نصيف يغني عن ألوف!-أحمد بن عبد المحسن العساف

ولأنّه رجل دولة جمع العلم، والعمل، والأمانة، والبعد عن التّكلف، فقد رزقه الله القبول والمحبة
 
 
يرقد في أحد مشافي لندن جسد نحيل يحمل همّة عالية، وشيخ تجاوز الثّمانين بيد أنّه لم يشعر بها حتى دهمه المرض جملة واحدة، وعلى ذلكم السّرير الأبيض تغفو عيون وجه صبوح مشرق، يصف قلبًا صافيًا، وروحًا سامية، ولا يكاد أحد يبصر هذا الرّجل الأبيض في صورته، وقلبه، وسيرته، حتى يساكن فؤاده، ويستولي على مجامع نفسه، فهنيئًا له المحبة، والثّناء المتواتر، والقبول العريض. 
 
ذلكم هو معالي د. عبد الله بن عمر بن محمّد بن حسين نصيف، سليل الأسرة الماجدة، وحفيد العالم السّلفي الكتبي المضياف الكبير الشّيخ محمّد بن حسين نصيف، الذي فتح بسماحة نفس، وسعة صدر، بيته ومكتبته للوفود من أرجاء العالم الإسلامي، فقلّما يخلو البيت الكبير في جدّة من وفود، وأضياف، ويندر أن يأتي أحد من الأعلام إلى مكة دون أن يعبر بهذا البيت المنيف قارئًا، ومستفيدًا، ومفيدًا، وطاعمًا.
 
وفي جنبات هذه الدّار الكريمة، عاصر نصيف الحفيد الأجواء المحاطة بجلال العلم، وعظمة الجهاد، وفخامة الأدب، وهيبة السّلطان، وما أضخم بركة المجالس المفتوحة العامرة بالأكابر من أهل التّأثير والشّؤون التي تبني العقول، وتنقل التّجارب، وتصنع الرّجال، وتذكي الحماسة، وإنّ آل نصيف ومواضعهم لمثال عملي شاهد على هذه البركة المتنامية.
 
وشيخنا بار بوالديه وجدّه، محب لزوجه، بارع في تربية بنيه والقرب منهم، حنون على الآخرين، حادب على المصالح العامة، ويحب أن يفعل الآخرون ذلك، ويعينهم على الإحسان، فحين طلب موظف صغير شفاعته للحصول على إجازة كي يصاحب والدته في سفرها وافق مباشرة، وزاد أيّام الإجازة، ولام مديره المباشر على تعسفه بالرّفض.
 
كما أنّه شغوف بالعلم والتّعليم والقراءة، ويعتني بالطّعام الصّحي، والمشي، وأداء الرّياضات الهوائيّة والمائيّة، وله موقف صارم رافض للسّهر، فلا يتجاوز التّاسعة ليلًا ولو كان في محفل رسمي، فيحضر بداية الحفل؛ ثمّ يستأذن وينصرف، وذات مرّة بعد استئذانه من حفل جائزة الملك فيصل، وجد سيّارات واقفة خلف سيّارته، فركب مع سيّارة مطعم الحفل التي سعد سائقها بإيصاله لبيته.
 
ومن أبرز سماته التي يشهد بها كلّ من عرفه تواضعه الشّديد، وهضمه لنفسه حتى لا يرى لها واجبًا، فيقف مع غيره في الصّف منتظرًا ترتيبه، ويغسل ملابس مرافقيه في الوفود مع أنّه من أكبرهم عمرًا وقدرًا، ويصرّ على ذلك لدرجة المغالبة. وذات مرّة تفاجأ العاملون في الحقل الخيري ببلد أفريقي بخبر وجوده؛ حيث جاء على حسابه الخاص لمتابعة عمل للأيتام، ورفض أيّ استضافة فخمة، ولم يجب دعوات الغداء أو العشاء.
 
ومن معالم نظامه التزامه بالوقت، ومحافظته على الجدّية في العمل حتى وهو صائم، فيشارك صباحًا في جلسات الشّورى، ويجتمع بعد العصر مع وفد ينتظره، ويقابل بعيد المغرب أمير الرّياض، ويلتقي مع سفير بعد العشاء، ولم يطعم خلال هذه الأعمال سوى بضع تمرات مع رشفة ماء، وذلكم هو نشاط الرّوح المؤمنة التي تؤدي ما عليها حتى في أيّام العيد التي يقضي بعضها مسافرًا من أجل إتمام عمل خيري دون أن يشعِر أحدًا.
 
وخلال تسنّمه منصب مدير جامعة الملك عبدالعزيز، لم ينقطع عن إلقاء المحاضرات، وكان قريبًا من الطّلاب وصغار الموظفين، ومن أسمى مواقفه في عشاء عقب حفل جامعي، حين اصطف الموظفون لترتيب المشاركين، وتوجيه أصحاب المشالح والوجاهة والمناصب إلى أحسن موضع، وطرد غيرهم إلى أماكن أخرى، حتى أغلظ أحد كبار الموظفين على المراسلين والسّائقين، ونهرهم مشيرًا إلى مكان قصي لهم، فتفاجأ الجميع بأنّ مدير الجامعة د. عبدالله نصيف يتحرك بهدوء، ويجلس مع أولئك الضّعفة المطرودين بزمجرة عابسة من متكبّر متغطرس!
ولا يتشبّث صاحب المعالي الحقيقية بالمناصب، فبعد نهاية دورة مجلس الشّورى الأولى، استعفى من منصب نائب رئيس المجلس؛ لأنّه أدّى ما يستطيعه خلال السّنوات الأربع، ويرغب في إتاحة الفرصة لغيره، بيد أنّ الملك سلمان أصر عليه للتّمديد-وكان أميرًا للرّياض حينها-، فوافق آملًا أن يكون التّمديد لفترة واحدة فقط، وحين غادر المجلس فزع إليه الموظفون للتّوديع، وقال له أحدهم: نلقاكم في منصب آخر! فأجاب: لعلنا أن نلتقي في الجنّة!
وخلال عمله في المجلس، لم يمض شهر دون إطلاق سجين، أو علاج مريض، أو تنفيس كربة، واستقبل مكتبه من الملوك، والأمراء، والأثرياء، مبالغ كبيرة ثقة به وبنزاهته. ولم تنحصر فضائله على مواطنيه، فقبيل موسم حج وردته استغاثة من ألف حاج وصلوا إلى دبي من آسيا الوسطى، وتعرضوا لخداع الشّركة المتعاقد معها؛ فأصبحوا عالقين في مكانهم، وقلوبهم تهفو لمكة وبيتها ومشاعرها، فتوجّه نصيف مباشرة إلى الملك فهد؛ الذي أمر ديوانه بتسهيل إصدار تأشيرة هؤلاء الحجّاج، ونقلهم بطائرات خاصّة، واستضافتهم في مكة والمشاعر، فتحقّقت لألف حاج أكبر أمنياتهم برفاهيّة بالغة بعد أن أدركهم اليأس، والفضل بعد الله يعود لهذا الإنسان المبارك.
 
وبعد أن وقع حريق منى الفاجع عام 1417، انشغل المسؤولون بالقضايا الأمنيّة، والصّحيّة، وتوفير الخيام، وغير ذلك مما يوجبه التّعامل العاجل مع أزمة كبيرة طارئة، لكنّ د. عبدالله نصيف لم يغفل عمّا أصاب الحجيج من خسائر جرّاء احتراق أمتعتهم وفيها الأموال والملابس وغيرها، فكتب للملك فهد طالبًا منه صرف إعانة عاجلة استثنائيّة للمتضررين، وهو ما كان فأسعد أولئك المكلومين؛ وخفّف مصابهم، لأنّها وصلتهم مباشرة بعيدًا عن الإجراءات المعقدّة المترافقة مع صرف الأموال.
 
