الخروج عن الفطرة الحيوانة والدخول في الفطرة الشيطانية

السوسنة  - طرح أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك، والأمين العام للمجمع الدولي لإعادة بناء الفكر الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمود السماسيري، في القسم الثالث من كتابه " اخي المسلم هل انت انسان" عنواناً مهماً جاء باسم " الخروج عن الفطرة الحيوانة والدخول في الفطرة الشيطانية".

واوضح السماسيري في هذا الجزء انتقالة الإنسان بعد الخروج عن حدود العدالة كسمة للفطرة الحيوانية نحو الدخول في الفطرة الشيطانية".
 
وطرح سؤال :بماذا يمكن أن نصف سلوك شخص متطرف في عدوانيته وتجاوزه للعدالة على نحو لا يهدف منه لأن يجلب لنفسه نفعًا أو يدفع عنها ضررًا- مثلما هو الأمر بالنسبة للفطرة الحيوانية- وإنما يهدف إلى إيقاع ضرر محض بطرف آخر، أو حرمانه من نفع مستحق، دون أي مردود ملموس يعود عليه؟!

وبين انه وللإجابة على هذا التساؤل نعود هنا للصراع بين صاحبينا زيد وعمرو؛ غير أن محور الصراع بينهما- هذه المرة - ليست "دجاجة" زيد، وإنما سيارته ..تلك السيارة التي قرر عمرو أن يستولي عليها  بمساعدة آخرين، وبالقوة المسلحة، وأمام ناظري زيد .. لا مراء أن عمرو  ينقل هنا نفعًا من زيد إلى نفسه بغير وجه حق، نعم هذا الأمر جريمة أكبر بكثير من جريمة خطف الدجاجة، إلا أن ثمة تشابها بين الجريمتين، ألا وهو أنهما تقعان في نطاق ما تسمح به الفطرة الحيوانية التي تسعى لتحقيق النفع، أو دفع الضرر عن نفسها على حساب غيرها، طالما امتلكت لتحقيق ذلك سبيلًا.

لكن هب أن  عمرو  بدلا من أن يسرق سيارة زيد بالقوة-  قام بمساعدة آخرين بتكبيله وإشعال النار فيها أمام ناظريه.. هل يمكن أن نصنف هنا حرق عمرو لسيارة زيد بأنه سلوك ينتمي إلى الفطرة الحيوانية؟!

 الإجابة هي: بالطبع لا... فمثل هذا السلوك لا يمكن تصنيفه على أنه سلوك حيواني؛ لأن الفطرة الحيوانية لم تُجبل عليه مطلقًا، بل إن مثل هذا السلوك لا يخطر بعقل الحيوان أساسًا. 

إذن؛ ما طبيعة هذه الفطرة التي تسمح لعمرو أن يوقع بزيد ضررًا جللًا، دون أن يعود عليه أي نفع، اللهم إلا الشعور بالشماتة والتشفي في زيد؟!

واشار الى ان الواقع أن طبيعة هذه الفطرة لا بد أن تنتمي إلى دائرة أدنى من تلك الفطرة الحيوانية، ألا وهى دائرة الفطرة الشيطانية.. فالشيطان فقط هو الذي يسعى إلى إلحاق الأذى بالآخرين بدافع الكبرياء الذي يجعل مشاعر الحقد والحسد والكراهية تتملكه تجاه غيره، دون أي مردود يذكر عليه، سوى التشفي والشماتة فيمن وقع عليه ذلكم الضرر.

 قد يعترض مُعترض فيقول: هل يحق لنا أن نصف مسالك الإنسان الذي كرمه الله – تعالى- بأنها مسالك شيطانية؟! نقول له نعم.. فالقرآن الكريم لم يكتف بوصف مسالك صنف من الناس بأنها   شيطانية؛ وإنما وصف أصحاب تلكم المسالك بوضوح شديد بأنهم شياطين، لأنهم انغمسوا في هذه المسالك على نحو جعلهم يعادون أعدل البشر، وأرحمهم، وأشرفهم.. ألا وهم  الأنبياء  ﴿وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾(البقرة:14)،وشياطينهم هنا رؤساؤهم( ). وفي موضع آخر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام:  (112 

