟!      والمنطق يقول؛ إن حدث ورغب "مارك" في  الانتماء إلى دين أحد شريكيه سوف يختار الدين الذي يعتنقه "يونج" صاحب السلوك النابع من فطرة إنسانية سوية؛ ألا وهو البوذية. 
 
 ثم هب أن كلًا من زيد و"يونج" يتعاملان مع بعضهما البعض ومع شريكهما "مارك" بما تمليه عليهما دائرة الفطرة الإنسانية السوية؛ من العدالة في القول والفعل والشعور، وفي الأخذ والعطاء.. وفي موعد الصلاة يذهب زيد إلى مسجده ويدلف "يونج" إلى معبده .. وهب أن "مارك" أراد أن يفاضل بين ديني صاحبيه، رغبة منه في اعتناق الدين الأفضل من بينهما، دون أن يطلب من أي منهما أن يحدثه عن حقيقة الإله الذي يعبده، أو عن طبيعة الشعائر التعبدية التي يتقرب إليه بها... بالطبع ليس ثمة ما يمكن أن يلحظه "مارك" في سلوك زيد كشيء مميز عن سلوك "يونج" على نحو يدفعه لحسم اختياره، واعتناق الإسلام دينًا دون البوذية، وهو مطمئن القلب، قرير العين هانيها.
       
وهنا يثور تساؤل هو: ما الذي يجعل-إذن - وصف زيد لنفسه بأنه مسلم يحمل شيئًا ذا دلالة بالنسبة لـ"مارك"( )، على نحو يجعله يحسم اختياره باعتناق الإسلام دون البوذية، أو غيرها من الأديان عن قناعة تامة لديه؟( ) أو بصيغة أخرى: ما السمات الرئيسة التي يجب أن تتوافر في سلوك زيد حتى يكون جديرًا أن يوصف بأنه سلوك إنسان مسلم بحق؟!
 
 الإجابة البدهية هي: عندما يُشكل الإسلام فارقًا نوعيًّا في سلوك زيد مع شريكيه، ومع كل من حوله من الأفراد والجماعات والمؤسسات، والمجتمعات.. بل والوجود بأسره...فارق يجعل سلوكه مع غيره يتمايز عن سلوك أتباع أي دين آخر مع غيرهم.
وهنا يثور التساؤل الذي انتظرنا الإجابة عليه طويلًا ألا وهو: ماذا  يكون ذلكم الفارق
 
الواقع أن ذلكم  الفارق لا بد أن يكون شيئًا يسمو على العدالة التي تفرضها الفطرة الإنسانية السوية على زيد في التعامل مع الآخرين. وهنا نتساءل.. ما درجة التعامل تلك التي تسمو على  درجة العدالة مع الآخرين؟!
 الإجابة: إنها درجة الشعور الغامر نحوهم بالرحمة.. الرحمة التي تدفعه  للتفضل عليهم والإحسان إليهم سواء في قوله أو فعله.( )  
 
 ومثل هذا الشعور يجعل سلوك زيد- كمسلم - لا يقف عند تحري العدالة في الأخذ والعطاء، أو الحقوق التي يطلبها من شريكيه، والواجبات التي يضطلع بها نحوهما، وإنما يتخطى ذلك إلى التفضل عليهما ببذل مزيد من الجهد في العمل عما يبذلاه .. والتغاضي عن تقصيرهما إذا ما كان لأمر خارج عن إرادتهما، وتحمل عبء العمل عنهما إذا ما ألم بهما عارض يمنعهما من العمل، والعفو عن زلاتهما إذا ما أخطئا التقدير أو التصرف في شأن ما من شؤون العمل، والأخذ بأيدهما للارتقاء بمهاراتهما وقدراتهما بما يجعلهما أكثر قدرة وعطاء.. كل ذلك وغيره.. دون أن ينتظر منهما جزاءً ولا  شكورا !!   
 
