الخروج عن حدود العدالة كسمة للفطرة الحيوانية

السوسنة  - تناول  أستاذ الإعلام في جامعة اليرموك، والأمين العام للمجمع الدولي لإعادة بناء الفكر الإسلامي، الأستاذ الدكتور محمود السماسيري، في القسم الثاني من كتابه " اخي المسلم هل انت انسان" عنواناً بارز جاء باسم " الخروج عن حدود العدالة كسمة للفطرة الحيوانية".

وبدأ الكاتب بالإجابة على السؤال سالف الذكر عن مدى إمكانية أن نصف بالإنسانية من لا يلزمه عقله باتباع ما تمليه عليه فطرته من عدالة في تعامله مع الآخرين.

 
واستعرض السماسيري ملامح وآثار خروج سلوك الإنسان عن العدالة عندما يكون كيانًا مستقلًا.
 
وجاء ذلك بقسمين: أولا. ثم ملامح وآثار خروجه عنها عندما يكون عضوًا في مؤسسة أو جماعة، ثانيًا. والوصف الذي يليق به في الحالتين.
 
 
اولاً : خروج الفرد ككيان مستقل عن العدالة في تعامله مع الآخرين
 
قال الكاتب انه لا مراء أن زيدًا – بطل قصتنا السالفة -لا يحق له أن  يعيب على ذلكم القط الذي خطف دجاجته؛ لأن هذا الفعل لا يناقض فطرته الحيوانية، ويتفق مع حدود مدركاته العقلية، بينما محال إذا ما اقترف الفعل نفسه إنسان هو عمرو، ألا يعيب عليه زيد - بل وكل إنسان سوي- ذلكم الفعل المناقض لفطرته، ولمدركاته العقلية، والموائم لفطرة وعقلية كائنات أقل منه في درجتها، وهي الحيوانات التي تقف عند تحقيق ما ينفعها، ودفع ما يضرها، بغض النظر عن أثر  ذلك على الغير الآن أو بعد حين( ) ،أو أثر ذلك  عليها هي نفسها  بعد حين. 
 
وهو ما يعني أننا نستطيع أن نحكم باطمئنان أن فطرة من يقترف ذلكم الفعل غير العادل منا نحن البشر، وهو- في مثالنا السالف- عمرو لا تغاير في فاعليتها هنا فطرة الحيوان، وهو هنا "القط" في شيء. كما أن حدود فاعلية عقلانية عمرو في ضبط مسالكه، لا تغاير هنا حدود فاعلية عقلانية ذلكم الحيوان (القط) في شيء.      
 
واشار الى ان ذلك بالطبع؛ ينطبق هذا الحكم ذاته على عمرو أيضًا - عندما يسمح له عقله أن يتعامل مع الجماعات أو المؤسسات أو المجتمع الذي ينتمي إليه، أو مع جماعات أو مؤسسات المجتمعات الأخرى، على نحو يسعى فيه لأن يُحرز لنفسه- عبر قول أو فعل ما- نفعًا ليس له فيه حق، أو يدفع عنه ضررًا مستحقًا، كذلك عندما يُحرض الآخرين على ارتكاب فعل يتخطى حدود العدالة ضد طرف ما، أو عندما يُيسر لطرف معين اقتراف هذا الفعل، أو يغض الطرف عنه، طمعًا أن يعود عليه نفع ما في النهاية، أو سعيًا لدفع ضرر محتمل يمكن أن يحيق به، كذلك عندما يستخدم ما وُهبه الله – تبارك وتعالى- من قدرات عقلية لإقناع الآخرين بعدم فعل الخير لطرف ما، طمعًا أن يعود عليه من ذلكم الخير الذي نجح في منعه عمن يستحقه نصيب، كما ينطبق عليه عند امتناعه عن، أو تقصيره في حث الآخرين على الالتزام بالعدالة في مسالكهم، مع قدرته على ذلك، وعند تقصيره في إرشادهم إلى السلوك العادل مع غيرهم.  
 
ثانيًا:خروج الفرد عن العدالة كعضو في مؤسسة أو جماعة  
 
ويتجلى خروج عمرو أيضًا عن نطاق فطرته الإنسانية العادلة، ودخوله في نطاق فطرة لا تبالي إلا بما يحقق مصالحها.. ألا وهي الفطرة الحيوانية، حينما يكون عضوًا في مؤسسة أو جماعة ما، في صور عدة... منها –على سبيل المثال-لا الحصر:
 
 - عندما يسمح له عقله، أن يسعى إلى تحقيق المزيد من المكاسب من المؤسسة أو الجماعة التي ينتمي إليها، دون تأدية ما عليه من واجبات تعادل هذه المكاسب، وهو ما يعنى تعرض هذه المؤسسة، إذا ما ساد هذا السلوك بين من ينتمون إليها، إلى الانهيار الحتمي في النهاية.  
 