وبين انه ويمكن تلمس بعض ملامح ممارسة الطبيعة الشيطانية وتجلياتها في سلوك الفرد باعتباره كيانًا مستقلًا، أو سلوكه باعتباره عضوًا في جماعة أو مؤسسة" وذلك على النحو الآتي:
 
أولًا:خروج الفرد ككيان مستقل عن الفطرة الحيوانية ودخوله في الشيطانية
    
الواقع أن السلوك الشيطاني لبطل قصتنا السالفة عمرو- والذي  يقف خلفه رصيد هائل من الحقد والحسد لغيره- لا يتجلى فقط في التشفي من شخص ما؛ عبر تدمير ممتلكاته أو سمعته أو مكانته أو ما إلى ذلك، وإنما يتجلى أيضًا فيما يمكن أن يقوم به عمرو من إفساد ممتلكات، أو سمعة، أو مكانة فرد، أو مؤسسة أو جماعة ما، أو بخس نجاح معين حققته، رغبة في تدميرها أو تشويهها، أو انتقامًا من أصحابها أو قادتها.
 
وقد يصل هذا التصرف الشيطاني به لأن يعادي مجتمعًا بأكمله، ويسعى إلى تخريبه أو تشويه عقيدته التي ارتضاها، ولو على يد الأعداء، حنقًا منه - لعلة أو لأخرى في نفسه -على هذا المجتمع برمته.
 
وقد يأخذ السلوك الشيطاني لعمرو بعدًا ثانيًا مغايرًا لإيقاع الشر مباشرة بالأطراف السالفة، أو منع الخير عنها- بالقول أو الفعل- وذلك عندما تكون لديه القدرة على منع مصاب معين سيقع لأي من تلك الأطراف، دون أن يكلفه منعه إلا كلمة حق، فلا ينطقها  ، رغبة في وقوع هذا المصاب بهم.
 
كذلك عندما يمنع - بفعله أو قوله- عن تلكم الأطراف خيرًا مستحقًا، دون أن يعود عليه من ذلكم المنع شيء، كذلك عندما يُحرض  آخرون على منع الخير عنها، أو يحثهم على إيقاع الضرر بها. دون أن يعود عليه من ذلكم  شيء إلا  التشفي فيها.   
 
ثانيًا:خروج الفرد كعضو في مؤسسة أو جماعة عن الفطرة الحيوانية ودخوله في الشيطانية
       
 يُمكن القول: إن سلوك عمرو يهبط من مستوى السلوك الذي تسمح به الفطرة الحيوانية التي تسعى إلى تحقيق مصالحها على حساب غيرها، إلى فطرة أدنى هي الفطرة الشيطانية، وذلك عندما يكون همه- على سبيل المثال لا الحصر:
 
- السعي إلى تخريب المؤسسة التي هو عضو فيها، انتقامًا من صاحب هذه المؤسسة، أو صاحب القرار فيها.. دون وجه حق.  
 
- السعي إلى تخريب علاقات الأفراد في هذه المؤسسة ببعضهم البعض حنقًا على البعض منهم. أو السعي إلى تفكيك الوحدات التي تتكون منها تلك المؤسسة  أو  إضعافها. 
 
- الزج بها في صفقات أو أعمال يعلم أنها خاسرة سلفًا، أو تخريب علاقتها بعملائها، وبالمؤسسات الأخرى. 
 
- تشويه صورتها عند المجتمع الخارجي، أو عند المؤسسات المماثلة لها، أو بين عملائها. 
 
ولا مراء أن كل هذه السلوكيات - وما شابهها -  تخلُف خرابًا في تلك المؤسسة أو الجماعة، دون أن يكون ثمة مردود حقيقي يعود عليه من إدارة عملية التخريب الشيطانية تلك، سوى التشفي في قيادتها، أو أصحاب القرار فيها، أو أطراف ما داخلها.. حسدًا من عند نفسه.
 
وقد يأخذ السلوك الشيطاني لعمرو– عندما يكون جزءً من بنية مؤسسة أو جماعة ما- بعدًا مغايرًا لإيقاع الشر مباشرة بالبنية التي ينتمي إليها، أو منع الخير عنها، بالقول أو الفعل، وذلك عندما:
 
-  تكون لديه القدرة على منع مصاب معين قد يحيق بالمؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها – دون أن يكلفه ذلك إلا كلمة - فلا يسعى لمنعه، رغبة في وقوع هذا المصاب بها.
 
- كذلك عندما يسعى إلى حث الآخرين(أفراد، مؤسسات، جماعات) على حرمانها من خير مستحق لها، كذلك عندما يغري الآخرين(جماعات، مؤسسات، أفراد) بإيقاع الضرر بها.
 
وهكذا؛ وبناءً على ما سلف يُمكن القول: إننا نقف أمام ثلاثة أصناف من البشر؛ صنف ينتمي سلوكهم إلى الفطرة الإنسانية السوية، وهم الذين يمارسون العدالة(القسط) وقد يصل بهم الأمر إلى أن يكونوا دعاتها بين الناس. وقد توعد القرآن الكريم من  يقتل دعاة العدالة بين الناس بغير حق - مثلهم في ذلك مثل من يقتل الأنبياء بغير حق - بالعذاب الأليم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾(آل عمران:21)  ( ) .
 
وصنف تُعمي مصالحهم عقولهم عن تحري العدالة في سلوكهم.. وهم هنا يهبطون في سلوكهم إلى سلوك فطرة أدنى من الفطرة الإنسانية السوية، ألا وهي الفطرة الحيوانية.
 
وصنف يهبط سلوكهم دركات بعيدًا عن مستوى الفطرة الحيوانية، ويدخل بهم إلى دائرة الفطرة الشيطانية، التي تسعى إلى إلحاق الضرر بغيرها دون أن يكون هناك أي مردود ملموس عليها.
 
وبالطبع فإن الشخص الواحد منا قد يقترف تارة سلوكًا عادلًا، وهو حينها يمكن أن يوصف بكونه إنسانًا. وقد يقترف تارة أخرى سلوكًا يتنافى مع العدالة في القول أو الفعل أو الشعور أو الأخذ أو العطاء. وهنا يصعب أن  نصف  هذا السلوك  أنه سلوك نابع من فطرة إنسانية سوية، بل هو سلوك تسمح فقط به الفطرة الحيوانية. وقد يتدنى- في حالة ثالثة- لاقتراف سلوك ينتمي إلى الفطرة الشيطانية، وحينئذ ليس من العدل في شيء أن نصف سلوكه هذا بأنه ينتمي إلى الفطرة الحيوانية.
 
كما أن أي إنسان منا لن يكون جديرًا أن يوصف بأنه إنسان بحق، إلا إذا كانت العدالة هي ضابط سلوكه في كل وقت وحين.  أما إذا كان ديدنه دائمًا هو تحقيق مصالحة على حساب مصالح الآخرين (أفراد، مؤسسات، جماعات...إلخ) فإنه يستحق -حينئذ- وصفه بكونه من الدواب أو الأنعام. وإذا كان طبعه دائما هو إيقاع الأذى بالآخرين، حسدًا من عند نفسه، فإنه عندها يستحق وصفه بكونه شيطانًا عن جدارة.
 
وإذا كانت سيادة السلوك الحيواني الذي يفتقر إلى العدالة في مجتمع ما، وآثارها السلبية على أفراده ومؤسساته ومكوناته عامة تؤذن بهلاك هذا المجتمع، وإن كانت على مدى ليس قصيرًا.. فإن سيادة الآثار التدميرية للسلوك الشيطاني على أفراده ومؤسساته ومكوناته  تؤذن بهلاكه على  المدى القصير.
 
ولا مراء أن التصدي لممارسات مثل هذه النفوس التي تغلب على طباعها طباع الفطرة الحيوانية أو الشيطانية، ونهيها عن غيها وطغيانها، أمر حتمي على كل من يهمهم أمر مجتمعاتنا، بداية من أولي الأمر، ومرورًا بكل القائمين على التربية، والتعليم، والدعوة والإعلام، وانتهاءً بكل شخص يملك قدرة على التأثير فيمن حوله تأثيرًا إيجابيًّا ..حتى نحافظ جميعًا على بقاء مجتمعاتنا.. ومن ثم على بقائنا ككائنات حية على ظهر هذا الكوكب.