هذا ما ينبغي أن يدركه كل مسلم أن دينه قد جاء لإقامته في هذا الوجود...حتى إن العلة الرئيسة التي أعلن القرآن أنها تقف خلف إرسال نبيه صلى الله عليه وسلم لم تكن إقامة العدل، وإنما تتضمن -بداهة- ذلك العدل، ثم تعلوه إلى تحقيق الرحمة لكل العالمين، وليس للمسلمين وحدهم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:107)
 
وهذا ما أكده نبيه - صلى الله عليه وسلم - في قوله "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ, ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء( ) "  وقوله "لَا يَرْحُمُ اللهُ مَنْ لَا يَرْحُمُ النَّاسَ" )   ( ولنلاحظ هنا أن المصطفى لم يقل هنا من لا يرحم المؤمنين، وإنما قال من لا يرحم الناس.. كل الناس.
 
 وهو ما يعني أن زيدا ذلكم المسلم مأمور من قِبل دينه ألا يقف في تعامله مع الآخر- أيًّا كانت ملته- عند ما تأمره به فطرته الإنسانية العادلة، وإنما مأمور أن يرتقي من حالة العدل إلى حالة الإحسان إليه في قوله وفعله، على نحو يُمكّنا من القول: إن أي إنسان مسلم لن يكون إنسانًا مسلمًا بحق إلا إذا سعى قدر طاقته أن يحمل على عاتقه- إلى يوم يلقى ربه- الاضطلاع بالمهمة التي بُعث من أجلها رسوله صلى الله عليه وسلم، ألا وهي إقامة الوجود الرحيم(الطيب) للعالمين من حوله.
 
ولن يتسنى للمسلم ذلك إلا إذا كان محسنًا لغيره في فعله وقوله وشعوره.. فهو يُحسن إلى الجاهل بعلمه وحلمه، والذليل بجاهه وعزه) (، والفقير والمسكين بماله، والضعيف بقوته، والمريض بصحته، والمسيء بعفوه وصفحه، والقاطع بوصله( )، والمنكوب بغوثه، والكبير والصغير بشفقته ورأفته، والعاصي بدعوته إلى الهدى.. وإن لم  يكن ذلكم همه وديدنه... فأنى له أن يدعي أنه من أتباع نبي الرحمة للعالمين( ) ؟!!     
 
قد يقول قائل: هناك من الناس من يمارس الإحسان والتفضل-النابعان من الرحمة- دون أن يكون معتنقًا لدين يأمره بذلك،   
 
والواقع أن هذه حقيقة لا يمكن إنكارها، فثمة أُناس يمتلكون نفوسًا سامية  تدفعهم  للإحسان إلى الآخرين (أفراد أو مؤسسات أو ربما مجتمعات)، إلا أن الإشكالية أن ممارستهم لهذا النوع من الإحسان ستظل – في النهاية- أمرًا تطوعيًّا؛ فلا يمكن إجبار شخص ما أن يكون محسنًا للآخرين، ما لم يكن ذلك عن رضا نفس وطيب خاطر. وإذا ما قرر في لحظة ما التوقف عن ذلكم الفعل الإحساني، والاكتفاء بالفعل العادل، فلن يلزمه بالعودة إلى سبيل الإحسان أحد. 
 
 بينما في الإسلام يختلف الأمر؛ فمن يعتنق الإسلام دينًا يعلم أن علة خلقة في هذا الوجود هو ما جاء في قول خالقه تعالي﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾ ثم يبيّن هذه العلة فيقول: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾(الملك:1-2).   وكذلكم يتكرر تأكيد تلك العلة في قوله تعالى ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّ?ُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلاً۬ ﴾( الكهف :7 ). وهو ما يعني أن إحسان المسلم في حركته في هذه الحياة، وفي تعامله مع كل من حوله، هو أمر مفروض عليه، وليس أمرًا تطوعيًّا؛ وكيف يكون ذلكم تطوعًا وتفضلًا، وهو علة وجوده بأسره؟! 
 