- كذلك عندما لا يساوي عمرو – إذا كان من أصحاب القرار في هذه المؤسسة أو الجماعة- بين المنتمين إلى هذه المؤسسة في الواجبات أو الحقوق دونما وجه حق.
 
- كذلك عندما يحتل – بطريقة أو بأخرى- موقعًا يتطلب امتلاك معارف أو قدرات تفوق معارفه وقدراته، وهو ما يعني أنه لن يستطيع أن يضطلع بعمله بالكفاءة المطلوبة، مما يؤدي إلى ضعف قدرة القطاع الذي يقوده في هذه المؤسسة على إنجاز الدور المنوط به، على نحو قد يضعف أداء المؤسسة برمتها، ويضعف من ثم قدرتها على المنافسة، ربما بصورة تهدد قدرتها على البقاء. 
 
- كما يتجلى عندما يقبل أن يحتل موقعًا يتطلب إنجاز مهامه على الوجه الأكمل معارف ومهارات متطورة يتراخى هو في اكتسابها إذا ما كان هناك إمكانية لاكتسابها، أو تراخى - سلفًا - في اكتسابها عندما كان على مقاعد الدراسة، مما يؤثر على كفاءته في الاضطلاع بهذه المهام، وهو ما يخلف نتائج سلبية مباشرة، أو غير مباشرة، عاجلة أو آجلة على المؤسسة، أو على عملائها دونما ذنب اقترفوه.
 
 - كذلك يتجلى عندما يُسهم في تجاوز مؤسسته أو جماعته لحدود العدالة في تعاملها مع غيرها(الأفراد أو المؤسسات أو الجماعات أو المجتمعات)،على النحو الذي يحقق مصالحها على حساب مصالحهم، مما يلحق ضررًا حالًا أو لاحقًا بهم، دونما ذنب اقترفوه.  
     
- كما يتجلى عندما يُحرض الأفراد الذين يشكلون لبنات هذه المؤسسة، أو بعض  وحداتها، أو المؤسسة برمتها – ممثلة في قيادتها- على ارتكاب فعل يتخطى حدود العدالة، ضد طرف ما داخل المؤسسة أو خارجها، أو عندما يُسهم في تيسير ارتكاب هذا الفعل، أو غض الطرف عنه. طمعًا أن يعود عليه نفع ما في النهاية، أو سعيًا لدفع ضرر محتمل يمكن أن يصيبه.( )
   
- كما يتجلى أيضًا عندما يحث اأيفراد الذين يشكلون لبنات هذه المؤسسة، أو بعض وحداتها، أو قيادة المؤسسة برمتها، على عدم مد يد العون لطرف أو أطراف ما، تحتاج هذا العون... أملًا أن يعود عليه من منع الخير عن هذا الطرف نفع ما. 
 
- كما يتجلى في تقصيره في حث الأفراد(اللبنات الأخرى في المؤسسة التي ينتمي إليها) أو وحدات المؤسسة، أو المؤسسة ككل(ممثلة في قيادتها) على تحري العدالة في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، وفي تعاملات المؤسسة مع عملائها، ومع المؤسسات أو الجماعات الأخرى، بل ومع منافسيها، بل ومع أعدائها، مما يُعرض لبنات المؤسسة، أو وحداتها، وربما المؤسسة برمتها، بل وربما عملاء المؤسسة أو المؤسسات الأخرى، أو المجتمع بأسره لظلم جلي، على قدر ما تم خرقه هنا من قواعد العدالة. حتى لو لم تتبدد  نتائج ذلكم في الأمد القريب.
 
 تلكم أمثلة سريعة لتجلي آثار غلبة الفطرة الحيوانية على سلوك  عمرو، سواء بوصفه كائنًا مستقلًا، أو بوصفه عضوًا في جماعة أو مؤسسة ما من جماعات ومؤسسات المجتمع الذي ينتمي إليه.
 
وفي كل تلكم الحالات التي يتخطى فيها عمرو حدود العدالة مع الآخرين من حوله، ساعيًا لتحقيق مصالحه الذاتية على حساب مصالحهم، يصبح  الوصف الذي ينطبق عليه هو أن فطرته لا تغاير في فاعليتها هنا فطرة الحيوانات في شيء. كما أن حدود فاعلية عقله لا تغاير هنا حدود فاعلية عقل الحيوان في شيء. وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذا كانت فاعلية عقل وفطرة صاحبنا عمرو لا تغاير حدود فاعلية عقل وفطرة الحيوان...فهل يتبقى له - حينئذ- من إنسانيته شيء؟!!    
 