ومن أعجب القصص، أنّ د. نصيف اصطحب معه الشّيخ د. عبدالله المصلح، وركبا طائرة خاصّة للوجيه إبراهيم الأفندي وهو ثالثهم، وسافروا إلى أوغندا، وحين هبطت الطّائرة في المطار، وجدوا الآف المسلمين في استقبالهم ما بين مكبّر، ومهلّل، وضارب على الطّبل، وكانوا قد علموا بقدوم معاليه من أحد زعماء العمل الإسلامي هناك، وتدفقت الجموع مع الموكب، ورافقته بترحيب صادق حتى وصل إلى مقر إقامته على بعد أزيد من سبعة أكيال عن المطار.
 
وفي المساء، ذهب الوفد لمقابلة الرّئيس يوري موسفيني، وحين دخلوا عليه وهو المهيب المخيف، انقلب الوجيه البهيج د. نصيف من رجل أليف وادع، إلى أسد شجاع لا يخشى في الله لومة لائم، وخاطب الرّئيس بلا تلجلج، وأخبره أنّه يمثل أكثر من مليار مسلم، وقد آلمهم ما حدث لمسلمي أوغندا، ولهم ثلاث مطالب لن يتراجعوا عنها، وهي إعلان العفو العام، وإطلاق سراح ألفي عالم وداعية على الفور، وفتح مكتب لرابطة العالم الإسلامي مع منحه تسهيلات مماثلة للمؤسسات التّنصيريّة، ولم يغادر الوفد أوغندا إلّا عقب تنفيذ هذه المطالب.
 
ولأنّه رجل دولة جمع العلم، والعمل، والأمانة، والبعد عن التّكلف، فقد رزقه الله القبول والمحبة، وكان الملك فهد يرفض ملحوظات المؤسسات الرّقابية على اجتهاداته، ويأمر بحفظها معلّلاً رأيه بأنّ مثل نصيف لا يلحقه الشّك، ونال منزلة رفيعة لدى الملك فهد لدرجة تلبية طلباته ولو كانت في وقت ضيّق، أو حال حرجة كما سبق ذكره.
 
وحين أغمي عليه ودخل المستشفى تفاجأ بأنّ الملك عبدالله أوّل متصل للاطمئنان عليه، مع أنّه حينها بلا منصب رسمي، وعارضه الصّحي كان قصيرًا ولم يعلم به أحد. ومن الّلافت أنّ الدّعوات الرّسميّة التي تصله، تختم بكلمات مكتوبة يدويًا، تأمل ألّا يعتذر معاليه، ويفسّر الدّاعي أحيانًا طلبه بكونها رغبة الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا وكان هو ضيف تلك الأمسية، وهو حريص على حضور صاحب المعالي والنّفس الزّكيّة.
 
ومع أنّ الرجل تقلّد مناصب عالية، وخدم في قطاعات عدّة، وفاز بجوائز وأوسمة، إلّا أنّه كان أكبر من هذه المظاهر الدّنيويّة، ففي داخله جوهر نفيس نادر، نحسبه ممن يرجو الله والدّار الآخرة، ويسعى لخدمة البلد وأهله، ونفع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فالعمل الخيري يعيش معه حيثما ذهب، ولعلّه ممن اجتهد لتكون صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله ربّ العالمين، فالّلهم وقد منحته البهاء، والنّضارة، والمحبة، وطول العمر، تقبّل منه، واحفظ عقبه وآله، واكتب له ختام الصّالحين الأبرار.
 
ولا تخلو بلادنا المقدّسة، من رجال مثل معاليه، لهم جمال إذا حضروا، وجلال إذا نطقوا، وبهاء إذا صمتوا، ووقار إذا انصرفوا، صنيعهم حكمة، ومشورتهم رشد، ومنطوقهم أنيق، وعتابهم رفيق، ومواقفهم رزينة، ورؤيتهم بعيدة، ومعارضتهم حكيمة، وموافقتهم صادقة، فبهم نفخر، وبهم تسعد البلاد، وتقوى، فهم كالرّائد الذي لا يكذب أهله، ولا يغشهم، ولا يسوق إليهم غير المكارم والمحامد.
 
 




آخر إضافات الموقع

الأكثر مشاهدة