أما كيفية تحقيق ذلكم الإحسان فقد فصلها له خالقه الرحمن الرحيم  فيما أرسل به رسله من وحي يحمل منهجًا، إذا ما اهتدى به استطاع أن يقيم حياة تراحمية طيبة﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ  مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل:97).. حياة لا ضلال فيها ولا شقاء ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ  ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴾ (طه:123 ). ووعد من يلتزم بهذا المنهج - الذي  أتى ليقيم الوجود الدنيوي الرحيم- ويكافح في سبيل تمكينه وإعلائه، حتى وإن كلفه هذا الالتزام ماله أو نفسه، بحسنة الدنيا، ونعيم الآخرة( )﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾(النحل: 30-32)     
 
وقد أعلن- جل وعلا- محبته لعباده المحسنين في أكثر من آية فقال: ﴿ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران: 134)، وأخبر تعالى أن رحمته قريب من المحسنين ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف:56) وبشر عباده المحسنين بقوله ﴿فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (هود:115)، وبقوله تعالى ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الحج:37). 
 
ولعل خير بشرى للمحسنين هي تلك التي زفتها لهم سورة الرحمن.. بعدما ذكرت أوصاف الجنتين اللتين وعد الله تعالى بهما من خاف مقامه العظيم.. عندما أقرت أن نعيم هاتين الجنتين ليس إلا جزاء إحسانهم في الدنيا ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن:60) .وما زفتها لهم-أيضًا- سورة يونس ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾(يونس:26)
     
 أما من لا يؤمن أن لهذا الوجود خالقًا مهيمنًا، ولا يؤمن- من ثم- بذلكم الوعد الإلهي، ويكون تصوره للوجود مبنيًّا على عقيدة ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾ ( المؤمنون:37) فإحسانه إلى هذا الوجود ليس فرضًا عليه .. وإن أحسن فليس لديه سلوان بأنه سينال مقابلًا أو مردودًا مساويًّا للتضحية والبذل والعطاء التي يتطلبها الإحسان للآخرين في هذه الحياة، وهو ما يجعل الإحسان- بهذا المعنى- أمرًا يحمل خسارة للمحسن لا يُقبل على تحملها طوعًا إلا قلة من الناس، ممن يحملون بين جنباتهم نفوسًا سامية.
 
بينما لدى المسلم يقين  راسخ أن الله تعالى سوف يعوضه عن إحسانه في الدنيا خيرًا، أما الآخرة فسوف يؤتيه الله فيها من لدنه -جزاء إحسانه- أجرًا عظيما ﴿إنَّ اللَّه لَا يَظْلِم مِثْقَال ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَة يُضَاعِفهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾(النساء: 40).
 
وهكذا؛ فالإحسان، لا العدل( ) هو أمر ملزم للفرد المسلم، وللجماعة، والمؤسسة، والمجتمع، والأمة المسلمة بأسرها؛ لأنه هو الضامن الوحيد لبناء وجود طيب ورحيم للعالمين في الدنيا، وهو الطريق الرئيس الذي يُمكّن المسلم من نيل رضوان الله-عز وجل- في الدنيا والآخرة.
 
بل إن توقف المسلم (فرد، مؤسسة، جماعة، مجتمع) عن ممارسة الإحسان، أو تقصيره في السعي لامتلاك المقومات التي تُمكنه أن يصبح محسنًا للوجود، مع القدرة على ذلك، هو أمر يوقعه تحت طائلة العقاب الإلهي.
 
ولعل كون الزكاة ركنًا من أركان الإسلام الخمس، دليل قاطع على أن إحسان المسلم للآخرين ليس أمرًا تطوعيًّا؛ ذلك لأن عدم تأديته لها متعمدًا، يخرجه من ربقة الإسلام برمته، رغم كونها إحسانًا، وليس عدلًا.
 
ونقتبس هنا نصا مطولا لطرح عميق لمعنى الذكاة"   نقلا عن صفحة الصديق المفكر د يحي جاد على موقع الفيس بوك"*  الزكاة اقترنت في كتاب الله المجيد مع الصلاة : في سبع وعشرين موضعاً ("أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وارتباطُها بالصلاة، بشكلٍ شِبْهِ دائمٍ في الآيات، يدل على أهميتها وتشابهها مع الصلاة؛ في كونها [مطلوباً] مستمراً طوال العام، بعكس "الصيام السَّنَوي" و"الحج العُمْرِي" اللذَيْن جاءا منفردَيْن، وكان حَثُّ الآيات فيهما مناسِباً لذلك.
ولما صار الناس يظنون - بحسب التراث الفقهي التقليدي- أنَّ الزكاةَ هي فقط [مطلوبٌ] سنويٌّ كالصيام : كان هذا الحديث الذي نبين فيه أنَّ الزكاة [مطلوبٌ] مستمرٌّ طوال العام.
 