وإذا ما جادل أحد أن وصفنا سلوك عمرو بأنه سلوك ينتمي إلى الفطرة الحيوانية يبدو وصفًا يتسم بالقسوة.. وأنه وصف يحمل إهانة لذلكم المخلوق الذي كرمه ربه.. فإنا نقول له: إن القرآن الكريم قد وصف أُناسًا استغرقتهم الفطرة الحيوانية التي تسعى لحيازة ما يلبي رغباتها وشهواتها حتى أعمت عقولهم وأبصارهم، وأصمت آذانهم عن الإيمان بربهم الذي يأمرهم أن يكونوا عادلين رحماء، فأبعدتهم عن فطرتهم الإنسانية العاقلة العادلة التي تهديهم إلى الإيمان بربهم.. وصفهم  مرة بأنهم كالأنعام ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179)
 كما وصفهم مرة أخرى بأنهم شر من يدب على الأرض﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (الأنفال:22 ) وفي موضع آخر من نفس السورة آية 55﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.  
 
وهو ما يعني أن هؤلاء الناس لم ينتفعوا بما وهبهم الله من نعم كرمهم وفضلهم بها- يأتي العقل في مقدمتها- على كثير من خلقه تفضيلًا ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء:70) ولم يحسنوا استغلال ما وهبهم الله تعالى من سمات فطرية متفردة منحها إياهم جعلت القرآن يصفهم ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ (التين:4) وإنما هبطوا إلى سلوك يليق بفطرة كائنات أدنى- على نحو جعلهم يستحقون أن يردوا إلى أسفل سافلين﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ (التين:5) 
 
وثمة سؤال يثار  هنا هو.. كيف نفسر تجاوز صاحبنا عمرو حدود العدالة في قوله أو فعله أو شعوره نحو غيره، بصورة تجعل سلوكه من ذلك النوع الذي تسمح باقترافه فطرة أخرى، هي الفطرة الحيوانية؟! 
 
ويمكن الإجابة عن هذا التساؤل أن ثمة عللا ثلاث تسهم في تفسير ذلك ألا وهي: 
 
العلة الأولى :غلبة نزعة المصلحة الذاتية القاصرة والعاجلة لديه- لهوى أو شهوة أو رغبة ما- على نحو  يجعل عقله  تحت إلحاحها لا يغاير في شيء – في طبيعة الدور الذي يقوم به هنا- عقل الحيوان الذي يفكر في تحقيق الهدف اللحظي لصاحبه، دون أدنى التفات للآثار السلبية التي قد يخلفها هذا الفعل على الآخرين حينها، أو على نفسه في وقت لاحق. 
 
العلة الثانية: وتتجلى في اختلال أو قصور معايير العدالة التي يهتدي بها عقل عمرو - عند امتلاكه فطرة سوية- على نحو لا يُمكّنه من ممارسة هذه العدالة مع غيره كما ينبغي أن تُمارس، وهو ما يمكن أن نلمس له مثالًا واضحًا  في رؤية  كل واحد منا  أن ثمة حق له أن يمتلك مقومات الحياة الرغيدة في المسكن والملبس والمأكل والمشرب والمركب.. وخلافه، دون أن يرى وجوب اجتهاده هو أيضًا في أن يقدم للوجود مقابلًا عادلًا يوازي جهد البشر  الآخرين الذين يكدحون لتوفير هذه المقومات له. 

العلة الثالثة: تضخيم المرء منا لذاته وبكل ما يتعلق بها، واستغراقه في مشاعره هو، ورغباته هو، ومصالحه هو؛ على نحو يجعل إدراكه لمشاعر الآخرين ورغباتهم، وكل ما يتعلق بهم إدراكًا باهتًا لا يكاد يكون له من شعوره نصيب.. وهو الأمر الذي يجعل أي ضرر يصيبه من قِبلهم يمثل لديه أمرًا جللًا.. بينما إذا ما أصابهم هو بذات الضرر، فهو أمر لا يكاد يُدرك له أثرًا، أو يلقي له بالًا.. ناهيك عن تلكم الحجج التي يُقنع بها نفسه، ويسوقها لإقناع الآخرين بأن ما فعله ويفعله معهم؛ هو دائمًا أمر لا يقدح في عدالته قيد أنملة.    
 
وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج صارخة لخروج البعض عن الفطرة السوية العادلة؛ على نحو يجعل أصحابها ينتمون إلى زمرة  المفسدين في الأرض فيقال لهم: انتهوا عن فسادكم.. فلا يكون ردهم بالاكتفاء بنفي تهمة الفساد عن أنفسهم بأنهم ليسوا مفسدين. وإنما يردون-عن قناعة راسخة- لديهم بقولهم: إنما نحن مصلحون.. فيُثبت لهم القرآن الكريم صفة الفساد، إلا إنه يقرر في الآن نفسه أنهم لا يشعرون أنهم بالفعل مفسدون  ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12﴾ (البقرة).
 
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة