البُرْهان‭ ‬المُهَاجر‭ .. !‬- حمزة بن فايع الفتحي

وكأن‭ ‬الهجرة‭ ‬توحي‭ ‬دائماً‭ ‬بضرورة‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬قلبا‭ ‬ومشاعراً،‭ ‬بحسن‭ ‬التوحيد،‭ ‬وعملا‭ ‬بترك‭ ‬الذنوب،‭ ‬وجهادا‭ ‬بالتباعد‭ ‬عن‭ ‬ميلان‭ ‬النفس،‭ ‬وبدناً‭ ‬ساعة‭ ‬الأذى‭ ‬والاضطهاد
 
 
 
•‭ ‬شعَّ‭ ‬النور‭ ‬من‭ ‬مكة،‭ ‬وبزَغت‭ ‬شموسه‭ ‬في‭ ‬جنَباتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬البرهان‭ ‬المحمدي‭( ‬قد‭ ‬جاءكم‭ ‬برهان‭ ‬من‭ ‬ربكم‭) ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام،‭ ‬فتأثر‭ ‬به‭ ‬أقوام،‭ ‬وهُرِع‭ ‬إليه‭ ‬الضعفاء،‭ ‬وخاف‭ ‬منه‭ ‬الزعماء،‭ ‬وخلال‭ ‬بضع‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭ ‬كان‭ ‬المتنفس‭ ‬السرية‭ ‬والتهدئة،‭ ‬وعدم‭ ‬إثارة‭ ‬المشركين‭  ‬ {كفوا‭ ‬أيديكم‭ ‬وأقيموا‭ ‬الصلاة} ‭  ‬ [سورة‭ ‬النساء] ‭ . ‬
 
•‭ ‬وفتح‭ ‬آفاقا‭ ‬لهم‭ ‬إلى‭ ‬الحبشة‭ ‬مرتين،‭ ‬فقَووا‭ ‬،‭ ‬واطمأنوا‭ ‬على‭ ‬دينهم‭ ‬ونفوسهم،‭ ‬ولكنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الأرض‭ ‬المناسبة‭ ‬للتأسيس‭ ‬الدعوي،‭ ‬والانتشار‭ ‬الإسلامي‭...! ‬
 
•‭ ‬ثم‭ ‬جاء‭ ‬الأمر‭ ‬الإلهي‭ ‬باختيار‭ ‬مكان‭ ‬أكثر‭ ‬أمانا،‭ ‬وسلامة‭ ‬للدعوة،‭ ‬وفيهم‭ ‬الأبطال‭ ‬والأنصار‭ ‬المنتظرون‭ ...! ‬
 
•‭ ‬فاضطر‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬للمغادرة‭ ‬والخروج‭ ‬متخفيا،‭ ‬حفاظا‭ ‬على‭ ‬الدعوة،‭ ‬ورجاءة‭ ‬الظفر‭ ‬بالمكان‭ ‬المناسب‭ ‬والأقوام‭ ‬المخلصين‭...‬‭.! ‬
 
•‭ ‬وصلة‭ ‬المرء‭ ‬بوطنه‭ ‬عميقة‭ ‬جدا،‭ ‬ولذلك‭ ‬تأثر‭ ‬عند‭ ‬الخروج،‭ ‬وخالطه‭ ‬الحنين،‭ ‬وأمضه‭ ‬الشوق‭ ‬لمكة،‭  ‬ولولا‭ ‬أن‭ ‬قومك‭ ‬أخرجوني‭ ‬ما‭ ‬خرجت‭ ‬ولكن‭ ‬أمر‭ ‬الله‭ ‬نافذ،‭ ‬وما‭ ‬باليد‭ ‬حيلة،‭ ‬وكما‭ ‬هو‭ ‬تغليب‭ ‬للشرع‭ ‬على‭ ‬الطبيعة،‭ ‬هو‭ ‬انتصار‭ ‬للعقل‭ ‬على‭ ‬العاطفة‭ ‬والمشاعر‭ ...! ‬
 
•‭ ‬هاجر‭ ‬البرهان،‭ ‬وجحدته‭ ‬نفوس‭ ‬المشركين،‭ ‬مع‭ ‬استيقان‭ ‬قلوبهم‭ ‬بصدقه،‭ ‬واختار‭ ‬الله‭ ‬له‭ ‬الخيرة‭ ‬الطيبة‭ ‬وأبدله‭ ‬يقوم‭ ‬آخرين‭...! ‬
 
•‭ ‬وانغلقت‭ ‬نفوسهم‭ ‬عن‭ ‬رؤية‭ ‬البرهان‭ ‬،‭ ‬وضيعوا‭ ‬الفرصة‭ ‬التاريخية،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ستقلدهم‭ ‬عقود‭ ‬الشرف،‭ ‬وتلبسهم‭ ‬معاطف‭ ‬العلياء‭...! ‬
 
 
 
•‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬برهانا‭ ‬ساطعا‭ ‬بالنور‭ ‬الذي‭ ‬معه،‭ ‬والحجة‭ ‬التي‭ ‬حملها،‭ ‬والسيرة‭ ‬التي‭ ‬سجلها،‭ ‬والحق‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬منه‭( ‬وأنزلنا‭ ‬إليكم‭ ‬نوراً‭ ‬مبينا‭ ) ‬سورة‭ ‬النساء‭ . ‬
 
•‭ ‬فمن‭ ‬يسمع‭ ‬قرآنه،‭ ‬أو‭ ‬يصغي‭ ‬لتلاوته،‭ ‬أو‭ ‬يشهد‭ ‬درسه‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬خشوعا‭ ‬وخضوعا،‭ ‬حتى‭ ‬إن‭ ‬المشركين‭ ‬لسجدوا‭ ‬حينما‭ ‬سمعوا‭ ‬سورة‭ ‬النجم‭ ...‬ {فاسجدوا‭ ‬لله‭ ‬واعبدوا} ‭  ‬وفِي‭ ‬صحيح‭ ‬البخاري‭ ‬قال‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ : ‬ «إن‭ ‬النبي‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬سجد‭ ‬بالنجم،‭ ‬وسجد‭ ‬معه‭ ‬المسلمون‭ ‬والمشركون‭ ‬والجن‭ ‬والإنس» ‭ . ‬
 
•‭ ‬وبراهين‭ ‬دعوته‭ ‬لا‭ ‬تنقضي‭ ‬صدقا‭ ‬وحسنا‭ ‬وجمالا،‭ ‬وإقناعا‭ ‬،‭ ‬تلحظ‭ ‬في‭ ‬كلامه،‭ ‬وتلوح‭ ‬في‭ ‬خطبه،‭ ‬وتُشاق‭ ‬من‭ ‬أدبه‭ ‬وأخلاقه‭  ‬ {وإنك‭ ‬لعلى‭ ‬خلق‭ ‬عظيم} ‭  ‬ [سورة‭ ‬القلم] ‭ . ‬
 
•‭ ‬لكنّ‭ ‬هذا‭ ‬البرهان‭ ‬شق‭ ‬على‭ ‬قريش‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬الملأ‭ ‬منهم،‭ ‬أن‭ ‬يرضوا‭ ‬به،‭ ‬ويدعوا‭ ‬دينهم‭ ‬وإرثهم‭ ‬التخلفي‭ ‬المعروف،‭ ‬فأعرضوا‭ ‬واستكبروا‭...! ‬
 
•‭ ‬فآثروا‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬المدينة،‭ ‬فعرفوه‭ ‬وتشبثوا‭ ‬به،‭ ‬وبادروا‭ ‬بالإسراع‭ ‬إليه‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تدركه‭ ‬اليهود،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬تهددهم‭ ‬به‭..! ‬
 
•‭ ‬وهنا‭ ‬يُساق‭ ‬للبرهان‭ ‬قومٌ‭ ‬جدد،‭ ‬وفئامٌ‭ ‬نُبل،‭ ‬وأنصار‭ ‬صُبر،‭ ‬يحبونه‭ ‬ويفرحون‭ ‬به،‭ ‬وقد‭ ‬استعدوا‭ ‬بالنصرة‭ ‬والترحيب،‭ ‬واحتمال‭ ‬كل‭ ‬التبعات،‭ ‬كما‭ ‬تجلى‭ ‬ذاك‭ ‬في‭ ‬بيعة‭ ‬العقبة،‭ ‬والعهود‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬أخذوها‭ ‬على‭ ‬نفوسهم‭ ..! ‬
 
•‭ ‬وإنما‭ ‬كابرت‭ ‬قريش‭ ‬بسبب‭ ‬ميراثها‭ ‬الجاهلي،‭ ‬وأعرافها‭ ‬التخلفية‭ ‬المتصلبة‭ ‬،‭ ‬وإلا‭ ‬فقد‭ ‬سطع‭ ‬أمامها‭ ‬البرهان‭ ‬المحمدي‭ ‬بحججه،‭ ‬وأزال‭ ‬عنهم‭ ‬لوثتهم‭ ‬بدلائله،‭ ‬ولكنها‭ ‬المكابرة‭ ‬العمياء،‭ ‬والعقيدة‭ ‬الجاهلية‭ ‬البهلاء‭..! ‬فأبى‭ ‬السادة،‭ ‬وعاند‭ ‬الملأ‭ ...! ‬ {أتواصوا‭ ‬به‭ ‬بل‭ ‬هم‭ ‬قوم‭ ‬طاغون} ‭  ‬ [سورة‭ ‬الذاريات] ‭. ‬
 
•‭ ‬وأما‭ ‬الضعفاء‭ ‬فلاح‭ ‬لهم‭ ‬البرهان‭ ‬مضيئا‭ ‬،‭ ‬وأشرقت‭ ‬الحجج‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬فما‭ ‬فرّطوا‭ ‬في‭ ‬الفرصة،‭ ‬ولا‭ ‬أضاعوا‭ ‬الغنيمة‭ ‬المنجية‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الرّق‭ ‬والاستعباد‭ ‬والهوان‭..! ‬
 
 
 
•‭ ‬وظهرت‭ ‬براهين‭ ‬صدقه‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬فلقد‭ ‬نجاه‭ ‬الله‭ ‬من‭ ‬المقتَل‭ ‬في‭ ‬الفراش،‭ ‬وحماه‭ ‬من‭ ‬البطش‭ ‬في‭ ‬الغار،‭ ‬وتعرقل‭ ‬الفرسان‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬وشاهدته‭ ‬أم‭ ‬معبد‭ ‬الخزاعية‭ ‬فانبهرت،‭ ‬فما‭ ‬شكوا‭ ‬أنه‭ ‬صاحب‭ ‬قريش‭ ‬الطريد،‭ ‬وسموه‭  ‬الرجل‭ ‬المبارك‭ .
 
•‭ ‬وطابت‭ ‬المسيرة،‭ ‬ونجحت‭ ‬الهجرة‭ ‬بسبب‭ ‬صدق‭ ‬الدعوة،‭ ‬وسلامة‭ ‬النية‭ ‬،‭ ‬وطهارة‭ ‬قلب‭ ‬صاحبها،‭ ‬وأنه‭ ‬يريد‭ ‬الله‭ ‬والدار‭ ‬الآخرة‭...! ‬
 
•‭ ‬خلّف‭ ‬أهله‭ ‬وبنيه‭ ‬وأمواله،‭ ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬صحابته‭ ‬المهاجرون،‭ ‬فعوضهم‭ ‬الله‭ ‬خيرا،‭ ‬ومكن‭ ‬لرسوله،‭ ‬فانتشرت‭ ‬دعوته،‭ ‬وأينعت‭ ‬أخلاقه،‭ ‬وتغازرت‭ ‬بركاته،‭ ‬والتهب‭ ‬البرهان‭ ‬قوة‭ ‬وإضاءةً‭ ‬،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬العرب‭ ‬العرباء،‭ ‬إلا‭ ‬الاستجابة‭ ‬والاندهاش‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النور‭ ‬المبين،‭ ‬وهذا‭ ‬البرهان‭ ‬المتين‭...!‬
 
•‭ ‬وتطيّبَ‭ ‬الطيبُ‭ ‬الخصيبُ‭ ‬بطيبةٍ‭// ‬وتصاعدت‭ ‬للمجد‭ ‬والأسفارِ‭ ‬
 
هاجر‭ ‬ففي‭ ‬الهجر‭ ‬البعيد‭ ‬خزائنٌ‭// ‬ومفاتحٌ‭ ‬جلت‭ ‬عن‭ ‬الإقصارِ
 
هاجر‭ ‬تجد‭ ‬قوماً‭ ‬كراما‭ ‬لم‭ ‬تجِد‭// ‬أشباهَهم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأنصار‭ ‬
 
•‭ ‬هاجر‭ ‬فدينُ‭ ‬الله‭ ‬ينظر‭ ‬ما‭ ‬جرى‭// ‬ويُجيركم‭ ‬من‭ ‬محنةٍ‭ ‬وقَتارِ‭ ‬
 
•‭ ‬وكأن‭ ‬الهجرة‭ ‬توحي‭ ‬دائماً‭ ‬بضرورة‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬قلبا‭ ‬ومشاعراً،‭ ‬بحسن‭ ‬التوحيد،‭ ‬وعملا‭ ‬بترك‭ ‬الذنوب،‭ ‬وجهادا‭ ‬بالتباعد‭ ‬عن‭ ‬ميلان‭ ‬النفس،‭ ‬وبدناً‭ ‬ساعة‭ ‬الأذى‭ ‬والاضطهاد،‭ ..! ‬
 
•‭ ‬لأنها‭ ‬صارت‭ ‬حدثا‭ ‬مفصلياً،‭ ‬شكل‭ ‬تاريخ‭ ‬الأمة‭ ‬وكيانها‭ ‬وهويتها،‭ ‬وطويت‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬بسببها‭ ‬وآثارها،‭ ‬وانتقل‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬الصلاة‭ ‬والسلام‭ ‬عقيبها‭ ‬من‭ ‬التهدئة‭ ‬إلى‭ ‬الاستعداد،‭ ‬ومن‭ ‬السلم‭ ‬إلى‭ ‬الحرب،‭ ‬ومن‭ ‬المداراة‭ ‬إلى‭ ‬المواجهة‭ ‬،ومن‭ ‬القلة‭ ‬إلى‭ ‬الكثرة‭ ‬والعزة،‭ ‬فكانت‭ ‬غزوة‭ ‬بدر‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬ذلك‭ ‬التاريخ‭ ‬المجيد،‭ ‬والتي‭ ‬أدبت‭ ‬قريشا‭ ‬واليهود،‭ ‬وأرعبت‭ ‬القبائل‭ ‬المجاورة،‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭ ‬والمنة‭....! ‬