وإذا كانت الصلاة : هي [الشعيرة] اللازمة المستمرة التي تربط وتصل علاقة الإنسان بربه،
 
فإن الزكاة : هي [مطلوبٌ] مُتَعَدٍّ مستمرٌ؛ تربط الإنسانَ بمجتمعه وبالناس مِن حولِه،
 
فيكون المسلم متنقلاً، طوال حياته، بين :
 
- تعبدٍ لهِ لازمٍ مستمرٍ (الصلاة)، هو حق الله الخالص، [والذي أيضاً ينعكس على المسلم إيجابياً في حركته في الحياة].
 
- وتعبدٍ له مُتَعَدٍّ (الزكاة)، هو حق الناس، وهو أيضاً حَقٌّ لله [باعتباره أداءً من الإنسان لفرض من فرائض الله، يتقربُ الإنسانُ إلى الله بإحسان أدائه، ويحاول به أن يتدرجَ في معارج القُرب منه سبحانه].
 
فلا ينسى الإنسانُ حقَّ الله الخالص [والذي له أيضاً انعكاسٌ مباشرٌ على حركة المسلم في الحياة]،
 
ولا ينسى حقَّ الناس الخالص [والذي له أيضاً انعكاسٌ مباشرٌ على حركة المسلم نحو العروج لله والقُرب منه].
 
* والمتأمل في الآيات التي أَمَرت بـ "إيتاء الزكاة" سيجد أنها أشمل وأعم مِن تلك الآيات التي حَثَّتْ على الإنفاق :
- إذ التوجيهُ في الزكاة : خطابٌ لكل مسلم (فقيراً كان أم غنياً)،
- أما خطابُ "الإنفاق" فإنه لكلِّ من لديه المالُ فقط،
وهذا يدل على أن "الإنفاقَ" هو "أحد أنواع الزكاة" لا "كلها" 
 إذا: الزكاةُ : تزكيةٌ للنفس،
- والتزكية تتحقق حين تقدم تلك النَّفْسُ عطاءً للآخَرين بلا مقابل مادي، وإنما لوجه الله،
- والنَّفْسُ تُعْطِي مما أعطاها الله،
- وعطاءُ الله من النِّعَمِ والمواهب متنوعٌ ومتعددٌ،
- وكلُّ إنسان لا يخلو من نعمةٍ أو موهبةٍ أو خبرةٍ يستطيع بها خدمةَ أو مساعدةَ مَن حوله،
- وبهذا تكون الزكاةُ من جنس ما أنعم الله به على الإنسان وأعطاه من مواهب، أو ما اكتسب من خبرات في الحياة، فيُعْطِي الآخَرين تطوعاً منه بلا مقابلٍ؛ كي يُزَكِّيَ نَفْسَه.
فبالعطاء تزداد الرحمة بداخله،
- ويَمْنَحُ الحبَّ لِمَن حَوْلَه،
وتلك هي خلاصةُ الإنسانيةِ، إنْ حرص عليها : زادت إنسانيته واستمرت، وإن لم يكن : فإنها تتناقص ويفقدها مع السنين.
فـالعامل البسيط : يمكن أن يزكي بعمله لمساعدة الآخرين المحتاجين في فترات ما طوال العام،
- والفَنِّيُّ : يمكن أن يصلح للفقراء ما احتاجوه في فترات ما طوال العام،  وصاحب السيارة : يحمل الناس فيها، ممن يحتاجون لذلك والتاجر: يعطِي مما أعطاه الله من مال،
  وهكذا المحامي والمهندس والطبيب الخ،
-  وهذه أمثلة فردية جداً، وصغيرةٌ جداً، فضلاً عن الأمثلة "الجماعية" و"المؤسسية"، الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة، الظرفية أو الموسمية أو السنوية أو الدائمة، التي يمكن إقامتها .. إلخ 
 
فيكون المجتمع كله مُزَكِّياً عن نفسه في كل المجالات، ومغطياً كل الاحتياجات، ولا يوجد مجال إلا ونستطيع أن نخدم المجتمع فيه، أو نخدم الفقراء والمساكين وذوي الاحتياج، وأعمالُ التطوع كثيرة جداً.
 
وهذا يعني ببساطة أنَّ كلَّ فردٍ عليه أن يقومَ بعملٍ تطوعي، أو أنْ يشتركَ في عمل تطوعي، مِن جِنْسِ ما يعمله أو يُجيدُهُ ويُحْسِنُهُ؛ كي يُزَكِّيَ نَفْسَه.
 
وبهذا تكون الزكاةُ كالصلاة : عبادةً مستمرةً متكررةً من الفرد، طوال العام، وليست مخصوصةً بيومٍ واحدٍ في العام كما انتشر بين الناس حين حصروها في الانفاق فقط؛ إذ الانفاقُ خاصٌّ بمَن لديه المالُ الذي يَزِيدُ عن حاجته فينفق منه.
 
* أما السؤال حول "ماذا ينفقون مِن أموالِهم ؟" فقد أجاب عليه قوله تعالى: "وَيَسْألُونَكَ : مَاذَا يُنفِقُونَ ؟ قُلِ : العفوَ، كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" [البقرة 219]؛ فبعد أنْ جاءت الآياتُ بالحث على الإنفاق والترغيب فيه، لسدِّ حاجات الفقراء والمساكين وغيرهم ممن يحتاجون إلى الإنفاق، جاء السؤال عن "مقدار ما ينفقونه من أموالهم"، فكانت الإجابة : "العفو"؛ أي أنفِقُوا العفوَ.
 
وأصلُ "العفو" في اللغة : "الزيادة"، فعَفَا يعفو : إذا زادَ ونَمَا، وهو هنا : "ما زاد على حاجة المرء من المال"؛ أي "ما فَضَلَ بعد نفقته ونفقة عياله بمُعْتَادِ أمثاله"؛ فالانفاق يكون من العفو بحيث لا يكون هناك ضرر ولا ضرار.
فالآية هنا تحدد المقدار في الإنفاق بـ "ما زاد عن حاجة الإنسان، في قصد واعتدال، بلا سرف ولا تقتير".
 
وهذا التوزيعُ للمال : يدلنا على فلسفة الإسلام في المال؛ حيث إنَّ المال هو مال الله الذي وهبه للإنسان، ومالُ الله هنا يعني "مالَ المجتمع كله"؛ يستفيد منه كلُّ خلق الله - "خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً"- ، ولكنْ لَمَّا اجتهد وكَدَّ بعضُهم في تحصيله : كان لهم بعضُ التملك له، على أن يبقى جزءٌ منه في غير مُلْكِهم، يعودُ للأرض والمجتمع والإنسان الذي كَوَّنُوا بهم ثَرَواتهم، فلم يكن جهدهم فقط هو مَن كَوَّنَ ذلك المال وتلك الثروة، وإنما ما ذكرنا أيضاً.
 والزكاةُ : تزكيةٌ للنفس،والنفس تُؤْتِي زكاتَها عن كل ما وهبها اللهُ مِن نِعَم،والمالُ هو أحد النعم، وليس كلها.[وعليه]، فمَن أراد أنْ يُزَكِّي، فعليه :
 
- أنْ يعطيَ الآخَرين مما أعطاه الله مِن نِعَمٍ ومهاراتٍ وخبراتٍ؛ فيقدمها لِمَن يحتاجها دون مقابل،
- وأنْ يكونَ عمله هذا مستمراً على الدوام، [قَدْرَ استطاعته]، لا يوماً معيناً في العام [فقط]،
- وكذلك يُنْفِق مِن ماله أيضاً [..].
 
فإيتاءُ الزكاة : أمرٌ لكل مؤمن كالصلاة، وحَصْرُها في الإنفاق بالمال : سيحصرها فقط في الأغنياء مالياً، وسيُخْرِجُ عدداً كبيراً مِن المؤمنين مِن مفهوم "إيتاء الزكاة"، بينما الزكاةُ : مفهوم واسع يستطيعُ إيتاءَهَا الغنيُّ والفقير". 
 
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة